إثر وفاة العالم والمفكر يعقوب صروف في صيف عام 1927 امتشق أمير البيان شكيب أرسلان قلمه الرائع ليكتب نصاً جميلاً عن الراحل جاء فيه: "كان لا يرى نفسه شيئاً، وكلما ازداد عِلماً ازداد تواضعاً، وكلما عجب الناس من سعة علمه عجب هو من كونهم يرونه عَالِماً". هذا الكلام إذا جزء من نص نشره أرسلان عن زميله صروف في مجلة "المقتطف". والذين عرفوا صروف لم يروا أية مغالاة في الكلام الذي كتبه أرسلان، لأن صروف، إلى علمه الغزير ونشاطه الكتابي الدؤوب، واتساع دائرة اهتماماته العلمية والفكرية والثقافية، عُرف بأخلاقه التي كانت أخلاق عالم حقيقي. وكذلك لم يروا غرابة أن يُكتب ذلك الكلام في "المقتطف". فتلك المجلة العلمية كانت تصدر في ذلك الحين بإشراف يعقوب صروف نفسه وتعبر تحديداً عما كانه الراحل، في المقام الأول: عالماً. وكان واحداً من الذين رأوا أن ثمة فائدة للقارئ العربي، كبيرة في الكتابة عن العلم وظواهر الكون. وهكذا اهتم طوال حياته بهذه الناحية، وكرّس لها تلك المجلة الشهيرة التي كانت من أهم المطبوعات العلمية في تاريخ الثقافة العربية، التي بدأ بإصدارها مع فارس نمر وشاهين مكاريوس في القاهرة منذ عام 1885، بعد أن أصدرها الثلاثة في بيروت طوال عشرة أعوام سابقة على ذلك، أما سبب انتقالها من بيروت إلى القاهرة فبسيط: لقد فر بها مؤسسوها من التخلف العثماني ليغرسوها زهرة علم ومعرفة في القاهرة التي كانت ملاذاً لكل أحرار الفكر العربي من بناة المستقبل في ذلك الحين.
ظلام في الشام ونور في مصر
والحقيقة أن حكاية ذلك الانتقال واللجوء تظل ماثلة أمام أعيننا لكيلا ننسى الدور التحرري الذي لعبته القاهرة يوم كانت الظلمات العثمانية حالكة تحاصر أحرار بلاد الشام الممتدة بين شمال سوريا وجنوب فلسطين مضيقة الخناق بخاصة على بيروت ومفكريها خلال تلك المرحلة النهضوية العربية، التي اختلط خلالها الفكر بالسياسة برغبات نخبتها من كل الأديان والأفكار في العمل على بناء المستقبل. ونعرف أن ذلك العمل لم يكن مناسباً للعثمانيين الذين شددوا الخناق فما كان من الكتّاب السوريين، وكان التعبير توصيفاً للبنانيين والسوريين على السواء، من السعي للحصول في القاهرة على حرية تمكنهم من مواصلة حركتهم التنويرية ولو لدى النخب المصرية التي كان التضييق عليها أقل بكثير. ومن هنا كان من الطبيعي لـ"المقتطف" أن تنزح بدورها مع مؤسسيها الثلاثة وبخاصة تحت إشراف يعقوب صروف الذي أصدر خلال إشرافه على المجلة، واحداً وسبعين مجلداً تعتبر، في مجموعها موسوعة علمية متكاملة، ثم لم يكتف بذلك بل أصدر على هامشها مجموعة مؤلفات لعل أشهرها "أعلام المقتطف" التي تعتبر أهم وأجمل موسوعة فكرية تنويوية صدرت في اللغة العربية خلال الثلث الأول من القرن العشرين. وكان من عادة يعقوب صروف أن ينشر كتاباته على حلقات في "المقتطف" ثم يجمع منها في كتاب ما يستحق هذا الجمع، وهكذا تضم لائحة كتبه روايات نشر بعضها مسلسلاً، وكتباً علمية وتاريخية. من بين رواياته هناك "فتاة مصر" التي تحدثت عن المجتمع المصري عند بدايات القرن العشرين، ورواية "أمير لبنان" التي تتحدث عن هذا البلد خلال أحداث ستينيات القرن التاسع عشر، و"فتاة الفيّوم" وهي رواية عصرية. أما كتبه العلمية فتبقى "أعلام المقتطف" أشهرها وتضم تواريخ حياة رجال العلم والفلسفة منذ ما قبل سقراط حتى عام 1924، و"فصول في التاريخ الطبيعي في مملكتي النبات والحيوان" و"العلم والعمران" و"بسائط علم الفلك وصور السماء" و"الرواد".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
"بهلوانية" لنشر أخطر الأفكار
