تولى الرئيس الأميركي جو بايدن منصبه في ظروف استثنائية يمر فيها العالم بشكل عام، والولايات المتحدة بشكل خاص، الدولة الأكثر تضرراً من أزمة تفشي فيروس كورونا، التي تمر بانقسام سياسي حاد خصوصاً بعد حادث اقتحام الكابيتول في 6 يناير (كانون الثاني) الجاري، من قبل أنصار الرئيس السابق دونالد ترمب.
وفي خضم التحديات التي يواجهها ساكن البيت الأبيض الجديد، نشرت مجلة "فورين أفيرز" الأميركية تقريراً يتحدث عن الأوقات العصيبة التي تولى خلالها فرانكلين روزفلت الرئاسة الأميركية.
الكساد العظيم
يتحدث التقرير عن صيف العام 1932 حين سافر فرانكلين روزفلت إلى شيكاغو لقبول ترشيحه عن الحزب الديمقراطي لمنصب الرئيس في خضم الكساد العظيم. وفي الساحة التي كان يُعقد فيها المؤتمر، صدحت الأغنية الرئيسة لحملته "الأيام السعيدة عادت مجدداً" ("Happy Days Are Here Again")، ولكن قليلين هناك وافقوا على كلمات الأغنية الفرحة: "السماء أعلاه صافية مرة أخرى" فقد كان واحد من كل أربعة أميركيين عاطلاً من العمل، وكان ملايين آخرون يعانون من تخفيضات في الأجور.
وقتذاك، تشرد مئات الآلاف وازداد المرض، بخاصة في المجتمعات الأميركية من أصل أفريقي، فقد كان انتشار مرض السل أعلى بخمس مرات مما كان عليه في مجتمعات ذوي البشرة البيضاء. كان العنف الغوغائي يتصاعد أيضاً، وكان الرجال السود ومنظمو العمل هم الضحايا الأكثر شيوعاً. في خطاب قبوله في المؤتمر وعد روزفلت، حاكم نيويورك آنذاك، بإيجاد مخرج من الأزمة الوطنية متعهداً بـ"صفقة جديدة للشعب الأميركي".
بعد أسابيع، استمر خصمه، الرئيس هربرت هوفر، بأسلوبه الفاشل في التعامل مع الكساد. وأقام عشرات الآلاف من قدامى المحاربين الفقراء من الحرب العالمية الأولى مساكن عشوائية في واشنطن العاصمة، لتقديم التماس إلى الكونغرس للحصول على المكافآت، التي كان من المقرر أن يحصلوا عليها مقابل خدمتهم. حظيت فكرة دفع رواتب المحاربين القدامى ببعض الدعم في الكونغرس، لكن ليس بدرجة كافية، حتى أنها حصلت على دعم أقل في البيت الأبيض. عارض الرئيس أي نوع من الإغاثة الفيدرالية، وكان يقول "لا يمكن استعادة الرخاء من خلال الغارات على الخزانة العامة"، وسرعان ما أمر الجيش الأميركي بإخلاء المعسكرات، وأُرسل الجنود مزودين بالحراب والغاز المسيل للدموع والدبابات ونافثات النار. توفي رجلان بطلقات نارية. فسأل روزفلت أحد مساعديه، "لماذا لم يقدم هوفر للرجال القهوة والسندويشات؟".
عكست تأملات روزفلت الخاصة أكثر من نهجه التكتيكي المفضل تجاه المتظاهرين، فقد جسدت إستراتيجيته الشاملة لإخراج الولايات المتحدة من الكساد العظيم. ما إن أصبح رئيساً، شكلت هذه التأملات أساس تحول جذري في السياسة العامة الأميركية. من خلال اندفاع غير مسبوق في النشاط التشريعي والتنفيذي، أعادت الصفقة الجديدة توزيع القوة السياسية والاقتصادية على الأشخاص الأكثر تعرضاً للاضطهاد، وسعت إلى تقديم المساعدة لكل من يحتاج إليها، قدامى الحرب العاطلون من العمل، والمزارعون المستأجرون، وقاطفو الخضروات المهاجرون، والأيادي الكادحة في مصانع النسيج، وعمال مناجم الفحم، وملايين آخرون.
