في الزقاق المحاذي للجامع المنصوري الكبير في طرابلس، تقع "سوق الحشائش". تغيب هذه السوق عن المراجع التاريخية التي تذكر الأسواق الشهيرة في المدينة القديمة، لأنها عبارة عن مكان اعتادت مجموعة من النسوة على بسط "الحشائش والسليق". وقد نشأت هذه السوق بفعل نضال مجموعة من النساء اللاتي كافحن لإعانة أسرهن.
المعلمة أم متعب
عند مدخل السوق، تستقبل بسطة فاطمة أم متعب الزوار، والتي تعمل طوال ساعات النهار في هرم "المشكلة"، التي تتضمن "الخبيزة، والحرتبنة، والمسيكة، والشومر، والكرات، وسائر الأعشاب البرية"، وتعرضها أمام المارة، ليشتريها الراغبون. لا تتكلف أو تبالغ في دعوة المارة لشراء الحشائش، لأن لوحة الخضراوات المتنوعة كفيلة في جذب الانتباه.
منذ 33 عاماً، بدأت أم متعب عملها في بيع السليق والحشائش المنوعة. تؤكد أنها بدأت هذه المهنة من أجل تربية أبنائها، ومنع العوز والحاجة، وذلك بعد رحيل زوجها. تفاخر ابنة الكورة بما حققته. فهي لم تحصل على تعليم نظامي، أو تدريب مهني، إلا أنها عند الضائقة لم تمد يدها لطلب المساعدة من أي مخلوق أو مسؤول، وإنما اتجهت إلى البرية والبساتين لجمع السليق والحشائش البرية، ومن ثم بيعها في مدينة طرابلس.
تمكنت أم متعب، ابنة الثامنة والخمسين عاماً، من تعليم أبنائها الأيتام السبعة، وأوصلتهن إلى مرحلة الدراسات الجامعية. وتحاول التكيف مع المواسم. ففي الشتاء تعتمد على بيع الحشائش كالخبيزة، والكرافس، والشومر، والحميضة، وغيرها. أما في الصيف فتبيع ورق العنب، وفاكهة الصبار.
تقسم أم متعب أيام الأسبوع بين السوق والبستان. فهي توجد يوماً في السوق، في حين تمضي يوماً آخر في البرية والبساتين من أجل تأمين البضائع. وبات بعض الزبائن وأهل السوق يضبط نزلته بناءً على جدول أم متعب من أجل شراء خلطة الحشائش اللذيذة والمفيدة. ولا تتأخر في تقديم الوصفات لطريقة إعداد هذه الحشائش، مع ذكر بعض فوائدها العلاجية ومنافعها الصحية.
"حياة الشقاء والتعب"
وتلفت إلى أن أوضاع عائلتها تحسنت، و"الحالة باتت أفضل"، إلا أنها تستمر في العمل لأنها اعتادت على السوق وأهلها من جهة، ومن جهة أخرى لأنها ما زال لديها أحد الأبناء بحاجة إلى مساعدة بسبب غياب الأب، وهي "مضطرة إلى الوقوف إلى جانبه، كما وقفت وساندت إخوته الأكبر منه". وتعتز فاطمة بعملها، واستعدادها للدخول بملابسها المتشحة بالتراب إلى أي مكان، ومهما ارتفع المستوى الاجتماعي لقاطنيه ومن دون خجل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتشعر أم متعب بأن "حياة الشقاء والتعب" جعلتها تنضج وتكبر قبل وقتها، وتنتقد مرض انقياد الناس وراء الدولار الأخضر لأنها "لا تحبه"، بسبب تعلقها بالعملة الوطنية. وتعتقد أن التعلق بالعملة الخضراء جعل الناس لا يجدون ما يأكلونه، في حين أن أبناء الأرض لا يجوعون لأنهم "يلجأون إلى الأرض، ليأكلوا الحشائش البرية". وتأسف لما بلغه الناس من الفاقة والحاجة، وتقول إنه عندما يأتيها البعض لسؤالها عن الأسعار، وعند شعورها بعدم قدرته على الشراء، تقرر منحه حاجته مجاناً، أو بثمن منخفض، فهي تقرأ في أعين الزبائن مكانتهم الاجتماعية ومقدرتهم الاقتصادية.
وتمنح أم متعب الأمل للمحيطين بها، وتتعامل مع شباب الحارة كأنهم أبناؤها، وتقول "أحياناً تدعوهم لتطعمهم ما قطفت، وأوقات أخرى تطردهم". وتلفت إلى أن "المعشر هو الأهم في الحياة"، لأنها كسيدة "عاشت في السوق أكثر مما عاشت في بيتها".
وقد تحولت أم متعب إلى علامة فارقة في السوق، إذ يقوم السياح وزوار السوق بالتقاط الصور لها أثناء عملها. فهي تعكس مهارة المرأة في التأقلم مع صعوبات الحياة. وتعتقد أم متعب أننا لم نصل بعد إلى مرحلة إنصاف المرأة، لأنه "لو كانت حقوق المرأة مصونة، لما كانت اضطرت إلى فرم الحشائش البرية في السوق من أجل إعالة أطفالها بعدما ترملت".
السيدات يقاومن الظروف
صعوداً نحو "سوق العطارين"، تمضي أم عادل (48 عاماً) في "حفر الكوسا" وتنظيف الخضراوات. وتلفت إلى أنها نزلت إلى سوق الحشائش منذ خمس سنوات، من أجل تأمين بعض الدخل لمساعدة زوجهاً في تأمين الحاجات الأساسية لأطفالها الخمسة.
تعمل أم عادل، إضافة إلى حفر الكوسا، في لف ورق العنب والملفوف والسلق، وتنظيف العكوب والخبيزة. وتقول إنه "في هذه الأزمة، لا يمكن للرجل وحده تأمين المعيشة، فزوجها يعمل في إنتاج القشدة يومين أسبوعياً"، والتكاليف المادية تتضاعف باستمرار، من إيجار المنزل إلى الخدمات العامة واشتراك الكهرباء والمياه.
أصبح لدى أم عادل قائمة من الزبائن الذين يقصدونها لحفر الكوسا، إما بسبب عدم توافر الوقت لديهم، وإما لعدم امتلاك المهارة. ويزداد الإقبال في شهر رمضان المبارك. ولا تحصل على الأجر المرتفع، فهي تأخذ "ألف ليرة لبنانية فقط لقاء نقر الكيلو الواحد من الكوسا والباذنجان". وعند سؤالها عن العائد القليل، تجيب "الناس الفقراء تشعر ببعضها البعض، لأن العالم كلها من دون استثناء في ضائقة". وتؤكد "لكي تعيش العائلة، يجب أن تتكاتف الجهود، وأن تعمل المرأة والرجل والأطفال".
تبذل السيدة تضحيات كبيرة في سبيل أبنائها، وهي تتناول الكثير من الحبوب المسكنة من أجل الصمود، والاستمرار في العمل على الرغم من "الضغط وضعف عضلة القلب" لديها، وتشكو من أنها "لم تعد تجد أدوية في الصيدليات. تعطي أم عادل الأولوية لتعليم أبنائها وبناتها الصغار، وهي تأمل أن تنجح ابنتها في الشهادة المتوسطه، لأن النسوة في هذه البلاد يكرسن حياتهن من أجل أبنائهن، لا يمتلكن حتى الوقت للراحة أو الزيارة والمتعة، ولا يمكنهن شراء ملابس جديدة لأن "الأبناء هم الأهم".
وفي يوم المرأة العالمي، لا تحظى جميع النساء بالتقدير والتكريم، فإن ذلك لا يقلل من حجم التضحيات التي تقوم بها النساء المكافحات والعاملات في أسواق لبنان الشعبية اللاتي يعطين المثال والنموذج عن "كيف يكون كفاح الأمهات؟".