لعلها مصادفة جميلة وأليمة في آن واحد: أن يحتفي ملتقى القاهرة العالمي للرواية بالروائي السوداني الراحل الطيب صالح معيداً إياه إلى صدارة المشهد الروائي العربي، بينما السودان يعاني حالا من الإضطراب السياسي ويشهد تحولاً لا يزال في بدايته ويكتنفه شيء من الالتباس. في القاهرة يكرم الملتقى الطيب صالح وعين الطيب على بلاده كلها، على شعبه وأرضه، وعلى المستقبل الغامض الذي ينتظرهما. فهذا الروائي الذي عاش حياة صاخبة، روائياً وسياسياً، في السودان وبعض الدول العربية كما في أوروبا ولا سيما في بريطانيا، مكث طوال حياته مشدوداً إلى السودان الذي لم يفارق مخيلته ولا وجدانه على رغم ترحاله و"منفاه"الطويل الاختياري. كان الطيب سودانياً حتى العظم، كما يقال، وكان السودان يحتل دوماً مقدم شواغله وهمومه، مثله مثل أبطاله الراسخي الجذور في أرض بلادهم. ظل الطيب على علاقة وطيدة بوطنه، وبما كان يطرأ عليه من تحوّلات، في السياسة والاجتماع، فهو كان قضيته ومرجعه ومآل ابطاله . ومعروف عنه موقفه السلبي من نظام "الانقاذ" الذي تبوّأ السلطة عبر انقلاب يونيو (حزيران) 1989، وراجت عنه مقولته الشهيرة "من أين جاء هؤلاء؟" التي تبنّاها حينذاك مثقفون سودانيون كثر. وعمدت السلطة السودانية إلى منع أعماله من التدريس في جامعة الخرطوم. لكنّ الكاتب المعارض ما لبث أن لبى دعوة النظام للعودة العام 2005 فعاد ليشارك في مهرجان"الخرطوم عاصمة للثقافة العربية"وليكون"نجم"هذا المهرجان. ولكنْ سرعان ما ارتفعت أصوات تعارض زيارته وتنتقد مواقفه من قضية دارفور والحركات المسلحة وسواهما. ولو قيد للطيب أن يعيش اليوم لحظات التحول التاريخي الذي يشهده السودان، لكان حتماً في طليعة المتظاهرين المنادين بالعدالة والحرية والعيش الكريم. كان حتماً ليرفع صوته في الشارع معترضاً ومحتجاً على الظلم والفقر.
كان الطيب صالح هو الأبرز والأشهرعربياً بين أدباء السودان. وان كان أدبه الروائي والقصصي بمثابة الجسر بين الداخل السوداني والخارج العربي والعالمي، فهو لم يدَّع يوماً انفصاله عن الأدب السوداني، ولا انقطاعه عن الهموم السودانية على اختلافها. وقد كتب"موسم الهجرة الى الشمال" في لندن حيث كان يقيم بدءاً من العام 1953. وعندما نشرت هذه الرواية في بيروت العام 1966 بدت بمثابة الحدث الروائي الذي كان منتظراً، ولكن عوض أن يأتي الحدث من القاهرة أو بغداد أو بيروت جاء من السودان. استطاع الطيب صالح في هذه الرواية الفريدة أن يقدم مشروعاً روائياً جديداً يحمل الكثير من علامات التحديث، شكلاً وتقنية وأحداثاً وشخصيات، علاوة على القضية الإشكالية التي حملتها الرواية وهي الصراع بين الشرق والغرب أو بين الجنوب والشمال من خلال علاقة مأسوية بين مصطفى سعيد و"زوجته" البريطانية. ومنذ أن صدرت الرواية أصبح اسم هذا البطل (مصطفى سعيد) في شهرة بعض أبطال نجيب محفوظ لا سيما أحمد عبد الجواد في"الثلاثية".
لم يستطع الطيب طوال حياته أن يتخلّص من سطوة هذه الرواية التي جلبت له من الشهرة ما جلبت من المتاعب، كما عبّر مرّة. ظل الطيب صالح أسير"موسم الهجرة الى الشمال"، فوسمت به مثلما وسم بها، مع أنه كتب روايات أخرى لا تقل فرادة عنها، ومنها مثلاً "عرس الزين" و"بندرشاه" وسواهما. وإن بدت "موسم الهجرة الى الشمال" ذروة أعمال الطيب صالح، وأكثرها شهرة ورواجاً، فإن أعماله الأخرى، الروائية والقصصية لا تخلو من الخصوصية، سواء في لغتها السردية أم في تقنياتها وأشكالها. ومن تلك الأعمال رواية "عرس الزين"التي ترصد أسطورة الشخص القروي الغريب الأطوار الذي يدعى "الزين"في علاقته بالفتاة "نعمة"، وكذلك رواية "بندر شاه" في جزئيها، "ضو البيت"و"مريود". وتمثل هذه الرواية الصدام البيئي والحضاري بين القديم والحديث. ومن أعماله القصصية البديعة"دومة ود حامد" وهي تدور حول الصراع بين الحكومة وأهل قرية "ود حامد" التي تقع على الضفة الشرقية من النيل، فالحكومة تريد تحديث القرية واقتلاع شجرة الدوم التي هي رمز القرية، والأهل يصرون على تقاليدهم المتوارثة. وهذه القرية السودانية "ود حامد" تحضر كثيراً في نصوص الطيب صالح رمزاً لعالم الطفولة والبراءة المتجذر في شمال السودان. لولا الطيب الصالح لما كان من السهل التعرف الى البيئة السودانية والشخصية السودانية ذات الخصال الفريدة.
قد يبدو الطيب صالح غريبا بعض الغربة عن أجواء ملتقى القاهرة الذي يحمل اسمه، حاملا في الوقت نفسه عنوانا بعيدا كل البعد عن تجربته التي تخطاها عصر العولمة و مفهوم الرواية ما بعد الحديثة، وهو"الرواية في عصر المعلومات". هذا العصر لم يكن البتة عصر الطيب ولا عصر رفاقه وكان حتماً ليكتشف نفسه غريباً عنه كل الغربة. لكنه يظل احد المؤسسين الكبار الذين جددوا الرواية العربية ورسخوا حداثتها الاولى. اليوم، بعدما اضحى العالم "قرية" واحدة عقب الثورة المعلوماتية التي أسقطت الحواجز بين اصقاع العالم ومدنه وضواحيه، وبعدما اصبح موسم الهجرة الى الشمال موسما يومياً ومألوفاً، بعد اتساع رقعة المنفى العربي عالمياً حتى ليكاد يصبح وطناً بديلاً او نهائياً في أحيان، تبقى رواية الطيب صالح الأم، أم الروايات التي أدركت باكراً مسألة الصراع بين الشرق والغرب، على رغم ما طرأ عليه من مفاهيم حديثة جداً.