ولّدت سياسات روزفلت معارضة شديدة من النقاد، الذين اعتقدوا أن الحكومة الفيدرالية كانت تنحرف بشكل خطير إلى ما هو أبعد من صلاحياتها، لكن ما كان يعرفه الرئيس وما ينبغي أن يتذكره أولئك الذين يتعاملون مع الصعوبات المعاصرة للولايات المتحدة، هو أن أكبر خطأ يمكن أن يرتكبه المرء في أزمة ما، ليس عدم القيام بالكثير، بل عدم القيام بما يكفي.
تدابير طارئة
عندما ألقى روزفلت خطابه الافتتاحي، في يوم سبت رمادي بارد من شهر مارس (آذار) 1933، أوضح أنه سيكون رئيساً من نوع مختلف. وطالب بـ"صلاحيات تنفيذية واسعة لشن حرب في حالة الطوارئ، بقدر القوة التي ستمنح لي إذا تعرضنا للغزو من قبل عدو خارجي". ولكن حتى مع وجود مثل هذه الصلاحيات، لم يستطع روزفلت التخلص ببساطة من الكساد الذي أغرق البلاد إلى هذا الحد بمجرد تمنيه حصول ذلك. في نفس اللحظة التي كان يخبر فيها البلاد، أن "الشيء الوحيد الذي يجب أن نخافه هو الخوف نفسه"، كان الأميركيون المذعورون يسحبون مدخرات حياتهم من البنوك ويجبرون المحافظين على إعلان عطل رسمية في المصارف، لوقف التهافت. أفلست آلاف البنوك في المدن الصغيرة، حتى أن وول ستريت نفسها واجهت الإفلاس.
لم يهدر روزفلت أي وقت، وفي يوم الاثنين بعد تنصيبه، أعلن عطلة البنوك الوطنية، ويوم الخميس، وقّع تشريعاً لضمان الودائع. في يوم الأحد التالي، في إحدى أوائل "الدردشات غير الرسمية" المتعددة التي كان يقوم بها، ناشد الأميركيين ترك أموالهم في البنوك بدلاً من إخفائها تحت فُرُشهم. وبحسب ما قاله عالم السياسة ريموند مولي، عضو في ما يسمى "برين ترست"، وهي مجموعة مستشارين موثوقين لروزفلت، "لقد أُنقذت الرأسمالية في ثمانية أيام".
لكن ماذا عن العاطلين من العمل والجياع؟ في غضون أول مئة يوم من إدارته (وهو معيار جديد لرؤساء المستقبل)، أنشأ روزفلت فيلق حماية المدنيين، فقام بتعيين 250 ألف شاب للعمل في رعاية الأرض. كان يطلَق عليهم اسم "جيش شجرة روزفلت". ولأولئك الذين وقفوا في الصفوف في انتظار رغيف الخبز واعتمدوا على الأعمال الخيرية، أنشأ الكونغرس "الوكالة الفيدرالية للإغاثة في حالات الطوارئ"، التي قدمت إعانات للولايات لإطعام الجياع. في أول يوم له في العمل، وأنشأ هاري هوبكنز، أحد أقرب مستشاري فرانكلين روزفلت ورئيس تلك الوكالة، متجراً في مكتب الردهة وخلال أول ساعتين له أنفق 5 ملايين دولار. أشار هذا النهج إلى اختلاف صارخ عن هوفر، الذي اعتمد على قروض الشركات الكبرى على أمل فارغ في تحقيق الازدهار.
