هل اصطدم مشروع "مكتبة المستقبل" الذي لا يزال في أوج انطلاقته، بعدما ضم أسماء كبيرة من بينها الكندية مارغريت أتوود والبريطاني ديفيد ميتشل والتركية أليف شافاق، بجدار كورونا؟
أي كاتب سيقدم هذه السنة مخطوطة تنضم إلى لائحة "الخلود" التي سيُحتفى بها عام 2114؟ هل يمكنه أن يتجاهل وباء كورونا الذي لم يشهد التاريخ البشري وباء يضاهيه حتى الآن في قوة انتشاره واكتساحه الكرة الأرضية كلها؟ هل باتت ممكنة الآن كتابة رواية عن كورونا الذي فاق تصور العلماء والأطباء وتخطى مخيلات رواد التخييل العلمي، ناشراً الموت في جهات المعمورة؟
لا يستطيع أي روائي أو كاتب أن ينفي أثر كورونا عليه وعلى رؤيته الأدبية وعلى كيانه ووجوده وحتى حياته اليومية. أربك هذا الوباء الذي يحمل بعضاً من ملامح اللعنة القدرية الإغريقية، الروائيين والشعراء والقاصين وسواهم. لكن الكتابة عنه لا تزال على مقدار من الحذر والريبة، خصوصاً أنه لا يزال ينتشر حاملاً سلالات وبائية جديدة.
وقد يكون الحذر والريبة هذان هما وراء عدم حماسة الروائيين في العالم لإبداع روايات ونصوص سردية تحيط بالوباء والخراب الذي أحدثه.
لم تعلن القائمة على مشروع "مكتبة المستقبل" الفنانة السكوتلاندية كاتي باترسون اسم الكاتب الذي يفترض به أن يكون الثامن من بين الكتاب الذين تجرأوا على خوض هذه التجربة "المستقبلية"، متوجهين إلى قراء يجهلونهم تماماً، هم قراء القرن الثاني والعشرين.
ماذا ستحمل، إلى هؤلاء القراء المجهولين تماماً بمزاجهم وذائقتهم وثقافتهم، الروايات والدواوين الشعرية والكتب القصصية التي ستحفظ طوال مئة عام في مكتبة سرية ومغلقة لن يفتح بابها إلا في مطلع عام 2114؟ هل ستتمكن هذه النصوص من مواكبة القرن المقبل عبر المخيلة والحدس الإبداعي، وما سيطرأ عليه من تحولات مجهولة، ومن مفاجآت، سعيدة أو مأساوية؟
بعد 100 سنة
ماذا يعني أن يكتب روائي أو شاعر أو قاص أعمالاً إبداعية لن يكون حاضراً عندما تُطبع وتُنشر وتُقرأ بعد مئة سنة؟ ماذا يعني ألا يطلع هذا الكاتب على آراء النقاد والصحافيين في ما كتب قبل قرن، وألا يدرك أن كان كتابه المستقبلي جديراً بالقراءة أم لا؟ وألا يكون على بينة أيضاً من ردود فعل القراء، إعجاباً أو فتوراً أو رفضاً؟ ماذا يعني كذلك أن يكتب الأدباء الراهنون لقراء القرن الثاني والعشرين بينما هم يجهلون ما سيحدث بعد أسبوع أو بعد شهر في زمن طغيان كورونا الذي قلب كل المقاييس وتخطى كل التوقعات؟
لعل الحسنة الوحيدة أن الكتّاب هؤلاء يمكنهم أن يكتبوا بحرية تامة وجرأة ومن غير خشية أو تهيب، وأن ينتقموا من رقابة عصرهم، المعلنة والمضمرة، فأعمالهم لن تفتح إلا بعد مئة سنة، ولا أحد سيحاسبهم.
