شهد المجتمع السوداني تحولات اجتماعية مصاحبة للتحول السياسي المتمثل في قيام انتفاضة ديسمبر (كانون الأول) 2018، إذ توجهت كل الإمكانات نحو التغيير الشامل لما ترسخ طوال عهد النظام السابق من وضعه قوانين اعتُبرت معوقة للمرأة، ووقوفه في وجه اتفاقات كان من شأنها الإسهام في تمكين المرأة والمحافظة على حقوقها، ومنها اتفاق إنهاء أشكال التمييز كافة ضد المرأة (سيداو).
وتحولت المواجهة في ظل النظام السابق بين مؤسسات فقهية سودانية منسوبة للنظام وبين منظمات المجتمع المدني وناشطات حقوقيات، مما حول الجدل إلى معركة "أيديولوجية" اكتست بإهاب الدِين، صورها النظام السابق بأنها "مساس بقداسة المجتمع وكرامته".
تنازل النظام السابق عن موقفه أمام ضغط غربي بأن امتناعه عن الانضمام لمعاهدات دولية حقوقية بينها "سيداو"، وميثاق المحكمة الجنائية الدولية، من شأنه عرقلة انضمام السودان لمنظمة التجارة العالمية، فدفعت وزارة العدل بمقترح المصادقة على "سيداو" للبرلمان السوداني، مع التحفظ على بعض البنود، ولكن وقفت هيئة علماء السودان المنتمية للنظام لهذا التحرك بالمرصاد.
رهان حقوقي
إعلان الحكومة الانتقالية عزمها التوقيع على اتفاق القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو) لاقى استحساناً وسط المجتمع السوداني وقطاعات المرأة، وبشكل خاص وسط الناشطات النسويات اللواتي ناضلن طوال ثلاثة عقود ضد النظام السابق، إذ أعربت الحقوقيات منهن في جلسات مشاورة وعدد من الندوات والاجتماعات الفكرية، أن رفض الحكومة السابقة التوقيع على الاتفاق غير مبرر.
وأوضحت الناشطة الحقوقية والمحامية سامية الهاشمي أن "البنود الواردة في الاتفاق وتحفظت عليها الحكومة السابقة لا تخالف الشريعة الإسلامية، خصوصاً المادة (16) التي تتحدث عن حق المرأة في الطلاق كما الرجل". وراهنت حقوقيات وناشطات عدة على أن تصبح "سيداو" مرجعية لتحويل الالتزام السياسي على مستوى عال لتغيير المواقف تجاه البرنامج الاقتصادي والاجتماعي والقانوني ودور الإعلام.
استحقاق ديمقراطي
وباعتبارها أحد نصوص الوثيقة الدستورية، فذلك يضفي على المصادقة على اتفاق "سيداو" شرعية دستورية تجنب الحكومة الانتقالية مواجهة الأصوات المناهضة، ولكن يُثار الجدل حول مدى مقدرتها على الإيفاء والالتزام بمبادئ الاتفاق وإنزالها إلى أرض الواقع.
من جانبها، أوضحت عضو اللجنة المركزية لـ "الحزب الشيوعي السوداني"، نعمات كوكو أن "المصادقة على "اتفاق سيداو" فقدت المدى الزمني لها، إذ إنه من المفترض أن تتم قبل فترة طويلة، وهو استحقاق ديمقراطي للمرأة في ظل الفترة الانتقالية، إذ يستلزم الجو العام اتساقاً يتناسب مع دور المرأة وما قدمته في الانتفاضة، فقد كان هناك زخم ثوري يستحق أن يصاحبه استحقاق ثوري ديمقراطي".
وأضافت، "كان أول قرارات الحكومة الانتقالية المصادقة على اتفاق "سيداو"، وذلك لأنها ستساعدها في عملية وضع التشريعات الخاصة بالمرأة، بعد أن تخلصت من القهر الذي لازمها طوال 30 عاماً".
وجاء في الوثيقة الدستورية أنه سيكون هناك التزام بحقوق المرأة وتُعامل كمواطنة، لكن الحكومة ليست جادة في إخراج هذا البند إلى النور بالتوقيع على الاتفاق، ومن ملامح عدم الجدية أن الحكومة وضعت برنامج "اللجنة الوطنية لتعديل القوانين والتشريعات الخاصة بالمرأة"، وعلى الرغم من أهمية هذا البرنامج، إلا أنه قام من دون مرجعية قانونية، كما أن وزارة العدل لم تكن جادة ومتحمسة، لأن البرنامج يحتاج إلى مجهود قانوني كبير، فأصبحت اللجنة من دون رؤية واضحة، ولم نسمع عنها أي أخبار أخرى بخصوص اجتماعات أو عمل في اتجاه التعديل".