لمساعدة الناس على مواجهة شتاء 1933-1934، أشرف هوبكنز على إنشاء إدارة الأشغال المدنية، التي منحت وظائف لأكثر من ثلاثة ملايين أميركي، بحلول عيد الميلاد الأول لروزفلت في البيت الأبيض. أنشأ روزفلت أيضاً برنامجين لخلق فرص العمل، استمرا طوال فترة الصفقة الجديدة (إدارة الأشغال العامة وإدارة تقدم الأشغال) ومنحهما ميزانيات أكبر من أي نفقات عامة سابقة في وقت السلم، بينما عملت إدارة الأشغال العامة PWA من خلال متعاقدين من القطاع الخاص، وركزت على مشاريع واسعة النطاق، ووظفت إدارة تقدم الأشغال WPA العاطلين من العمل مباشرة (8.5 مليون، كما قيل) بدأوا يعملون على الفور.
لم يوفر البرنامجان الإغاثة فحسب، بل قاما أيضاً بإرساء الأساس للنمو الاقتصادي لعقود قادمة. في كل عام، اشترت إدارة الأشغال العامة PWA ما يقرب من نصف الخرسانة وثلث الفولاذ في الولايات المتحدة. من 650.000 ميل من الطرق و800 مطار إلى آلاف السدود والمجاري، أنشأت الإدارتان بنية تحتية ضخمة، خاصة في الجنوب والغرب المتخلّفين. بنت إدارة الأشغال المدنية مدارس جديدة في نحو نصف المقاطعات، بما في ذلك مدارس الأميركيين من أصل أفريقي في 24 ولاية، معظمها في الجنوب.
في الواقع، خفف هذان البرنامجان أسوأ فترات الكساد العظيم. لكن بقي السؤال الأساس، ما الذي يتطلبه الأمر لتجنب كساد آخر؟
منذ بداية رئاسته، كرر روزفلت نفس الرسالة، كان الاقتصاد غير متوازن. شهدت العشرينيات من القرن الماضي نمواً هائلاً، حين أطلقت شركتا فورد وشيفروليه خطوط التجميع، ووصل سوق الأسهم إلى مستويات جديدة. لكن الدخل والثروة بقيا مركزين في الطبقة الغنية. قبل سنوات من قيام الثورة الكينزية بإيقاظ الاقتصاديين على أهمية الحفاظ على الطلب، رأى صانعو السياسة الليبراليون أزمة الرأسمالية في الاقتصاد الاستهلاكي الحديث، وجادلوا بأن الدولة وحدها هي التي يمكنها إصلاحها. قال روزفلت، "مهمتنا الآن ليست اكتشاف الموارد الطبيعية أو استغلالها، أو بالضرورة إنتاج مزيد من السلع، بل هي العمل الأكثر واقعية والأقل دراماتيكية... لمواجهة مشكلة نقص الاستهلاك... وتوزيع الثروة والمنتجات بشكل أكثر إنصافاً، وتكييف المنظمات الاقتصادية القائمة لخدمة الشعب".
إنقاذ المزارعين
على رأس قائمة أولئك الذين يحتاجون إلى الإنقاذ، كان هناك مزارعون عانوا بشدة طوال عشرينيات القرن الماضي، ووصلوا إلى حالة من الغضب والاستنفار. وبعد أن رهنوا أراضيهم لتوسيع وشراء معدات حديثة خلال الحرب العالمية الأولى، وجدوا أنفسهم غارقين في الديون ووقعوا في حلقة مفرغة، ومع إغراق السوق بمحاصيلهم أكثر فأكثر، انخفضت أسعار السلع الأساسية باستمرار. بين العامين 1929 و1932، انخفض متوسط دخل الفرد في أسر المزارعين بأكثر من الثلثين. وبحلول يوم تنصيب فرانكلين روزفلت، كانت كمية القمح المزروعة في ملعب كرة قدم تساوي قيمة زوج من الأحذية بـ 4 دولارات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كان روزفلت مصمماً على إنقاذ المزارعين. ومن خلال إنشاء إدارة التكيف الزراعي، سمح لهم بالدخول في عقود مع الحكومة الفيدرالية لتلقي مدفوعات نقدية مباشرة مقابل الحد من إنتاجهم، وفي دردشة غير رسمية لدفع الكونغرس على تمرير مشروع القانون، على الرغم من معارضة أعضاء مجلس الشيوخ المتشككين الذين يخشون الاستيلاء الفيدرالي على الزراعة، حاول روزفلت تصوير البرنامج على أنه ديمقراطي وليس راديكالياً. وأشار إلى طبيعته التطوعية ودعمه للجان المحلية التي ستقرر الحصص لكل مزرعة، ووصفه بأنه "شراكة بين الحكومة والزراعة، وليس شراكة في الأرباح". ومع ذلك، كان الجميع يعلم أن إدارة التكيف الزراعي مثلت مستوى غير مسبوق من المشاركة الفيدرالية في أقدم الأعمال.