صحيح أن قراء القرن العشرين قرأوا أعمالاً كثيرة تعود إلى قرون سابقة، وتمتعوا بها، ووجدوا فيها الكثير من ذاتهم ووجدانهم وقلقهم وسعادتهم، وصحيح أيضاً أن النقد في القرن العشرين رحب كل الترحاب، وما زال يرحب بهذه الأعمال التي تعود إلى القرون الماضية وربما الغابرة، متوقفاً عند خصائصها ومعطياتها وثورتها وقدرتها العجيبة على البقاء والإستمرار، فهذه الأعمال حملت في صلبها بذور أزمانها وعاشت معظم التحولات التي كانت تطرأ على الحياة والعصر وعلى الأدب نفسه، وكانت سليلة بيئتها وزمنها، ولم تكتب لتحفظ وتقرأ بعد مئة سنة، هابطة على القراء من مظلة القرن الماضي.
قد تبدو فكرة هذا المشروع على مقدار من الغرابة والطرافة وربما "الجنون" كما عبر الروائي ديفيد ميتشل المشارك في المشروع. لكن المشروع يظل ضرباً من المغامرة في المجهول، ضرباً من مواجهة الزمن وتخطي الموت ومقاربة الخلود ولو لقرن واحد.
ترى هل من الأكيد أن الكتاب الورقي سيبقى في القرن الثاني والعشرين؟ هل سيبقى القارئ على صورته الآن أم أن صورته في المستقبل ستتبدل مثلما ستتبدل أمور كثيرة في زمن قد تلامس الثقافة الرقمية ذروتها؟ ثم ماذا لو أصبحت الحياة على كوكب الأرض افتراضية تعبث بها أجهزة رقمية؟ ماذا لو فقدت البشرية الكتب المطبوعة؟ وكيف سيكون شكل المكتبات عام 2114؟ هل سيُفتقد وجود عمل أدبي ورقي؟
كتب وغابة
تم الإعلان عن المشروع في غابة نودماركا في شمال العاصمة أوسلو، وفي هذه الغابة ستُزرع 3000 شجرة من الشوح وبالتتالي، كي تنمو خلال مئة عام. وستُقطع منها نحو مئة شجرة لتوفر الورق المطلوب لطبع الكتب المحفوظة بل "المخبأة" التي ستنشر بدءاً من 2114، وسيكون الأول حتماً كتاب مارغريت أتوود التي كانت سباقة في تبني فكرة المكتبة هذه.
المخطوطات سوف تجمع وتحفظ في غرفة داخل المكتبة العامة الجديدة التي فتحت أبوابها في 2018 بالقرب من أوسلو. وستدوّن أسماء الكتّاب المشاركين وعناوين مخطوطاتهم في هذه الغرفة، بينما يقفل على المخطوطات في غرفة سرية تتمتع بشروط جيدة، حفظاً لها.
معروف أن تجسيد فكرة الفنانة الاسكتلندية كايتي باترسون ومشروعها المبتكر أصبحا ممكنين، بعد إقناعها بضعة تجار عقاريين نروجيين تهمهم المساهمة في دعم مشروع ثقافي، مادياً.
وشاركت أيضاً الإدارة الأدبية لجائزة مان بوكر في تأسيس المشروع الذي تموله بلدية أوسلو.
ويتولى مهمة اختيار الكتّاب المرشحين للدخول في "كبسولة الزمن" من كافة أنحاء العالم، مجلس أمناء المشروع، المكون من الفنانة كايتي باترسون والمدير العام لجائزة مان بوكر، والقائمين على المكتبات في أوسلو. فالمشروع ليس مفتوحاً أمام أي كاتب يقدم على ترشيح نفسه شخصياً، بل يجب أن تختاره اللجنة.
وتعلق مديرة "مكتبة المستقبل" كريستن دانيلسن: "بعد مئة عام من الآن لن يكون أحد منا موجوداً، لكن "مكتبة المستقبل" سوف تكون، إنها مثل فترة حمل طويلة الأمد لن تتم وأحد منا على قيد الحياة".
ويمكن القراء النهمين الحصول منذ الآن على شهادة تمنح أحفادهم الحق في الحصول على واحدة من النسخ الألف من هذه السلسلة للكتب التي ستطبع بعد قرن، مقابل ما يوازي ألف دولار.
لا تخفي باترسون الخلفية الإيكولوجية للمشروع نظراً إلى علاقته بالغابة والأشجار: "أظن أن الأمر سيكون مهماً لمن سيقرأون المخطوطات خلال مئة سنة، لأنهم سيتمكنون من التأمل من خلال العودة بالزمن. هذا المشروع الطويل الأمد سيظل حياً، يتنفس وينمو على مدار قرن، سوف يظل حياً عبر الأشجار التي تمّت زراعتها".