وأضافت، "المطلوب الآن إزالة ما تبقى من ثقافة الدولة الدينية التي رسخها النظام السابق، إذ جعلت الحاجة إلى برنامج متكامل كبيرة، وكإحدى نساء الحراك النسائي، أرى أن إمكان مساحات الاتفاق عالية جداً، والمحك هو مواقف الأحزاب، وهي المعيار الحقيقي لسياسة الحكومة المقبلة أو خطاب الأحزاب المستقل".
المصادقة والتغيير
وتؤكد كوكو أنه "على الرغم من أهمية المصادقة على "اتفاق سيداو"، إلا أنني أرى أنه لا يجب أن تكون مجرد المصادقة لضمان مسار الحكومة الانتقالية نحو الانضمام للمنظومة الدولية، ولكن المعضلة هي في مدى التزام الحكومة بمبادئ الاتفاق، وفي رأيي أن الحكومة لن تستطيع الالتزام الكامل، لأن "سيداو" عبارة عن منظومة متكاملة يمثل الجانبان الاجتماعي والثقافي فيها بعداً عالياً، وهي بالتالي تحتاج إلى برنامج كبير يستلزم وجود تخطيط وموارد، فنحن لا نريد المصادقة من أجل المصادقة فقط.
ومن ناحية أخرى، نجد أن التزام الدولة تجاه التعليم والصحة ضعيف جداً، إضافة إلى عودة الحكومة إلى المؤسسات الاقتصادية العالمية، مما يعني رضوخها لشروط المؤسسات الدولية".
وترى أن "رفع الدعم عن الوقود سيخرج صغار المزارعين والمزارعات من دائرة الإنتاج، وكذلك التدهور المتوقع في مجال الصناعات الوطنية نسبة لارتفاع مدخلات الإنتاج، إذ ستكتفي السوق بالبضائع المصنعة الآتية من دول قاعدتها الصناعية متينة، وتوفر سلعاً بأسعار رخيصة مثل الصين وبعض الدول الأفريقية، وهذا من شأنه أن يؤثر في المرأة بشكل مباشر، نسبة لانعدام خطة حكومية واضحة للإنتاج ومقابلة التغيرات الجديدة الناتجة من الاندماج الاقتصادي في المجتمع".
وتضيف، "لا بد للحكومة من ربط المكون الاقتصادي وأثره بالمكون الاجتماعي، وأن ترتبط المصادقة بالتغيير الاجتماعي وفق ضمانات، خصوصاً مع تراجع دور الدولة الاجتماعي، وهذا يفرض التزاماً سياسياً على مستوى عال، إذ إن الفكرة الجوهرية هي مشاركة النساء بجميع فئاتهن الاجتماعية وتعويضهن عن التدهور الذي حدث على مدى 30 عاماً، فاليوم قد نتحدث عن مشاركة المرأة السياسية وفي مجال العمل، وهي ذات سبق تاريخي في هذا المجال، ولكن عندما نأتي للمواجهة نجد أن ربات البيوت هن أول من يواجهن الأزمات الاقتصادية، فينبغي على الحكومة أن تجيب على سؤال ماذا تعني "سيداو" لربات البيوت اللواتي يواجهن الغلاء؟".
فرز سياسي
أما في حال تم التوقيع والمصادقة على اتفاق "سيداو"، بينما لم تستطع الحكومة الإيفاء بالتزاماتها، فتقول كوكو في هذا الشأن "إن المصادقة المجردة غير كافية، ولكنها ستمكن المرأة السودانية من خلال منظمات المجتمع المدني أو أحزابها السياسية كتابة تقارير عن سير الاتفاق، وتضع الدولة في موقع المساءلة الوطنية والإقليمية والدولية، مما يمثل خطوة مهمة في الاتجاه الصحيح، وسيكون على منظمات المجتمع المدني والأحزاب السياسية الحريصة على وضع النساء أخذ هذا التصور في الاعتبار".
