سعياً وراء مخاطبة الإدارة الأميركية الجديدة، جاء قرار الرئيس محمود عباس باستئناف الاتصالات والتنسيق الأمني، وتلته سلسلة من الخطوات السياسية والأمنية والإدارية والقضائية، والإعلان عن إجراءات متعددة في اتجاهات مختلفة تصب في إطار توجهات حقيقية داخل السلطة في ظل سعي فلسطيني رسمي للحاق بالمشهد الدولي، وتأهب لما هو آت فلسطينياً وإسرائيلياً وأميركياً.
أسباب مباشرة
لا يمثل الذهاب إلى الانتخابات التشريعية سبقاً للمشهد الفلسطيني المتعثر منذ سنوات طويلة في ظل تعثر مشروع المصالحة، وتوقفه عند دائرة محددة في ظل افتقاد الجانبين في حركتي فتح وحماس لإرادة سياسية حقيقية لاستكمال المسار، على الرغم من كل الجهود التي بذلتها كل الأطراف المعنية وعلى رأسها مصر وقطر، بل والأمم المتحدة، وهو ما أجّل الأمر حتى إشعار آخر، في ظل تضارب الرؤى بين المشروعين السياسيين لحماس وفتح معاً، وكان مطلوباً التقاؤهما عند نقطة توافق يمكن البدء بها منذ فترة طويلة.
ويمكن التأكيد أن وصول إدارة جو بايدن للحكم وتوليه، فتح الأبواب الموصدة، وتتعلق بوجود الفرصة المتاحة المرتبطة بالفعل بوجود الأمل في استئناف التفاوض على أسس جديدة، ووفقاً لمرجعيات عملية السلام التي دفنت مع إدارة دونالد ترمب. وتسمح الأجواء الراهنة بالبدء من جديد وهو ما دفع السلطة الفلسطينية للاتجاه إلى المسار الثاني والانفتاح على المشهد الأميركي من جانب، والإسرائيلي من جانب آخر.
وليس بخاف أن الرئيس محمود عباس قد وضع في تقديراته، وهو يصمم الاستحقاقات الزمنية للانتخابات التشريعية والرئاسية والمجلس الوطني، أن يتابع ردود الفعل الأميركية والإسرائيلية على ما يجري في ظل خيارات صعبة تعيشها السلطة، وهي تناور للوصول إليها، خصوصاً وأن الرئيس عباس يعرف أن المشوار وعر وصعب، وقد يواجَه بعديد من الصعوبات، ولهذا قام بإجراء تغييرات حقيقية في مؤسسات السلطة الداخلية، ولم يقصرها على قيادات أمنية، بل قام بتغيير بنود نظام الانتخابات، وهو ما قوبل باعتراضات حقيقية ستثار على مستويات أكبر لاحقاً عند الدخول في مرحلة التنفيذ الفعلي، وعلى اعتبار أن انتخابات التشريعي ستكون جس نبض واختباراً حقيقياً لجدية الرئيس عباس ومدى التزامه نتائجها، فالرجل يعرف أن حركة فتح ليست في أحسن حالاتها وتعاني من أزمات حقيقية وانقسامات وصراعات لا يمكن أن تحسم بين ليلة وضحاها، وعلى الرغم من سيطرة عباس على مقاليد الأوضاع، إلا أن كل عوامل التفجر قائمة سواء جرت انتخابات أو لم تجر، فالمشكلة قائمة، وهي أن حماس لا تملك فرصاً حقيقية للفوز وتحقيق الأغلبية المنشودة كما هو متردد، بالتالي فإن عباس أمامه فرص محددة، وليست متعددة، وهو يواجه أزمة المنظمة ولجنتها المركزية أيضاً، وإن كان رهانه على ممارسة السياسة من منطلق الموجود في السلطة، وهذا أمر سيحتاج إلى مراجعة إذا جرت انتخابات حرة حقيقية تحت مراقبة متعددة، لا تقتصر على مصر والأردن ودول عربية أو إسلامية كما هو مقدر.
