بينما كان الرئيس هادي وعدد محدود من معاونيه يسابقون الريح لتجاوز آخر منفذ يمني باتجاه سلطنة عمان في أواخر مارس (آذار) 2015، وقف الرئيس اليمني الشرعي على بعد كيلومترات معدودة تفصله عن مساحة للأمان، والتفت لينظر إلى بلاده قبل ساعات من انطلاق "عاصفة الحزم".
تلك النظرة كانت الأخيرة قبل أن يكمل طريقه في صحراء المهرة بسيارته المدرعة، وصولاً إلى مسقط ومنها إلى الرياض، يحاول من خلالها مع حلفائه ترتيب حلٍّ للبلاد التي تدخل الحرب فيها عامها السادس، نتيجة تعثّر كل محاولات التسوية السلمية التي لم تكن أولها المبادرة التي قدّمتها الرياض، يوم الاثنين، 22 مارس (آذار) من هذا العام.
إلا أن السنوات الست في حساب التاريخ، شهدت تحولات سياسية وعسكرية على نحو درامي متلاحق، حملت في طياتها الكثير من التفاصيل والأحداث، وحتى الخلافات البينية كما هي الحال في معسكر الحكومة الشرعية المفترض بها مواجهة المشروع الحوثي المدعوم من إيران.
هذا الحديث يبرز التساؤل الأهم حول ما حققته هذه الفترة من المنظور الاستراتيجي لكل طرف على الصعيدين العسكري والسياسي، وهو ما سنحاول الإجابة عنه في ما يشبه جردة السنوات الست من ميزان مكاسب الطرفين وخسائرهما.
الجيش في مواجهة الميليشيا
في سلسلة الأحداث التي شهدتها بدايات "عاصفة الحزم"، لا تفوتنا الإشارة إلى أن الحوثي كان قد أعدّ عدّته للانقلاب بميليشيات ظل يدرّبها لسنوات طوال، بلغ تعداد أفرادها نحو 25 ألف مسلح، فضلاً عمّا سيطر عليه من معسكرات الجيش بعد تمدده في المناطق الشمالية منذ 2014، وفقاً لتصريحات حكومية رسمية، لتنطلق "حرب استعادة الشرعية" بشرعية لا تملك ما يكفي من الجنود النظاميين.
وشهدت الأسابيع التي تلتها تشكّل قوة عسكرية لا يمكن الاستهانة بها على الرغم من حداثتها، عُرفت بـ"قوات الجيش الوطني"، بحسب تسمية رسمية أصدرتها وزارة الدفاع، أُنيط بها "حمل السلاح لمواجهة الميليشيات ووضع حدٍّ لانقلابها"، فأحكمت قبضتها على المحافظات اليمنية كافة بقوة الحديد والنار، عدا حضرموت والمهرة وسقطرى، ربما لبعدها الجغرافي.
فبعد أن تمكّنت الميليشيات المتحالفة مع قوات الرئيس السابق علي صالح، ممثلة بقوات الحرس الجمهوري (أعتى أدوات صالح العسكرية) من بسط سيطرتها على كل المحافظات، سعت الحكومة الشرعية والتحالف العربي إلى إنشاء نواة للجيش الحكومي، وتصدّت محافظتا حضرموت ومأرب لهذه المهمة. وخلال أشهر قليلة، كانت المحافظتان قد أرسلتا تعزيزاتهما العسكرية إلى عدد من الجبهات المشتعلة لمساندة "المقاومة الشعبية" التي شكّلها التحالف العربي بقيادة السعودية من الأهالي ورجال القبائل والعشائر وتولّت مواجهة تمدد "الحوثي/ صالح"، في مأرب وشبوة والجوف والبيضاء، كما دعم التحالف، المقاومة الشعبية المناط بها تحرير عدن وأبين ولحج والضالع وشريط الساحل الغربي اليمني، وصولاً إلى مشارف مدينة الحديدة المطلة على البحر الأحمر.
