Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أمين الزاوي يعبر تناقضات العالم في رحلة العثور على الحرية

"نيرفانا" رواية تحتفي بأثر المرة الأولى والقارئ يشارك في صياغتها

لوحة فانتازية للرسام العراقي فؤاد حمدي (صفحة الرسام على فيسبوك)

من هناك، حيث الحكم العثماني، حيث الجبايات والضرائب وتجريد الناس من ممتلكاتهم ومن أبنائهم إذا نفدت الممتلكات ولم يتبق ما يأخذه الحاكم، فيضحي الأحرار عبيداً والسادة خدماً والأعزاء أذلاء... من هناك يستهل الكاتب الجزائري أمين الزاوي رحلة السرد في روايته "نيرفانا... ماذا يحدث في المرة الأولى" الصادرة  حديثاً عن منشورات ضفاف، منشورات الاختلاف، وبهذه البداية التي استدعى الكاتب عبرها التاريخ، مرر برهانه الأول على واقعية السرد المتخم بالرموز، والتي لا يجد القارئ نفسه إلا مساهماً في ملئها ومشاركاً في صياغة الأحداث؛ مشاركة خطط لها الزاوي مسبقاً.

في النهج نفسه من المشاركة؛ تبادل الحكي كل من الراوي العليم و"أنزار" الشخصية المحورية في النص، ليحقق الكاتب عبر أسلوب السرد الذاتي ما يصبو إليه من إضفاء روح حميمية على النسيج، وينقل ما يعتمل في نفس شخصيته الرئيسة نقلاً أميناً صادقاً. وكي يحقق الصدق في سبر أغوار بقية الشخوص، كان عليه أن يسلم السرد لراو عليم يتمم إكمال الصورة ويكسبها اتساعاً ورحابة ويبرز مزيداً من التفاصيل. كذلك يشارك الفضاء المكاني للأحداث مكانان، هما قرية أربوز ومدينة أميزور، ولعل اختيار مناطق بعينها من الجزائر كفضاء للسرد يمرر برهاناً ثانياً على واقعية أوصدقية الأحداث. أما الفضاء الزمني، فقد ورد مبهماً وإن دلت الأحداث على أنه ليس بقريب وليس ببعيد، وإنما مُعاد في دورات التاريخ.

تنقّل الكاتب بين ماضي أنزار وحاضره عبر تقنيات السرد، معتمداً أفقية تدفق الزمن في بداية الأحداث ونشأة "أنزار" في قريته أربوز، ثم انطلق في قفزة زمنية إلى حاضره في مدينة أميزور، ثم عاد مرة أخرى عبر تقنية الاسترجاع والتذكر (الفلاش باك) لما حدث في موطنه الأول "أربوز". واللافت أن كل تلك النقلات، سواء في أساليب السرد أو في الفضاءات المكانية والزمنية، حدثت بانسيابية متقنة بدا معها السرد كأنما يتدفق في نسق واحد.

"نيرفانا" لا يعرفها البشر

يحمل عنوان الرواية استفهاماً صريحاً متعجباً لوقع المرات الأولى من الأشياء على النفس، فـ"نيرفانا" تعني السعادة القصوى، وتعني الانفصال التام عن العالم في حالة من التأمل والانتشاء. هذا الوقع أدركه "أنزار" عند المتعة الأولى، الكذبة الأولى، السقطة الأولى، الشك الأول، قراءة الحكاية الأولى، الركوب الأول للبحر، قيادة سفينة للمرة الأولى... ولا يحدث هذا الأثر عند البشر مرة ثانية بعد تلك الأولى، ما يدفعهم لتكرار الأشياء أملاً في الحصول على الشعور الأول ذاته، وينقضي العمر في محاولات استعادته من دون جدوى. وعلى عكس البشر تستطيع الحيوانات لا سيما الكلاب، الحصول على السعادة القصوى "نيرفانا"، ودليل الكاتب الشبق والعلاقة الحسية لدى هذه المخلوقات، على خلاف الإنسان الذي يؤدي هذه العلاقة بآلية كواجب روتيني ثقيل، ولا يحمل من السعادة سوى ذكرى.

 استمر الكاتب في طرح هذه القضية معتمداً تقنية التكرار في مواضع متعددة من النسيج، محتفياً عبرها بأثر المرة الأولى الذي لا ينسى ولا ينقضي ليؤكد عبر ذاك التكرار، فكرته ويبث خلاله هاجساً شخصياً وعاماً في الوقت نفسه، فليس من أحد إلا وفُتن بسحر المرة الأولى.

 يستمر حضور تقنية التكرار في حديث الراوي عن علاقته بحماره (أزمور) الذي يعده أخاه في الرضاعة، لأن كليهما رضعا ثدي المعزة الأسبينيولية، وقد أراد الكاتب عبر هذا التكرار إبراز العلاقة المتينة والوطيدة بين شخصيته المحورية "أنزار" والحمار (أزمور).