وتتواصل الاتصالات بين السلطة ومصر والأردن، ومن وراء ستار مع الإدارة الأميركية الجديدة، وقد جرت لقاءات قبل تولي الرئيس بايدن بهدف نقل رسالة فلسطينية، بأن السلطة ستقوم بتغيير وتدوير مواقفها بالكامل وستعمل على تنفيذ ما ستطرحه الإدارة الأميركية بصورة مسبقة، وهو ما سيتيح التحرك على مسارات واتجاهات مختلفة، الأمر الذي يفسر تحركات عباس في الداخل وإجراءاته الأخيرة، إضافة للبدء في إعادة الملف الفلسطيني للواجهة الدولية عبر مخطط إعلامي وسياسي، ولكن الإشكالية الكبرى في احتمالات تحفظ حركة حماس على ما يجري، ولا تزال الانتقادات داخل القطاع ليست من حركة حماس فقط بل أيضاً من الفصائل الفلسطينية الأخرى، وعلى رأسها الجهاد الفلسطيني والجبهتان الشعبية والديمقراطية، وبعضها سيقاطع الانتخابات أصلاً.
إشكالات حقيقية
إذا عاد للمشهد الرسمي مروان البرغوثي، فإن الرئيس عباس سيواجه مأزقاً سياسياً حقيقياً داخل فتح وخارجها، والرجل يريد بالفعل عدم المجازفة السياسية، وإن كانت كل المؤشرات تقول، إن البرغوثي سيكون ورقة مهمة وحاسمة، وسيرجح كفة أي مرشح، ولا تمانع إسرائيل في إخراجه من المعتقل عند الضرورة في إطار صفقة تبادل الأسرى على غرار ما جرى مع أحمد ياسين، الذي اعتقل قبل وبعد ترؤسه حركة حماس، والوقائع كثيرة في هذا السياق، وإذا ترشح مروان البرغوثي، فإن القيادي السابق في حركة فتح، محمد دحلان، لن يتقدم للترشح أو أنه سيدعم البرغوثي، إلا أن الشواهد تركز على أن مروان ودحلان قد يقبلان بالمنافسة بهدف كشف شعبية الرئيس عباس الحالية، وأن الرأي العام الفلسطيني يريد التغيير الحقيقي، وليس لعبة توزيع الأدوار.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي هذا الإطار، إذا ترشح دحلان رسمياً، فإن هناك إشكالية متعلقة بدعمه عربياً ودوره في المشهد المقبل، لا سيما وأن تياره المعروف بتيار الإصلاح قوي وحاضر في قطاع غزة، وله تواجده عربياً، وهو ما قد يقود إلى منافسة إذا لم يمثل في قائمة فتح الرئيسة، وإن كان التوجه بالتأكيد عدم دخول قائمة واحدة، بل وربما عمل عباس على إقصاء دحلان نفسه لصدور حكم عليه سابقاً، بالتالي، فإن الصراع على الموقع محسوم مسبقاً، ما لم تكن هناك توافقات أخرى ستدخلها أطراف عربية على الخط لاحقاً.
مشكلة حماس
إزاء أن حماس لا تريد موقع الرئاسة، فإنها ستقبل بترشح عباس، ولن تمانع في بقائه، ولكن مشكلة حماس الحقيقية ليست مع حركة فتح، وإنما معركتها في الاستمرار في حكم القطاع أصلاً، والسؤال، هل ستقبل بنتائج الانتخابات، أياً كانت"، وماذا عن البديل وما هو مستقبل أجهزتها الأمنية والإدارية؟، وقد أنشأت الحركة طوال سنوات ما بعد الانقلاب سلطة موازية مقيمة بكل معطياتها على الأرض، وهو ما يؤكد أن التحسب بقبول حركة حماس بكل ما سيجر قائم، خصوصاً أن الجانبين الأميركي والإسرائيلي لا يريدان حركة حماس، وسيرفضان التعامل معها ما لم تنزع سلاحها وهو أمر مستبعد تماماً، ولن يتم أبداً، وهذا السلاح قد يرفع في مواجهة أي طرف بما في ذلك في وجه السلطة عند الضرورة، كما أن حركة حماس ستشهد انتخابات جديدة داخلياً، قد تعيد النفوذ القطري بصورة كبيرة في حال عودة خالد مشعل المتوقعة لرئاسة المكتب السياسي، وهو ما يتحسب له الجميع، خصوصاً أن كتائب عز الدين القسام والتيار الداخلي في القطاع يريدان استمرار إسماعيل هنية، بعض الوقت، ومن ثم، فإن حالة عدم الاستقرار الراهنة في الحركة، قد تعطل التجاوب مع أي موقف بما في ذلك الدخول في الانتخابات التشريعية، ووقتها سيكون لكل حادث حديث، وربما تبقى الأمور على حالها، أو تجرى سراً كعادة حركة حماس وعدم الإفصاح عن نتائجها أصلاً.