وقعت مشكلات بالتأكيد، كانت أكثرها إلحاحاً كيفية النظر إلى فكرة الدفع للمزارعين لحرث محاصيلهم في وقت كان فيه كثيرون يعانون من الجوع. اشترت الحكومة ستة ملايين خنزير قُتل بعضها في ما وصفه النقاد بـ"ذبح الأبرياء"، علاوة على ذلك، لقمع المعارضة من المشرعين الجنوبيين، الذين كانوا يسيطرون على اللجان الرئيسة في الكونغرس، أعطى البرنامج النهائي شيكات لأصحاب الأراضي بدلاً من تقديم المساعدة مباشرة للمزارعين. وهذا يعني أنه طُرد ما يقرب من مليون مزارع مستأجر من الأرض. لكن الصفقة الجديدة عززت دخل المزارعين، بالتالي طلب المستهلك أيضاً. وأوضح روزفلت أنه من دون هذه الخطة، "لا يمكن لملايين الأشخاص العاملين في الصناعة في المدن بيع المنتجات الصناعية إلى النصف العامل في الزراعة في الأمة".
أصبح بعض العاملين في مجال الزراعة أكثر فقراً. فقدم روزفلت هبات وقروضاً لإعادة توطين مئات الآلاف من المزارعين المعوزين، وبناء معسكرات فيدرالية للعمال المهاجرين.
في الاتحاد قوة
وأحدثت "الصفقة الجديدة" التي وعد بها روزفلت ثورة في المصانع والمطاحن والمناجم في الولايات المتحدة، مثل المزارعين، استُبعد العمال الصناعيون في فترة الازدهار في عشرينيات القرن الماضي. 40 في المئة من العائلات الأفقر غير العاملة في الزراعة تقاضت ما متوسطه 725 دولاراً سنوياً فقط، في الوقت الذي كلف فيه الراديو، وهو أحدث غرض استهلاكي، 75 دولاراً. وعلى مدار عشرينيات القرن الماضي، انخفض الدخل المتاح لنسبة الـ93 في المئة الأكثر فقراً من العمال غير الزراعيين، بينما ارتفع بنسبة 75 في المئة لنسبة الـ1 في المئة الأغنى.
لزيادة دخلهم، سعى روزفلت إلى منح العمال الحق في تشكيل نقابات، أراد أن يحل مشكلة نقص الاستهلاك ليس من خلال الإنفاق الحكومي، بل من خلال توسيع قدرة العمال على المساومة، ما قد يسمح لهم بالحصول من رؤسائهم على رواتب أعلى. وجادل في دردشة غير رسمية بأن ذلك "أفضل لصاحب العمل من البطالة والأجور المنخفضة، لأنه يزيد من عدد شراة منتجه". قدم روزفلت هذا السبب كمبرر منطقي، لكنه مثّل نقطة تحول تاريخية في عشرينيات القرن الماضي، عندما قمعت أوامر المحكمة وميليشيات الدولة النشاط العمالي.