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن تلك المواد شغلت مئات الصفحات من الكتاب الذي صدر في جزءين أولين بين 1925 و1925، وكان يمكن أن يتواصل صدور أجزاء تالية له لولا رحيل صروف الذي كان هو كاتب معظم المواد التي نعرف أنها نشرت أولاً عدداً بعد عدد في مجلة "المقتطف" نفسها، حيث لم يكن ليفوت صروف أن يشير إلى أنه يتوخى منها أن تكون المادة الأساسية مركزاً بشكل خاص على نوعين من المواد: ذاك الذي يتحدث عن الفلسفة والفلاسفة بإسهاب ممرراً في طريقه العديد من الأفكار المتقدمة كما يفعل مثلاً حين يتحدث عن السياسة كما تناولها أرسطو أو افلاطون مختاراً من بين تناولهما هذا ما يصب في استثارة الوعي والفضول لدى قرائه الذين كان يعرف أن كثراً منهم كانوا يتجابهون مع أصحاب هذه الأسماء وأفكارهم ربما للمرة الأولى في حياتهم، وحتى بالنسبة إلى المتعلمين منهم من الذين كان يصعب على المدارس، ولأسباب دينية غالباً، التعمق في أفكارهم؛ والنوع الآخر الذي يتناول المستجدات العلمية، لا سيما منذ عصر النهضة الأوروبية. وهنا كانت الأمور تبدو أكثر صعوبة بالنظر إلى أن الكثير من شؤون العلم والفلك وحتى الطب كانت تجد صعوبة في التعامل مع مجتمعات إسلامية كانت تعيش، لا سيما بعد نهضة كبيرة عرفتها خلال العصور الإسلامية الأولى، ردات إلى الوراء بخاصة إثر الاحتلال العثماني بل حتى قبله منذ سيطرت أسر وجماعات تركية على الدولة العباسية. هنا ولفرض حضور الأفكار العلمية الحديثة أبدع صروف وغيره من كتاب "المقتطف" ومن ثم "أعلام المقتطف" في ابتكار أساليب رائعة في تمرير الجوهري من الأفكار وأحياناً تحت قناع "معارضة" كاتبيها. وحسبنا هنا أن نقرأ مثلاً المادة التي تتناول داروين لنجدنا أمام ما يشبه "البهلوانية" الفكرية... وهي "بهلوانية" عرفت على أية حال كيف تمرر ما كان يعتبر يومها "أخطر" الأفكار.
من بيروت إلى القاهرة
ولد يعقوب صروف عام 1852 في قرية الحدث القريبة من بيروت، وتلقى دروسه الجامعية في الجامعة الأميركية في العاصمة، حيث تميز بالرياضيات والفلسفة، لكنه - مثله في هذا الوقت مثل المتنوّرين في زمنه - كرّس للأدب والشعر بعضاً من وقته واهتماماته وهذا ما جعله يخلف لدى رحيله مجموعة من الكتب الروائية والأدبية إضافة إلى دراساته الفكرية والعلمية الغزيرة.
في بداية حياته العلمية مارس يعقوب صروف التدريس، حيث نجده طوال ثلاث سنوات مدرّساً في مدارس صيدا وطرابلس وصافيتا. وفي الموسم الدراسي 1873-1874، وكان بالكاد تجاوز الحادية والعشرين من عمره، دعته الجامعة الأميركية وكانت تدعى الكلية الإنجيلية السورية في ذلك الحين ليدرّس فيها العلوم الرياضية والفلسفة الطبيعية وعلم الفيزياء، فانصرف، كما يقول الكونت فيليب دي طرازي في كتابه "تاريخ الصحافة العربية" إلى "الدرس والتدريس وقرن العلم بالعمل وجعل تلامذته يطبّقون علم الهندسة وحساب المثلثات على مساحة الأراضي ويصنعون الآلات الطبيعية كلفائف الحدوة والأجراس الكهربائية، وكان ذلك دأبه وهو تلميذ، فإنه صنع آلة تدور بالماء على مبدأ مطحنة باركر، وهو يدرس علم السوائل، فأخذها رئيس المدرسة وحفظها بين أجهزة الفلسفة الطبيعية، وهي التي ذكرته به حينما كانت المدرسة تبحث عن أستاذ لتدريس علم الطبيعيات".
مجلة كوّنت جيلاً من العلماء
إذن، من التدريس إلى الصحافة والكتابة في العلم، خطوة قطعها يعقوب صروف في عام 1876 حين قرر مع زميليه نمر ومكاريوس تأسيس مجلة علمية أطلقوا عليها اسم "المقتطف"، وكان مقدراً لتلك المجلة أن تصدر في بيروت لزمن طويل مقبل، لكن الأوضاع السياسية في المنطقة لم تمكّنهم من مواصلة إصدارها هناك كما أشرنا، فانتقلوا بها إلى القاهرة، حيث سرعان ما أصبحت واحدة من أكثر المجلات العربية انتشاراً، وتكوّن عبر دراساتها ومتابعتها لكل جديد، جيل كامل من علماء العرب في ذلك الحين، كما أنها دأبت على تبسيط العلوم وتقديمها للقارئ العادي. وكان يعقوب صروف المحرر والمترجم الرئيسي للمجلة، من الافتتاحية إلى دراسات تبسيط العلوم، إلى التأريخ لكبار العلماء والمخترعين على مدى التاريخ، إلى باب الاسئلة والأجوبة الذي كان - في حدّ ذاته - يعتبر موسوعة علمية كاملة.