أبرز الكاتب حضور الحيوانات (حمير، ماعز، كلاب، دجاج، حمام) في النص مجسداً مكانتها لدى أهل الريف الذين يعاملونها كأفراد في عوائلهم فتحظى بمكانة وقيمة، وحب عميق. وفي ذلك يتشارك ساكنو القرى في مشرق الأرض ومغربها، كما هو الحال في علاقة البدو ببعيرهم، لكنه لم يكتف بذلك، وإنما أضفى مزيداً من الحميمية وانتصر لهذه الكائنات في مقارنات- جاء بعضها ضمناً وبعضها مباشراً- عقدها بينها وبين بني الإنسان، لا ليمرر شعوره بالاعتزاز بها ونقلها إلى مرتبة أعلى من تلك التي اعتاد الناس أن ينزلوها أو ليعلن انحيازاً صريحاً لها وحسب؛ وإنما أراد أن يبين إلى أي درك وصل الإنسان بسوء الخلق: "تصرف من هذا القبيل لا يقترفه إلا الإنسان الخائن والكلاب جنس وفيٌ لا يخون" صفحة 36.

تناقضات تذكي الصراع

طوال رحلة السرد تجلى زخم من الثنائيات المتناقضة، بشاشة العم وإقدامه في مقابل تجهم الأب وجبنه، قسوة الأخت الشرسة التي قتلت الكلب بإلقائه في البئر مقابل رحمة الجدة التي جبرت رجل الحمار أزمور ومنحته حياة جديدة بعد أن شارف على الموت، ظلم الولاة مقابل إذعان الرعية، تحضّر الغرب مقابل تخلف الشرق... وبهذه الثنائيات التقط الكاتب صوراً حياتية صادقة من واقع يعرف الخير والشر معاً، فلا حضور لأيهما من دون الآخر؛ ليس بين الناس والأشخاص وحسب، وإنما داخل النفس الواحدة. فأنزار لا يبالي بتحويل مدفن الجدة إلى وكر لتدخين الحشيشة في لحظة، وفي أخرى يسكنه شعور عميق بالذنب، يرغب في عودة فريدة ويسعد لكونها لم تأت، يرغب في قتل الطباخ ويرفض أن تلوث الدماء يده، يتمزق بين رغبة في الرحيل وأخرى في البقاء، بين فضول لرؤية سيدة الحمام وخوف من تنكيل الحاكم به وقتله أو خصيه... بهذه التناقضات التي كانت تدور داخل النفس وخارجها أذكى الكاتب الصراع وألهب مسيرة السرد، ومرر بعض الرؤى الرمزية والإسقاطات، كتلك التي تجلت في منع أنزار من النظر إلى أعلى حيث الحاكم وإلا عوقب بما لا يطيق، وأيضاً في رسائل الحب الكاذبة التي كان الحاكم يرسلها إلى العالم. ولم يغفل الزاوي عن انتقاد بعض السلوكيات- عبر منحى ضمني- من تَطيُر وعنصرية، فالذين يتشدقون بتعاليم دينهم التي تعلي من المساواة يمارسون العنصرية في أحط صورها، فأهل قرية أربوز يطردون واحداً منهم تزوج من امرأة سوداء حفاظاً على جنسهم، وحتى لا تتلوث سلالتهم بالعبيد! وفي مدينة أميزور لا يتساوى الناس حتى في الموت، فكل يدفن وفق دينه في مقابر خاصة، أما السود فيتم دفنهم وفقاً للونهم في مربع خاص بهم، مع غض النظر عن الدين الذي ينتمون إليه. كذلك مرر نقداً ضمنياً ساخراً لركون الناس إلى الخرافة واختلاق الأكاذيب، تلك التي حولت مدفن الحمار أزمور إلى ضريح يتبرك به العامة بعد أن أشيع عنه أنه قبر حفيد آخر إمام وخطيب لمسجد قرطبة قبل سقوطها وطرد البربر والعرب منها. والأدهى أن الجدة التي تعرف أن القبر للحمار أزمور، وأوصت أن تدفن بعد موتها في هذا الضريح باعتباره ضريح حفيد إمام قرطبة!

حضور الفلكلور

يرصد الكاتب خلال رحلة السرد كثيراً من العادات الفلكلورية وثيقة الصلة بالبئية المحلية الريفية في الجزائر، لا سيما ذات الصلة بالحيوانات، كعادة تحرير ديك في أحد بيوت القرية لينجو من الذبح ويسمح له بالدخول والأكل في كل بيوت القرية ويعتبره أهلها فأل خير، وحين يموت يكفن ويشيع ويدفن في مقابر أصحابه. كذلك يستدعي القصة الفلكلورية عن حمار الليل وقوته المغناطيسية الخارقة التي تمكنه من زيارة النائم وتجريده من سلطته والخروج به من سريره ومن بيته، وأمره بفعل أشياء غريبة يمتثل لها، بينما لا يتذكر في الصباح أياً مما فعل فيقال عنه "ضربه حمار الليل".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

عمد الكاتب إلى تطعيم بنائه بلمحات من الفانتازيا أنعشت السرد وأضفت عليه مزيداً من الجاذبية، ولجأ إلى الفصحى السلسة في حياكة النسيج. وكانت لغته مشهديةً متقنة، تمكن عبرها من تحفيز الخيال واستدعاء صور حية للأحداث، ما حول القراءة إلى مشاهدة، ومنح الشخوص حياة، فباتت تتنفس خلف نافذة السطور، تتحرك في مشهد سينمائي؛ يهب فيه الجد أموسناو لإنقاذ أخته من مبعوث العثمانيين، وتجبّر الجدة رجل حمارها وتكفن ديكها وتشيع جنازته، وينطلق أنزار في رحلته عبر البحر للبحث عن عمه الذي وجده من دون أن يجده، وعن فريدة آيت عمران التي وجدها لكنه لم يجدها أبداً، فهيهات أن تعاد المرة الأولى.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة