يُعدّ الفوز الساحق الذي حققه فولوديمور زيلنسكي في انتخابات أوكرانيا الرئاسيّة جزءاً من موجة عالميّة أوصلت قادة شعبويين يفتقدون الخبرة السياسيّة، أو يملكون قليلاً منها، إلى السلطة. وعلى الرغم من أنه تجنب تقديم وعود انتخابية، إلا أن الصورة التي صنعها زيلنسكي بدقة وقدّمها للناخبين هي صورة رجل عازم على صراع الفساد، والاهتمام بصدق في إيجاد سُبُل لتحسين الظروف المعيشيّة لعامة الشعب. وبلغ من النجاح إلى حد إدماج صورته العامة مع ذلك الصراع والاهتمام. وحالة زيلنسكي متفرّدة بين مجموعة من قادة شعبويين تشمل حاضراً دونالد ترمب في الولايات المتحدة وجايير بولسونارو في البرازيل وفيكتور أوربان في المجر. ولربما يكون من الإنصاف أن يقارن بالكوميدي بيبي جريلو، المؤسّس المشارك لحركة "فايف ستار" (= "خمسة نجوم") في إيطاليا.
وزيلنسكي يشبه جريلو في كونه ممثلاً كوميدياً ولا يؤيّد الشعبويين اليمينيّين، على الرغم من عدم انتمائه لليسار. وإذا كان من تصنيف له، فهو وسطي يهدف لإيجاد أرض مشتركة بين جناحي بلاده المضطربين، الشرقي والغربي، أو بين الشركات الصغيرة والمتوسطة من جهة، والفقراء المستفيدين من البرامج الاجتماعيّة الممولة بشكل يرثى له من جهة اخرى. ولكن المقارنة لا تتعدى ذلك، حتى في هذا الوجه.
وعندما تكون السياسة مرادفة لـ"الأعمال القذرة"، يكون الانطباع السائد عن الشخصيّات غير المنغمسة في تحايلاتها ومراوغاتها هو أنها "نظيفة". وبالتأكدي، فعل زيلنسكي شيئاً غير تقليدي لكنه ساهم بشكل غير تقليدي وفعال، في تعزيز ذلك الانطباع قبل أن يعلن ترشّحه للرئاسة. إذ أدّى لثلاث مواسم متتالية دور الرئيس المتمرد المكافح للفساد في مسلسل كوميدي أوكراني شعبي: "خادم الشعب".
بدأت أحداث الموسم الأول من المسلسل في أواخر عام 2015، مع أستاذ التاريخ في مدرسة ثانوية، هو فاسيلي جولوبورودكو (يؤدي دوره زيلنسكي)، يصوّره طالب بشكل سري أثناء إلقائه في وجه أحد زملائه، خطاباً مطوّلاً عنيفاً محشوّاً بكلمات غير محتشمة، ضد الفساد. وبصورة متوقعة، انتشر الفيديو على موقع "يوتيوب"، ويعمل من علّقوا على ذلك الفيديو، وكذلك طلبته، على إقناع جولوبورودكو بالترشح للرئاسة. ويفعل ذلك على الرغم من تردّده، ويفوز بالانتخابات.
وبالانتقال سريعاً إلى 2019، أكّد زيلنسكي وزوجته أثناء مقابلة إعلاميّة، أن آلافاً من التعليقات الشبكيّة على المسلسل، تحثّه على خوض الانتخابات الرئاسيّة، كانت وراء قراره بالترشح. وحفلت الحلقة الأخيرة من الموسم الثالث بكثير من الوعود عن مستقبل مشرق للبلاد، وبُثّتْ في 28 مارس (آذار) 2019، قبل ثلاثة أيام من جولة الانتخابات الرئاسيّة "الحقيقيّة". ويعرض مسلسل "خادم الشعب" عدداً من الشخصيات التي يمكن التعرّف إليها، وإن كانت مقدّمة بشكل مبالغ فيه، من العالم السياسي الأوكراني، ثم صار التاريخ السياسي محاكياً لأحداث المسلسل.
إذاً، لا يقلّد الفن الحياة حاضراً، بل بذل كل جهد لإقناع المشاهدين بأنه مع ما يكفي من قوة الإرادة، ستكون الحياة هي من يقلّد الفن. سُجّل حزب زيلنسكي بعد سنتين من بدء المسلسل التلفزيوني، بل حمل الإسم نفسه. ثمة دائرة متصلة ومتفاعلة بين الحقيقة الفعليّة من جهة وبين ما يمكن اعتباره نوعاً من "تلفزيون الواقع" من الجهة الثانية.
وتمثّل تلك الدائرة من التفاعل أحدث ما توصّلت إليه "التكنولوجيا السياسيّة" في القرن الحادي والعشرين.ما هو دور الفكاهة في هذه العملية؟ إنها أيضاً تتغير بسرعة فائقة. تقليدياً، كانت الفكاهة السياسيّة إما متنفساً آمناً للتعبير عن إحباطات لا يمكن التعبير عنها بشكل مباشر ولا حلها بشكل عملي، أو آليّة دفاعيّة ضد الاضطهاد المفرط.
ومع "خادم الشعب"، لم يعد دور الفكاهة أنها مجرّد آليّة دفاعيّة سلبيّة، بل صارت محركاً لما أود أن تسمّيته "العمل غير السياسي السياسي." وبدلاً من كونها عامل انفصال مؤقت عن الواقع، وهو أمر يمكن ملاحظته بسهولة خصوصاً بفضل تلك المسافة التي تظهر أثناء ضحك الشخص على نفسه، تهدف فكاهة زيلنسكي إلى رسم ذلك الواقع عينه مع النأي عن أي تأثير للنقد الذاتي.
وفي المسلسل التلفزيوني عن الفوز بالسباق الرئاسي، يتفاوض رئيس الوزراء الفاسد مع وزير المالية حول المبلغ الذي يستحقه الشعب من الموزانة، 10 أو 12 أو 15 بالمائة، بعد أن يُسرق باقي المبلغ من قبل المسؤولين والدوائر الحكومية المختلفة.
وهذا المشهد الذي يعبر عن نفسه بسخرية مزدرية، يؤكد أشد مخاوف المشاهدين ويجعل دماءهم تفور بغضب مبرر. والسؤال، ماذا بعد ذلك؟
معايشة عواطف سلبيّة شديدة ضد النظام، قد تؤجج رغبات إصلاحيّة أو ثوريّة. والأوكرانيون ليسوا غرباء عن الانتفاضات الشعبيّة، وآخرها كان قبل خمس سنوات. ومسلسل زيلنسكي يحذر من هذا الخيار.
ويوضح بأن "الميدان" (حشود المتظاهرين الغاضبين الذين ملأوا "ميدان نيزالزنوستي" المعروف بـ"ميدان الاستقلال")، يلقى دعماً أيضاً من القلّة الأوليغاركيّة التي تستغله لأغراضها الخاصة، أي لاستبدال دمية سياسيّة بأخرى.
الخيار المتبقي هو الإصلاح بمعنى الذهاب إلى صناديق الاقتراع، ليس لانتخاب زمرة أخرى من النخبة الفاسدة، بل رجل بسيط يصلح النظام المتعطّل ويشفي جراح الدولة. فعليّاً، ذلك هو الأساس الذي يستند عليه المسلسل، إذ يحث مشاهديه على البحث عن شخص يدافع بشكل مقدس عن الشعب.
وبشكل ملائم تماماً، سيكون ذلك الشخص هو العدو الروائي لرئيس الوزراء أي الرئيس جولوبورودكو ، الذي يرمز إلى زيلنسكي.
ولكل النوايا والأغراض، جرت حركة الإصلاح خارج حدود "خادم الشعب"، في يوم الانتخابات الحقيقيّة. إلا أن الخارج يكمن في الداخل: المشاهدين- الناخبين الغاضبين تدفقوا لدعم مرشح حزب تعمّد باسم خادم الشعب وأدلوا بأصواتهم لخليط غير واضح يجمع جولوبورودكو وزيلنسكي.
نحن نعيش لحظة غريبة من التاريخ. العالم الاقتصادي المدفوع بمضاربات ماليّة وأصناف أخرى من رؤوس أموال ما بعد عصر الصناعة، ابتلع "العوامل الخارجيّة"، أو بكلمات أخرى، كافة مجالات الحياة التي قد تخطر على بال المرء خارج المجال الاقتصادي. لقد صارعت السياسة كي تواكِبْ وتتأقلم.
ساعد ذلك في خلق الظروف التي تزدهر فيها أشكال مختلفة من الشعبويّة، وخلقت موطناً غريباً للتأثير السياسي بين شرائح سكانيّة هي عادة غير مهتمة بالسياسة. وكما حصل مع ترمب، وربما بريكست، بشكل محمّل بالتناقض، يعتاش كل ذلك التأثير السياسي من الشطر اللاسياسي من الناخبين، كما يمنح من غير قصد الفرصة لقيادة تكون "من خارج" النظام السياسي.
لقد كتب نجاح زيلنسكي في انتخابات أوكرانيا، فصلاً جديداً، وربما أكثر إصلاحاً، في هذه العملية المستمرة.
© The Independent