هل يمكن لأحد الاعتقاد اليوم أن التاريخ الأكثر حداثة للفن التشكيلي قد ظلم عدداً كبيراً من فناني القرن العشرين حين حصرهم في حياة متحفية وحولهم إلى مجرد سلع تقيّم في البورصة وتحلق في المزادات التي لم تعد جزءاً من اللعبة الفنية؟. نعرف أن نهاية القرن العشرين قد شهدت عدداً كبيراً من الأسماء تضيع في الزحام ليستعاد ذكر مبدعين سابقين عليهم زمنياً، مع الإبقاء على أية حال على بعضها إما محلقة، أو في التداول لا أكثر. وعلى الرغم من أن اسم مارسيل دوشان كان ولا يزال اسماً كبيراً في ميدان الفن السوريالي وربما الدادائي أيضاً، إلى جانب هانز آرب وإيف تانغي ورينيه ماغريت وحتى جورجيو دي كيريكو، فإنه يبدو اليوم وكأنه حقق واحداً من أهدافه الرئيسية: تدمير الفن باعتباره شيئاً لا لزوم له!
حين رفضه بريتون
مهما يكن لا بد التذكر هنا أن زعيم السورياليين أواسط القرن العشرين أندريه بريتون قال عن دوشان يوماً وهو يتأمل واحدة من لوحاته: "يقيناً أن ما نراه هنا يعبر عن الحب، لكنه الحب الإنساني كما يراه كائن آت من كوكب آخر ولا يفهم شيئاً عنه". كانت تلك هي العبارات التي وصف بها بريتون واحدة من أشهر لوحات دوشان وأغربها. ولقد فهم الكثيرون، يومها، تعبير زعيم السوريالية، أنه نوع من إنكار انتماء دوشان إلى تلك النزعة الفنية، في وقت كان كثيرون ينظرون إلى دوشان بأنه واحد من غلاة السورياليين، وأكثرهم تمثيلاً لفنون القرن العشرين.
لكن هل كان دوشان حقاً، راغباً يوماً، في التعبير عن فنون ذلك القرن؟ بالأحرى كان راغباً في التعبير عن استحالة وجود الفنون في عصر وصل غزو الميكانيك إلى ذروة تلغي ليس الفن فقط، بل الحاجة إليه أيضاً. ومن هنا ميل الكثيرين إلى القول إن مارسيل دوشان، بدلاً من أن يعبر عن الفن والحاجة إليه، عبّر في الحقيقة عن موت الفن في زمن يبدو أنه لم يعد في حاجة إليه. وحسبنا في هذا السياق استرجاع ما الذي فعله دوشان يوماً بلوحة "الموناليزا" لدافنشي: نقلها وجعل لها وجهه هو بعينين تشبهان عيني وحش بشري وشارباً يبدو كشارب زميله سلفادور دالي ويدين كيَديْ رسام مبتدئ يقبض على أنابيب ألوان وفراش بلا مبالاة كئيبة. والطريف أن دوشان وجد يومها رأياً إيجابياً في لوحته على لسان دالي نفسه الذي حين سئل عن رأيه في فن دافنشي أجاب أنه شديد الإعجاب بفن دوشان!
مزاح الفن وفن المزاح
وفي هذا الإطار إذا كان كثيرون يرون أن مارسيل دوشان قد حوّل الفن إلى مزحة، من خلال أعمال "مجهّزة" كان يوقعها ويرسلها إلى المعارض، فإنه هو - ودارسي سيرته - كان يرى تعبيره ذاك الأسمى عن نقض الفن، أو عن الفن - المضاد، في مواجهة تلك الرومانسية التي كانت لا تكف عن إعلان الحاجة إلى الفن والعواطف.
وفي هذا السياق نفسه مثلاً، يتذكر تاريخ الفن كيف أن دوشان أرسل، من باريس، إلى معرض نيويوركي، مرحاضاً اكتفى بأن وقع عليه باسم مستعار. وحين رفض النيويوركيون تلك المشاركة الغريبة بداعي أن ما أرسل لم يكن "عملاً" حققه الفنان، قال هو معلقاً: "إن الفنان بمجرد أن يختار شيئاً ويود عرضه، يكون قد عبر عما في ذلك الشيء من بعد فني".
إذاً، انطلاقاً من مثل تلك المواقف، اعتبر مارسيل دوشان، بتركيباته الغريبة التي كان يقطعها أحياناً بلوحات "حقيقية" كما كان يفعل حين يرسم سلسلة لوحات تمثل لاعبي الشطرنج، اعتبر واحداً من أوائل الذين نادوا، عملياً، بموت الفن أمام الزحف الآلي للقرن العشرين.
وكذلك اعتبر إلى حد ما، رائداً من رواد التركيب المشهدي التجهيز، إذ كان يستخدم كل ما يقع تحت يديه ليحوله إلى "عمل فني مركب" سواء دراجة مستعملة أو إطار أو مكعبات أو علب كرتونية أو أسلاك أو أقفاص أو ما شابه.
حكاية عروس
ومع هذا كان يحدث لدوشان في بعض الأحيان أن يبتعد عن ذلك الفن "التدميري" ليرسم مواضيع قد تبدو بدورها غرائبية لكنها تنتمي إلى تلك "الغرابة المطلقة" – في استعارة من فرويد – بالتناقض مع "الغرابة الهازلة" التي طبعت معظم إرثه الفني. ولقد حدث ذلك مثلاً في "ثلاثية" حقّقها حوالى العام 1912، أي في مرحلة مبكرة من مساره الفني حين كان مقيماً في ميونيخ وهي على التوالي، لوحة "العذراء" التي أدخل فيها للمرة الأولى تعبيراً عن مفهومه للجسم البشري بوصفه جهازاً ميكانيكياً. والثانية، "العبور من العذراء نحو العروس" التي أراد فيها رصد لحظة التحول الذي يطرأ على الجسد نفسه من حالته العذرية إلى حالة العروس من دون أن يبارح ذلك البعد الميكانيكي. أما الثالثة، لوحة "العروس" المعتبرة على أية حال واحدة من أجمل لوحات دوشان من الناحية التقنية التلوينية على الأقل. والحال أن هذه اللوحات الثلاث التي تتكامل في ما بينها من ناحية الموضوع المقترح، لن يكون من السهل على من يتأملها، سواء في حالتها المتكاملة بالنسبة إلى الثانية والثالثة وحالتها الجنينية بالنسبة الأولى، إدراك ترابطها أو حتى التكهن بموضوعاتها إن لم يكن مطلعاً على عناوينها. ومع ذلك قال الناقد المتخصص بالفنون السوريالية، لورانس ستيفل إنه تمكن، بالنسبة إلى اللوحة الثانية، على الأقل، أن يتتبع من الزاوية السفلى يسار اللوحة إلى الزاوية العليا يمينها حكاية العبور متكاملة. وهو تفسير لم يجاره فيه أحد على أية حال.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ثورة من نوع خاص جداً
في أيامنا هذه، وعلى ضوء "ما وصلت إليه الفنون"، قد تعتبر إنجازات دوشان الجريئة، عادية ومجرد أعمال رائدة سبقت ما عاد وتجاوزها، تركيباً ودلالة، بعد ذلك. ولكن في تلك الأزمان المبكرة، كان من الطبيعي لذلك الفنان الفرنسي "الرافض/ المازح" - بحسب تعبير ناقد أميركي غاضب -أن يعتبر ثائراً متمرداً على كل قالب فني، وأن يناصبه العداء رواد ثوريون من طينة أندريه بريتون الذي لم توصله ثوريته أبداً إلى رفض الفن على تلك الشاكلة.
مارسيل دوشان الذي مات عام 1968، وكان في عمر الثمانين واعياً عند رحيله عمق الثورة التي كان من المبشرين بها: ثورة تشيّء كل شيء وتعلن موت الفن كفعل رومانسي. ولد في العام1887 في مدينة بلينفيل الفرنسية في عائلة أنجبت الكثير من الرسامين والنحاتين الآخرين، وحين ترك فرنسا إلى نيويورك في العام 1915، كان قد انتهى من تكوين نفسه "فنياً" واشتهر كرافض للقيم وساخراً من كل فن ومن كل طابع إنساني فيه.
في نيويورك، جمع من حوله عدداً من الفنانين الرافضين مثل بيكابيا ومان راي، ليكوّن مجموعة غير راغبة في الانتماء إلى أية مجموعة. وهكذا حين كان يقال عنه أو عن مان راي زميله في المجموعة إنهما من مؤسسي الدادائية كانا يرفضان ذلك.
أمضى دوشان جزءاً كبيراً من حياته في نيويورك التي كان يعود منها إلى فرنسا بين الحين والآخر، واعتبر لذلك جزءاً من الحركة المؤسسة للحداثة الفنية في أميركا، حتى وإن كان كثيرون يرون أنه لم يكن فناناً بمقدار ما كان هادماً للفنون.