أما قانون الانتعاش الصناعي الوطني، الذي تم تمريره أيضاً في الأيام المئة الأولى من عهد روزفلت، فقد علق قوانين مكافحة الاحتكار للسماح للشركات بتنسيق الإنتاج والأجور. وثبت أنه فاشل، حيث استخدمه في الغالب قادة الأعمال لمواصلة تقليل عدد الساعات وتخفيض الأجور. لكن القانون حمى حق العمال في التنظيم النقابي، بالتالي غرس بذرة إحدى الإصلاحات الأكثر بعداً للنظر الناتجة من الصفقة الجديدة (إدخال الديمقراطية إلى مكان العمل).
كان من المفيد أن روزفلت وقف إلى جانب العمال. فأعلن جون لويس، رئيس اتحاد عمال المناجم في أميركا، "الرئيس يريدكم أن تنضموا إلى نقابة". في الولايات المنتجة للفحم، سارع عمال المناجم إلى التنظيم النقابي بعد خشيتهم لفترة طويلة من عواقب الانضمام للاتحاد. لكن الحقوق الجديدة، بخاصة تلك التي تحدت امتيازات الشركات الكبرى لم تتحقق بسهولة. في ربيع وصيف العام 1934 نزل العمال المضربون إلى الشوارع في توليدو ومينيابوليس وسان فرانسيسكو، مطالبين أصحاب العمل بالاعتراف بحقهم في التنظيم، واشتبكوا بعنف مع الشرطة. ولكن بحلول الوقت الذي أدلى فيه الأميركيون بأصواتهم في الانتخابات النصفية في نوفمبر (تشرين الثاني)، نجحت برامج الصفقة الجديدة في خفض البطالة بالملايين، وخلق إحساس بالانتماء الوطني. زاد الديمقراطيون أغلبيتهم بمقدار تسعة في مجلس النواب وعشرة في مجلس الشيوخ، وهي المرة الثانية فحسب منذ الحرب الأهلية التي وسع فيها الحزب الحاكم تمثيله في الكونغرس.
وأرسى الانتصار الانتخابي الأساس لمزيد من الإصلاحات بعيدة المدى. في صيف العام 1935، حصل السناتور روبرت واجنر من نيويورك، وهو الليبرالي البارز في الكونغرس، على الأصوات اللازمة للموافقة على ما أصبح يعرف باسم قانون واجنر أو "فاجنر" للمرة الأولى، ولم يكتسب العمال حق التحدث بحرية وتقديم الالتماسات والتجمع فحسب، بل أيضاً حق اختيار نقابتهم في الانتخابات التي أصبحت تشرف عليها الحكومة الفيدرالية من دون تدخل صاحب العمل. في العامين التاليين لإقرار القانون، أضرب نحو خمسة ملايين عامل لإجبار أصحاب العمل على الالتزام بالقانون الجديد. وحدثت أشهر إضراب في شركة جنرال موتورز في فلينت بولاية ميشيغان، حيث بدأ عمال السيارات في بداية العام 1936، "إضراب الجلوس في مكان العمل"، فاحتلوا المصانع فعلياً وفازوا في النهاية باعتراف النقابات. وكما قال أحد موظفي جنرال موتورز، "حتى لو لم نحصل على شيء آخر، اكتسبنا على الأقل الحق في أن نفتح أفواهنا من دون خوف".
نظام جديد
إلى جانب الحق في التنظيم النقابي، أعطت الصفقة الجديدة العمال الحق في التأمين الاجتماعي، مع الموافقة على قانون الضمان الاجتماعي. جادل فرانكلين روزفلت بأنه في زمن البطالة الهائلة كان على الحكومة أن توفر الحماية ضد تقلبات الحياة، مثل فقدان الوظيفة أو الفقر في سن الشيخوخة،
كان للقانون عيوبه، فمن ناحية، استبعد العمال المنزليين والزراعيين، بالتالي أهمل الغالبية العظمى من العمال الأميركيين من أصل أفريقي، وهو الثمن الذي انتزعه المشرعون الجنوبيون في جيم كرو ساوث مقابل دعمهم لمشروع القانون. من ناحية أخرى، أنشأ القانون نظاماً ذا نهجين، يقدم معاشات تقاعدية للرجل المعيل إلى حد كبير، بينما يمنح مساعدات عامة بخيلة ومرهونة بمستوى الدخل والإمكانات للأرامل وذوي الاحتياجات الخاصة والأطفال الذين ليس لديهم آباء يتقاضون أجراً.
مع ذلك، بقدر ما استند الضمان الاجتماعي وبرامج الصفقة الجديدة الأخرى على الافتراضات القائمة حول العرق والجنس، التي كانت تميز العمال الذكور البيض، إلا أنها أدخلت الحكومة الفيدرالية إلى كل مدينة في البلاد، حارمةً المسؤولين المحليين من سلطتهم التاريخية للحكم بنفوذ لا جدال فيه على النظام الاجتماعي القائم من المَزارع إلى المصانع، وأُنشئ رابط جديد بين الحكومة الفيدرالية والفقراء، مع إمكانية قلب العلاقات الاقتصادية رأساً على عقب في أليكويبا بولاية بنسلفانيا، حيث سيطر أباطرة الفولاذ المناهضون للنقابات وتحكموا بسياسات المدينة لعقود، سار عمال الفولاذ لدعم روزفلت. كتبوا على اللافتات التي حملوها "أميركا لك، نظمها وطالب بها!".
اعتقد فرانكلين روزفلت أن "الصفقة الجديدة" ستعمل على منع الكساد في المستقبل جزئياً من خلال تشجيع المواطنين على المطالبة بمجموعة جديدة من الحقوق الاقتصادية، التي يحميها "نظام دستوري اقتصادي" جديد، كما أسماه، وكان الهدف كما أوضح عندما ترشح لأول مرة للرئاسة، هو تمكين الأميركيين من تحقيق "فرصة أكثر إنصافاً للمشاركة في توزيع الثروة الوطنية". بعد عقد من التكهنات في وول ستريت وسوق الأوراق المالية المرتفعة، التي لم يفعل سلف روزفلت كثيراً لكبح جماحها، فهم الجميع راديكالية هذه الكلمات.
ذلك الرجل في البيت الأبيض
على الرغم من أن كثيرين يتذكرونه اليوم كبطل عظيم، إلا أن روزفلت لم يكن محبوباً عالمياً في أيامه. ومقابل الملايين الذين احترموه وأعادوه إلى المنصب ثلاث مرات، كان هناك الملايين الذين احتقروه. لقد أطلقوا عليه لقب الديكتاتور والخائن لطبقته. وبعض الأشخاص غير الراغبين في النطق باسمه حتى، أشاروا إليه قائلين "ذلك الرجل في البيت الأبيض".
لم يكن هذا مفاجئاً لروزفلت. وقد قال في العام 1936، بعد وقت قصير من استطلاع للرأي اكتشف أن 83 في المئة من الجمهوريين يعتقدون أن إدارته قد تؤدي إلى الديكتاتورية. "هناك قضية واحدة في هذه الحملة، وهي أنا، وينبغي أن يكون الناس إما معي أو ضدي". وفي عيد الهالوين، أقام مسيرة حاشدة في ماديسون سكوير غاردن، وأعلن بتحدّ، "لم يحدث من قبل في كل تاريخنا أن توحدت هذه القوى ضد مرشح واحد كما هي اليوم" "إنهم متفقون على كرههم لي، وأنا أرحب بكراهيتهم". بعد ثلاثة أيام، فاز روزفلت بإعادة انتخابه بنسبة 60 في المئة من الأصوات الشعبية، وكان هذا أكبر فوز منذ العام 1820.