تصور أومبرتو إيكو
وتنقل باترسون عن الكاتب الإيطالي أومبرتو إيكو قوله "إن شكل الكتاب قابل للتحسين، فهو أشبه بالعجلة، لا يمكن إتقان صنعها بالكامل". وتضيف: "التكنولوجيا تتقدم بسرعة كبيرة، إلى درجة أننا نتجه نحو المجهول. نتحدث حالياً عن الكتب الرقمية. لكننا نجهل تماماً أي شكل ستتخذه الكتب. قد يكون ذلك أمراً لا يمكن تخيله. قد تصبح الكتب الورقية من الآثار، وقد تصبح القاعدة. المستقبل سيحسم الأمر".
أما الكندية مارغريت آتوود التي تملك تجارب مهمة في الحقل الروائي الخرافي العلمي والديستوبي والمستقبلي، فكانت أول من شارك في المشروع وسلمت مديرته مخطوطة بعنوان "القمر الناسخ"، وقالت: "إنني فخورة وسعيدة أيضاً بأن أشارك في هذا المشروع، الذي يفترض أن الجنس البشري ما زال هنا بعد 100 عام.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
"مكتبة المستقبل"ستلفت الأنظار كثيراً خلال العقود المقبلة. الناس يستطيعون أن يتابعوا نمو الأشجار وأن يجربوا أن يحزروا ماذا وضع الكتّاب في علبهم المختومة".
ووصفت المشاركة في هذا المشروع بـ"رسالة في زجاجة". وأعربت آتوود الحاصلة على جائزة بوكر لعام 2000، عن تفاؤلها وسعادتها بهذا المشروع قائلة: "سيضمن هذا المشروع تفادي الكُتَّاب للنقد وقت نشر أعمالهم، وسيضمن جمهوراً من القراء في القرن الثاني والعشرين. على الأقل، يمنحنا هذا المشروع الشعور بالإطمئنان والاعتقاد بوجود الجنس البشري بعد 100 عام أخرى".
الروائي البريطاني ديفيد ميتشل صاحب الرواية الشهيرة "خرائطية الغيوم" لم يستوعب الفكرة سريعاً، تأمل فيها قبل أن يوافق وقال في البداية إن هذا مشروع جنون.
يقول ميتشل: "هذا تصويت للثقة بثقافة المستقبل. هذا يجعلنا نأمل في أنه سيكون حينذاك بشر وشجر وكتب وقراء وحضارة. كل أمر يدفعنا إلى أن نعتقد أننا محكومون، عند تسليم المخطوط. هذه المبادرة علامة أمل، إنها تعدنا بأننا سنكون هنا، وإن هنا سيكون أشجار ويتكون هنا أيضاً كتب وقراء وحضارة".
أما عنوان مخطوطته فهو "مني يسيل ما يسمى الزمن" وقد محا كل أثر للرواية على الكمبيوتر وكأنه لم يكتبها.
الكاتبة المرأة الثانية التي شاركت في المشروع هي الروائية الكورية الجنوبية هان كانغ التي كانت فازت بجائزة مان بوكر عام 2016 عن روايتها "النباتية".
وشاءت الكاتبة الكورية تقديم مخطوطتها خلال احتفال في الغابة نفسها وكانت لفتها في شرشف أبيض رمز الموت والولادة في كوريا الجنوبية، وجالت بها بين الأشجار قبل أن تسلمها. وقالت: "كأننا احتفلنا بزواج مخطوطتي بهذه الغابة. أو كأنني صنعت تختاً أو مهداً لنوم طويل يدوم قرناً بكامله، مدهشاً الأرض بعبوره. ولقد حان الوقت لنقول للمخطوطة وداعاً". عنوان مخطوطتها وجداني وعاطفي: "ابني، يا حبيبي".