وليست القضية إذاً، مرتبطة بطرف واحد، فالمشهد الفلسطيني بأكمله معقد ومرتبك ويعمل في مسارات متعددة، ولن يستقر بالصورة المنشودة، لا سيما وأن كل طرف يتحسب لنتائج ما سيجري، وهناك مخاوف تشمل الجميع من السيناريو المقبل، خصوصاً وأن الخطوة التالية فلسطينياً إجراء القاهرة اتصالات ولقاءات فلسطينية في إطار حوار فلسطيني شامل، وربما سيبنى الجدول الوطني المفترض أن يتم، وليس فقط إجراء الانتخابات تباعاً وهو ما تخطط له القاهرة مدعومة أردنياً لاستئناف الاتصالات واللقاءات على مستويات محددة، على أن يشارك فيها الجميع من دون إقصاء أي طرف من الصورة، إلا أن الأمر سيكون مرتبطاً بمواقف بعض الدول مثل قطر، وهل ستقف في موقعها في ظل علاقاتها بحركة حماس ومسعاها للدخول بقوة على الخط في مواجهة ما تقوم به القاهرة وعمان، وإن كانت الولايات المتحدة قد تتجه لجمع كل الأطراف بما فيها قطر، في إشارة إلى حسم الأمر، لكن هذا التصور مستبعد تنفيذه واقعياً وسيبقى في إطاره، نظراً لانشغال الإدارة الأميركية بملفاتها الداخلية، إلا أنها ستباشر الاتصالات مع الجانب الفلسطيني وستقدم قائمة تحفيزية حقيقية للعمل معاً بعد أن تكون قد تابعت سير ما يجري.
الخلاصات الأخيرة
ما سيجري في القاهرة من لقاءات سترتب الأولويات الفلسطينية، ولكن ستبقى المشكلة الحقيقية في تنفيذ ما سيتم فعلياً ويجري الاتفاق عليه، هل إذا انسحبت حركة حماس من المشهد ستستمر السلطة الفلسطينية في مسارها؟
أيضاً، بورصة الأسماء المرشحة للرئاسة ستتركز في الرئيس محمود عباس، ولكن محمد دحلان سيخوض معركة حقيقية في حال عدم ترشح مروان البرغوثي، وفي حال إبعاد دحلان بقرار قضائي، فإن الاتجاهات العامة ستشير إلى تسييس كل الخطوات المقبلة وعدم الاعتراف بنتائجها مسبقاً، وسيدور الفلسطينيون في دائرة محددة لا خروج منها.
كذلك، مركز الحركة الفلسطينية سيكون لحركة حماس وليس لفتح، خصوصاً وأن الوضع في حركة حماس ليس جيداً وقد يؤدي إلى صراعات غير معلنة بين تيارات حماس المتعددة داخلياً وخارجياً.
وهكذا سيظل المشهد الفلسطيني مفتوحاً على سيناريوهات عدة، ولكن سيبقى السيناريو الصفري وهو انقطاع السيناريو المخطط له، فقد تجرى انتخابات تشريعية ولا يعترف بنتائجها أحد، وقد يتعثر المسار بأكمله إذا جلست القوى الفلسطينية لصياغة جدول الأعمال وإجراء المتوافقات المطلوبة، وأخيراً، قد تتم الخطوة مرحلياً، وقد تتوقف عند مرحلة لندخل في دائرة جديدة من التجاذب.