قبضة الحوثي وانقسام الشرعية
وبالحديث عن وضع الطرفين في ميزان المكسب والخسارة بعد هذه الفترة غير القصيرة من الحرب، تراجع الحوثي في محافظات عدة كان يسيطر عليها، وحاول تماسك جبهته الداخلية، بخاصة عقب إطاحته بحليفه صالح وقتله في ثاني أيام الانتفاضة التي دعا إليها ضدهم في الثاني من ديسمبر (كانون الأول) 2017، لتدين لهم السلطة منفردين متخففين من عبء حليف الأمس.
إذ عمدت سلطة الميليشيات على قمع أي حراك قبلي أو سياسي مضاد لسيطرتها بالقمع المتواصل، لتتمكن من توحيد جبهتها الداخلية أمام الطرف القادم من الجنوب.
في المقابل، شهدت جبهة الشرعية بروز عدد من التصدعات واعترت جوانبها جملة من التباينات داخل الصف المفترض به أن يكون متماسكاً في مواجهة مشروع الحوثي، وتصدّعت جبهتها إلى جبهتين وربما ثلاث.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بلغ الانقسام أوجه بمواجهات دامية في الجنوب اليمني خلال فترات متقطعة، أبرزها الحربان العنيفتان في يناير (كانون الثاني) 2017 وأغسطس (آب) 2019، التي انتهت بسيطرة المجلس الانتقالي الجنوبي على العاصمة المؤقتة عدن ولحج والضالع وسقطرى بقوة السلاح، والتضييق على الحكومة الشرعية فيها، قبل أن تسارع الجارة السعودية لفضّ النزاع ورأب الخلاف بالدعوة إلى ما عُرف بـ"اتفاق الرياض"، الذي انبثق منه تشكيل حكومة كفاءات سياسية جديدة، غير أن الطرفين ظلا منشغلين بسجال ورمي التهم على بعضهما في ما يشبه الخلاف على كعكة السلطة وثروة المناطق المحررة، في حين تركزت قوة الشرعية في محافظة مأرب.
من عدن إلى الحديدة
ومع ذلك، حققت الشرعية انتصارات عسكرية مشهودة، واستعادت عدداً من المحافظات بدعم من دول العاصفة، وبغطاء جوي عزّز قدرات الجيش الوليد على الأرض.
ونجحت "عاصفة الحزم" من الجو، والمقاومة الشعبية على الأرض، في دحر خصومهم من عدن ولحج والضالع وأبين وشبوة ومأرب والجوف، وأجزاء من محافظات تعز والبيضاء والحديدة وحجة وغيرها.
ويقول سفير اليمن لدى منظمة "يونيسكو" محمد جميح إن الحوثي كان في 2014 يقف على سواحل عدن (جنوب)، وهو اليوم محاصر في سواحل الحديدة (غرب).
ويضيف "طُرد الحوثيون من الجنوب كاملاً وأجزاء في الشمال، وقُطعت خطتهم بالاستيلاء على كامل التراب اليمني بموارده المختلفة".
ويمكن النظر إلى المعارك الأخيرة في نفس الإطار، "فهدفهم الاستراتيجي بالسيطرة على حقول النفط والغاز في مأرب لم يتحقق، ومعلوم أن أي تقدم يحرزونه لا يعدّ ذا قيمة ما لم يسيطروا على الموارد النفطية. في المقابل، فإن المواقع التي تقدّمت فيها الميليشيات أخيراً، أصبحت تشكّل مناطق استنزاف لقوتها العسكرية والبشرية"، مقابل تماسك الشرعية في المعارك الاستراتيجية.
التقدم العسكري "كاش سياسي"
أهم الإشكالات التي تواجهها الشرعية بحسب جميح أنها "لم تستطِع تحويل التقدم العسكري الذي أحرزته في بداية المواجهات إلى كاش سياسي، يساعدها كورقة ضغط، في حين استغل الحوثي الوضع الإنساني لصالحه خلال الفترة الماضية" في الدعاية الإعلامية لتأثيرات الحرب اجتماعياً.
ووفقاً للسفير اليمني، فإن الوقت ما زال متاحاً للعودة إلى شروط وظروف النجاحات التي تحققت في بداية "العاصفة"، بخاصة مع صمود مأرب وتحرّك جبهات تعز وحجة، غير أن ذلك يقتضي "التنسيق في التحرك العسكري وإدخال بعض الأسلحة النوعية التي يحتاج إليها الجيش، لمواجهة ما لدى الحوثي من إمكانات عسكرية متوّجة بالصواريخ الباليستية والطائرات المسيّرة والصواريخ الحرارية وغيرها، وللتصدّي للكثافة البشرية التي يوظفها الحوثيون لصالحهم".