إن معارضي روزفلت لم يكرهوه لأنه تخلى عن ولائه لتربيته الأرستقراطية، ولا لأنه كان مصمماً على اكتساب سلطة تنفيذية غير مسبوقة، وكلاهما كان صحيحاً. لقد كرهوه لأنه انقطع جذرياً عن السياسة العامة التقليدية. كانت الصفقة الجديدة شائعة جداً لدرجة أن الحزب الديمقراطي اجتذب الملايين من الناخبين الجدد من الطبقة العاملة والمهاجرين والأميركيين من أصل أفريقي، ما أدى إلى تحالف دائم قاد روزفلت ومن ثم نائبه الأخير هاري ترومان إلى النصر. لقد منح الديمقراطيين السيطرة على مجلسي الكونغرس لمعظم السنوات الخمسين التالية، ما سمح لهم بوضع جدول الأعمال التشريعي لعقود قادمة. لكن سياسات روزفلت خلقت عن قصد فائزين وخاسرين، على حد تعبيره هو نفسه، "يتذمر الملكيون الاقتصاديون من أننا نسعى للإطاحة بالمؤسسات الأميركية، ولكن ما يشكون منه حقاً هو أننا نسعى إلى نزع سلطتهم".
في زمن الطوارئ الوطنية، مع يأس كبير في الداخل وظهور الطغاة في الخارج، سعى روزفلت إلى إعادة بناء الاقتصاد الأميركي كوسيلة لاستعادة الازدهار والحفاظ على الديمقراطية، وأثناء استقصائه عن الدمار في العام 1932 أعلم البلاد بأنه لن يتخذ إجراءات "مؤقتة". وقال، "يجب أن يذهب العلاج الاقتصادي الحقيقي إلى قتل البكتيريا في النظام بدلاً من علاج الأعراض الخارجية"، فالحل الحقيقي يتطلب ما أسماه "البناء من الأسفل إلى الأعلى"، وإذا كان روزفلت قد أجج العداوات، فقد فعل ذلك لأنه اعتقد أنه بهدف النجاح كان على الصفقة الجديدة أن تحل محل روح الاعتماد الفردي على الذات، بتوسيع السلطات الحكومية التي يمكن أن تعزز مداخيل وإمكانات الملايين من الناس في أدنى درجة من السلم الاقتصادي، لم يكن وقت ضبط النفس.
وبعد قرن من الزمان تقريباً، تواجه الولايات المتحدة مرة أخرى تهديدات ملحمية للجسم السياسي، جائحة كورونا، وتراجع اقتصادي حاد، وهجمات على مؤسساتها الديمقراطية. رئيس جمهوري لا يحظى بشعبية يُنظر إليه على أنه لم يفعل كثيراً لحل أزمة الأمة، خسر الانتخابات وترك منصبه. ومثل روزفلت، يواجه الرئيس الديمقراطي الجديد خياراً بين التدريجي والجريء في التعامل مع الصدمة التي تواجهها واشنطن، يمكنها أن تقرر أن تكتفي بالدور المحدود الذي لعبته تقليدياً في السنوات الأخيرة، على أمل أن الاستمرار في ذلك سيخرج البلاد بطريقة ما من مأزقها الحالي. لكن الأوقات العصيبة تتطلب اتخاذ تدابير يائسة، بالتالي فإن المسار الأكثر حكمة هو العمل وارتكاب الأخطاء بدلاً من التقاعس عن العمل.
قال روزفلت في العام 1936، حين قبل إعادة ترشيح حزبه له في فيلادلفيا: "الحكومات قد ترتكب إثماً، والرؤساء يخطئون، لكن دانتي الخالد (دانتي أليغييري شاعر وفيلسوف إيطالي عاش خلال القرون الوسطى واشتهر بكتابه الملحمي الكوميديا الإلهية)، يخبرنا أن العدالة الإلهية لا تزن خطايا الذنوب المرتكبة بدم بارد وخطايا ذوي القلوب الدافئة بالميزان نفسه. فالأخطاء العرضية لحكومة تعيش بروح الإحسان أفضل من الإغفال المستمر لحكومة مجمدة في جليد لامبالاتها".