لغة ضئيلة القراءة
بعد الكندية مارغريت آتوود 2014، والبريطاني ديفيد ميتشل 2015، جاء دور الشاعر الإيسلندي سيون 2016 لتقديم مخطوطته التي لن يقرأ أي من معاصريه صفحاتها. يقول الكاتب الإيسلندي المعروف أيضاً بتأليفه كلمات أغنيات للمغنية بيورك: "من الأمور التي على الكاتب مواجهتها دائماً هي أنه سيكون هناك دائماً قراء لأعماله لا يعرفهم. قد يكونون في قارة أخرى، أو زمن آخر. ولكن من النادر والمميز جداً أن نؤلف نصاً لن يقرأه أحد خلال حياتنا".
ويشير إلى أن عدم انتظار ردود الفعل من القراء "حدّ من علاقتي بالنص. أدركت أن الآليات التي اعتبرها من المسلّمات عندما أكتب، هي في الواقع أمر يجب إعادة النظر فيه على الدوام: الدقة في الكلمات واستخدام مفردات قديمة... والكتابة بالإيسلندية كانت أيضاً من الأسئلة التي طُرحتها، لأنني أجهل أين ستكون لغتي بعد مئة سنة".
ويخشى الشاعر أن تكون اللغة الإيسلندية قد انطفأت بعد قرن، فالذين يتكلمون بها لا يتجاوزون الـ370 ألفاً في العالم. أما عنوان مخطوطة الشاعر الإيسلندي فهي طويلة وتتألف من سطرين وفي مطلعها "عندما يلامس جبيني رداء الملائكة...".
الروائية التركية المقيمة في أميركا أليف شافاق سلمت مخطوطتها وعنوانها "آخر المحرمات" عام 2017 وهي مكتوبة بالتركية ولم تشأ شافاق أن تتحدث عن جو روايتها تاركة المفاجأة لقراء القرن الثاني والعشرين.
صاحب "كفاحي"
كان الروائي النروجي الكبير كارل أوفه كناوسغارد آخر من انضم إلى المشروع خلال عام 2019 وحملت مخطوطته الرقم ستة، كما قال هو شخصياً عبر "فيسبوك". ماذا عن رواية كارل؟ في أي أجواء تدور أحداثها؟ لم يفصح الروائي النروجي الكبير عن أي معلومة، فهو جاد في مسألة إخفاء روايته طوال قرن.
كان كارل أصدر الجزء السادس والأخير من ملحمته الروائية الرهيبة التي تحمل عنواناً عاماً هو "كفاحي"، وسرعان ما نقل هذا الجزء إلى لغات عدة، نظراً إلى النجاح الكبير الذي حققته هذه "السداسية" التي تبدو ظاهراً أنها أشبه بسيرة ذاتية ملحمية. فهي تستيعد تفاصيل حياة وعصر في لعبة مرآوية تعكس عوالم متداخلة ومنفصلة في آن واحد.
ووصف كناوسغارد مشروع "مكتبة المستقبل" بـ"الفكرة الرائعة"، وقال: "إنني أحببت كثيراً فكرة أن يكون بعض من قرائي لم يولدوا بعد. الأمر يشبه أن نرمي قنينة في البحر مرسلين إياها من عصرنا الراهن إلى عصر القراء الذين لم يولدوا بعد. أحببت فكرة هذه المكتبة التي لن يكشف عن مخطوطاتها إلا بعد مئة عام". ويرى كارل أن الكتابة الآن عن الناس الذين يحيطون به مع علمه بأن لا أحد منهم سيقرأ هذه المخطوطة، يمنحه مزيداً من الحرية.
ويقال إن الشاعر والروائي الفيتنامي الأميركي أوسيان فيونغ الحاصل على جائزة تي أس إليوت، قدم مخطوطته الرقم سبعة، السنة الماضية التي شهدت انفجار وباء كورونا، ولم تفصح اللجنة عن عنوانها ولا عن أي تفاصيل أخرى.
ترى هل ستختار لجنة "مكتبة المستقبل" روائيين وشعراء عرباً؟ الجواب يجب أن يكون إيجابياً، كي لا يبدو المشروع ناقصاً أو مسيساً على عادة بعض الجوائز المبادرات العالمية. ترى أي روائيين أو قاصين أو شعراء عرب ستغريهم الفكرة فيقدموا مخطوطات لن تقرأ إلا بعد مئة سنة؟