الجيش مكسب بحد ذاته
ينظر مراقبون إلى تشكّل نواة جيش وطني من الصفر، على أنه معادل موضوعي لقوات الحرس الجمهوري التابع للرئيس السابق صالح الذي يقوده نجله أحمد، باعتباره أهم التحولات الاستراتيجية التي جاءت بها "عاصفة الحزم" وكانت بمثابة الضربة التي رجّحت موازين القوى.
ويعتقد المحلل السياسي عادل الشجاع، أن أبرز مكتسبات السلطة الشرعية هو أنه "أصبح لديها جيش محترف يخوض الحرب بكفاءة منذ ست سنوات، مسنوداً بمقاومة شعبية قوية جداً تشكّل رافده الرئيس".
ومن ضمن ما يرجّح كفة الشرعية على الصعيد العسكري، بحسب الشجاع "إفشالها أخيراً إسقاط محافظة مأرب، وصمود المحافظة النفطية في وجه الهجمات الانتحارية التي شنتها الميليشيا الحوثية على أسوارها، وإدراك الحلفاء لهذا التهديد، ما شكّل قوة إضافية للشرعية وجيشها الوطني"، مؤكداً أن "معركة مأرب وحّدت الصف الجمهوري وجعلت الجميع يستشعر الخطر".
استثمار الملف الإنساني
وعلى الرغم من زخم التفوّق العسكري، عدّةً وعتاداً الذي جاءت به "عاصفة الحزم"، إلا أن الميليشيا التي لاقت الإدانة الدولية الصريحة بداية حراكها المسلح ووصفها بـ"الميليشيات المنقلبة" على الإجماع الوطني اليمني، استثمرت سيطرتها على مساحات يسكنها ملايين اليمنيين، واستخدمت الورقة الإنسانية بحسب خصومها في فرض نفسها كطرف أصيل في أي تسوية سياسية، إذ لا يمكن الوصول للملايين في صنعاء والحديدة وتحديد مستقبلهم دون التفاهم معها، لتتحول الميليلشيا بفضل ذلك إلى سلطة أمر واقع تأخذ مناطق سيطرتها رهينة مقابل خطوط الاتصال الدبلوماسي، بحسب ما تقوله الشرعية وتنفيه الميليشيا عن نفسها.
ثنائية السلاح والسياسة
ووفقاً لمراقبين، فإن العوامل العسكرية لعبت دوراً في تحديد موقع الأطراف المتحاربة في الساحة السياسية، إذ بات ما تسيطر عليه الشرعية وخصمها الحوثي أوراق ضغط سياسي في أية تسوية مقبلة تتعلق بالملف اليمني والجهود الدولية المتنامية، نحو إنهاء الحرب والدخول في تسوية سياسية شاملة.
غير أن عدنان هاشم، المحلل المتخصص في الشؤون الإيرانية، يقلّل من نجاح الجماعة سياسياً، مضيفاً أن الحوثي "فشل في تحقيق نجاحات سياسية في مناطق سيطرته ولم يتجاوز كونه سلطة أمر واقع".
لكنه يرى أن الحرب حتى الآن حققت للحوثيين وجوداً دائماً في السياسة اليمنية، ووضعتها في "موقع طرفٍ لا تتجاوزه المبادرات الخارجية على الرغم من الاختلاف عن حجم تمثيلهم المقبل، لذلك تتجه الأنظار إلى معركة مأرب وما ستسفر عنه سياسياً"، وهي المعركة التي قدم لأجلها أعداد كبيرة من القتلى منذ قرابة الشهرين دون جدوى، بحسب مراقبين.
ومن المتوقع أن تكون الأشهر المقبلة مفصلية ومرجّحة في رسم خطوط المشهد، فيمن سيحقق المكسب الأهم في اللحظات الأكثر سخونة، تعطيه موضعاً أكثر تأثيراً في الخريطة السياسية المرتقبة.