ليس مألوفاً أن يصف سيد البيت الأبيض علناً سيد الكرملين بأنه "قاتل". وليس من المفاجآت أن يرد الكرملين التهمة إلى صاحبها "الناظر في المرآة"، ويعيد التذكير بالتاريخ وإبادة الهنود الحمر، بالتالي نشوء أميركا على أيدي مستوطنين أوروبيين "قتَلة". لكن الواقع أن الاستنفار شديد في كل من أميركا وروسيا بالنسبة إلى ما هو أكثر مما سماه مدير المخابرات المركزية الأميركية الجديد، الدبلوماسي الأسبق وليم بيرنز في كتاب "القناة الخلفية"، مواجهة تحديات "صعود الصين ويقظة روسيا". والحساب بين الرئيس جو بايدن والرئيس فلاديمير بوتين مزدوج، بعضه متابعة سجال شخصي بدأ قبل أعوام، وبعضه الآخر يتعلق بالاستراتيجيات والصراعات الجيوسياسية بين الكبار. عام 2011 اجتمع بايدن في موسكو وكان يومها نائباً للرئيس أوباما، ببوتين الذي كان رئيساً للوزراء. وبحسب السفير الأميركي مايكل ماكول الذي حضر اللقاء، فإن الرجلين "تبادلا خلافات حادة حول مقاربة روسيا للبلدان التي كانت ضمن الاتحاد السوفياتي". ويروي بايدن في مذكراته أنه "بعد الجدال في اجتماع رسمي انتقلت مع بوتين إلى مكتبه الخاص وقلت له، أَنظر في عينيك ولا أظن أن لديك روحاً. وبدا قليل الانزعاج والغضب ثم قال، نحن نفهم بعضنا بعضاً". واليوم يضيف بايدن إلى ذلك أن بوتين "قاتل" و"بلا قلب". وسبق له أن وصف الرئيس الصيني شي جينبينغ بأنه "سفاح".
أما الحسابات الكبيرة، فإنها متعددة لدى الطرفين. بوتين يريد تصفية الحساب مع أميركا وكل الغرب، إزالة آثار الحرب الباردة، والثأر لسقوط الاتحاد السوفياتي الذي قال بوتين إنه "أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين"، واستعادة دور القوة العظمى بعد إذلال الغرب لروسيا في أيام الرئيس السابق بوريس يلتسين، والرد على توسيع الحلف الأطلسي حتى حدود روسيا، والشراكة في النهاية في إدارة النظام العالمي من موقع الندية والاحترام. وبايدن يرى أمامه "أجندة" حافلة بما يتجاوز تصفية الحساب مع روسيا التي تحرص على "خلق موقع فوضى جديد لأميركا، وزرع الشوك على طريقها"، وفق التقارير الأميركية المستندة إلى أقوال مسؤولين في موسكو خلال جلسات خاصة.
أقل ما يراه بيرنز في"القناة الخلفية" هو أن "روسيا تريد تفخيخ أوروبا، وبوتين الذي لديه خليط من الشعور بالظلم والطموح وعدم الأمان يرى نقاط ضعفنا ويستغلها كلاعب تيكوندو". وأبسط ما يسمعه بايدن من أجهزة المخابرات هو أن روسيا تدخلت في الانتخابات الرئاسية الأميركية مرتين، مرة لمصلحة دونالد ترمب ضد هيلاري كلينتون، ومرة ضده شخصياً. وهو يريد إزالة "تخاذل" ترمب أمام بوتين الذي يتنمر على الغرب. ويصر الرئيس الأميركي على "القسوة" في التعامل مع موسكو وإبقاء العقوبات عليها بعد التدخل في جورجيا وأوكرانيا وضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكن اللعبة بين الكبار ليست في اتجاه واحد، ولا على طريق مستقيم. فعلى الطريق منحنيات وتحويلات وطلعات ونزلات، لأن "السياسة ليست مثل شارع نيفسكي" كما قال لينين، وهو شارع طويل مستقيم في بطرسبرغ. وفي أميركا وروسيا، حرص على حفظ خط الرجعة والحديث عن الاستعداد للتعاون حين يخدم ذلك مصلحة البلدين. فلا أوروبا تسير مع أميركا إلى نهاية المواجهة، حيث المصالح الاقتصادية والتجارية مهمة مع روسيا، ومن بينها خط "نورث ستريم" للغاز عبر ألمانيا إلى أوروبا، حتى وإن امتدح وزير الخارجية الألماني هايكو ماس استخدام بايدن "لغة واضحة حيال روسيا". ولا واشنطن العائدة مع بايدن إلى "العالم وقيادته" تستطيع القيادة من دون تفاهم مع روسيا والصين في أماكن عدة، لا سيما في مجلس الأمن المشلول بالفيتو. ولا موسكو القادرة على التدخل عسكرياً، كما في سوريا وأوكرانيا، تستطيع أن تترجم ربحها العسكري إلى ربح سياسي من دون تفاهم مع أميركا.
وليس مجرد رد في السجال السياسي قول بوتين "جيناتنا مختلفة عن جيناتكم". فمن الأخطاء الاستراتيجية في الغرب رهانه على أن تصبح روسيا مثله في النظام والسلوك. ومن البداية قال بوتين لزائر أوروبي "أنا عكس غورباتشوف. أهدافي وحدة روسيا وقوتها ومناطق نفوذها. أما الديمقراطية ففي المكان الثاني". لا بل أعلن أن "ستالين أنجح حكام روسيا في القرن العشرين. إعداماته كانت ضرورية للاستقرار، وهو مد الإمبراطورية إلى أبعد من آل رومانوف، وجعلها قوة عظمى نووية".
لكن مشكلة أميركا المنتشرة قواعدها في معظم دول العالم، أنها تراوح دائماً بين مفهومين، هي إما إمبراطورية لا سابق لقوتها في التاريخ تريد تغيير العالم، وإما إمبراطورية تهرب من دورها وتنكر طموحها الإمبراطوري.