وتتوقع "بما أن برنامج الفترة الانتقالية يُعد برنامجاً مرحلياً في إطار استحقاقات ثورية ديمقراطية، فإذا لم تتم هذه الاستحقاقات بعد انتهاء الفترة الانتقالية واستشراف العهد الديمقراطي، ولم تقدم الحكومة برامج لتحسين أوضاع المرأة بحسب الوثيقة الدستورية، واستراتيجية في نهاية الفترة، فسيسهم ذلك في أن يتحول الاهتمام إلى الأحزاب السياسية التي ستكون مطالبة هي الأخرى ببرامجها الخاصة تجاه المرأة، وسيحدث فرز سياسي لأن برامج الأحزاب بخصوص المرأة متفاوتة ومختلفة، لكنها تتفق على المبدأ الأساسي وهو الوعي الثوري ومقدرته على فرز الالتزامات السياسية، وهناك بعض الأحزاب لديها برامج جاهزة، ولكن هل يمكن أن تنعكس على عمل الحكومة من خلال برنامج اقتصادي واجتماعي، إذ نجد كثيراً من الأحزاب التي اندمجت مع الحكومة لم تستصحب برامجها الخاصة بالمرأة".
تفنيد التحفظات
من جهتها، قالت مسؤولة المرأة في "حزب الأمة القومي" فاتن الكاظم، "كانت المشاركة الفاعلة للمرأة السودانية في ثورة ديسمبر نقطة تحول كبير في تاريخ الحركة النسوية في السودان، إذ ناضلت النساء لسنوات طويلة للحصول على حقوقهن، التي يعتبرن أنهن حرمن منها خلال ثلاثة عقود من القهر والعنف، وقانون "النظام العام" سيئ السمعة الذي هضم كل حقوق المرأة عبر نصوص قانونية ظالمة فرضت على المرأة كثيراً من القيود في اللباس والسفر والعمل، وأسست لقهرها".
وتضيف الكاظم، "في ظل حكومة الفترة الانتقالية تأمل المرأة السودانية نيل حقوقها كافة عبر التوقيع على "اتفاق سيداو"، وهو خطوة نحو تطور المجتمعات، إذ إن السودان لا يجب أن يشذ عن دول في محيطه الإقليمي العربي والإسلامي بالتوقيع على الاتفاق".
وأوضحت أن "الإمام الراحل الصادق المهدي زعيم حزب الأمة فند التحفظات التي وضعها النظام السابق حول الاتفاق، وهي التي تضمنتها ستة بنود، وهي المادة (2) التي تقول بحظر التمييز في الدستور، والمتحفظون يريدون التمييز في الدستور. والمادة (7) إلزام الدولة بالقضاء على التمييز ضد المرأة في الحياة السياسية. والمادة (9) حق النساء وأطفالهن في التمتع بالجنسية. والمادة (15) المساواة أمام القانون وإبرام العقود. والمادة (16) المساواة في الحقوق الزوجية وحرية اختيار الزوج، والمادة (29) التحكيم بين الدول المتعاهدة".
وذكرت أن "حزب الأمة بمكوناته المختلفة وبما فيه هيئة شؤون الأنصار، عقد ورش عمل مستفيضة لدرس "اتفاق سيداو" وخرج بتوصيات تأييد لها، وفي حال لم تنجز حكومة حمدوك التزامها ببنود الاتفاق فسوف نضغط كنساء في حزب الأمة باستخدام وسائل التعبير المختلفة من أجل مساءلة الحكومة".
توجسات مصاحبة
يبدو أن التفاؤل الذي أسهم فيه قيام الثورة بأن تجد المرأة حقوقها كاملة، ستصاحبه هذه التوجسات حتى بعد توقيع اتفاقية سيداو والمصادقة عليها، إلى أن يظهر العكس، لذا تستعدّ الناشطات النسويات لاحتمال أن تكتفي الحكومة الانتقالية بالتوقيع كإنجاز تتباهى به، وبوصفها ممهدةً للطريق نحو انضمام السودان إلى منظمة التجارة العالمية والاندماج في المجتمع الدولي. ولذلك تدور في حراك الناشطات الحقوقيات والنسويات مظاهر استعداد لخطة بديلة بتوحيد الأجندة الحزبية الخاصة بوضع المرأة لمحاسبة الحكومة ومخاطبة المجتمع الدولي عبر تقارير عن سير الاتفاقية. وفي هذه الحال، يُتوقَّع أن تكون أقرب الأحزاب إلى الشارع وقضايا وهموم المرأة هي أبعدها عن الحكومة.
ومع عدم التمكن من الحصول على أي تصريحات رسمية تفنّد هذه الدعاوى، أو الإفصاح عما يدور داخل وزارة العدل للإعلام، تنتظر المرأة السودانية ما ستسفر عنه فترة ما بعد التوقيع والمصادقة على "سيداو" ومدى رضاها أو عدمه عما ستحمله لأحلامها وطموحاتها.