يسعى الشاعر عقل العويط إلى أن يجعل من حادثة انفجار مرفأ بيروت حدثاً في قلب اللغة، فيكون الشعر شاهداً وشهيداً في آن واحد، يشهد للوقيعة الرهيبة ويعيشها في الصميم، جاعلاً من القصيدة حيزاً لغوياً وبصرياً، حسياً ومجازياً، تنعكس في ثناياها أو طبقاتها، اللحظة المأسوية التي حلّت كالصاعقة وأحدثت من الخراب المادي والنفسي ما يفوق التصور.
أطلق العويط على قصيدته عنواناً تأريخياً يحمل دلالاته في عمقه، هو "الرابع من آب 2020" (دار شرق الكتب، 2021)، ولم يلجأ إلى العناوين المركبة والصاخبة، فهذا العنوان ببساطته يخفي هول الفاجعة التي قد لا يقوم لها وصف، تماماً مثل بيروت التي خاطبها الشاعر في مستهل القصيدة متسائلاً بحيرة : "كيف أصفك / يابيروت؟".
وهذا السؤال لن يني يطرح نفسه أكثر من مرة، ما يؤكد حجم المأساة، المادية والوجودية التي عاشتها وتعيشها المدينة التي هي البلاد أيضاً.
لكنّ العجز عن وصف المدينة المدمرة هو الحيلة التي يعتمدها الشاعر كي"يصف" بيروت الخراب في لا وصفها أو في إضمار وصفها وإبطانه.
وصف بيروت قبل هذا اليوم الرابع من آب يختلف عنه بعد هذا اليوم المشؤوم، لكنّ المدينة تحضر ملء القصيدة، بمآثرها وخصالها التاريخية، بجسدها وروحها المعذبين أصلاً قبل المأساة، بآلامها وآلام أهلها الذين ثاروا احتجاجاً على قتل البلد وتمرّدوا على القتلة الذين عبثاً يهربون "من مرايا كوابيسهم" كما يقول الشاعر.
ليست بيروت مدينة فحسب في قصيدة عقل العويط، إنها مدينة مثلما هي امرأة، مثلما هي كائن حلّت عليه لعنة القدر في تجليه الإغريقي. وعندما أقول امرأة فإنما أقصد المرأة في تجلياتها كافة، الحبيبة والأم والأخت والابنة، وكذلك الأرملة، وهي المواصفات التي اختارها الشاعر ليخاطبها بها.
ولعله خرج بهذه المواصفات، عن مجاز المرأة – الوطن أو الحبيبة – الوطن، الذي شاع كثيراً حتى كاد يفقد خصوصيته. ففي مطلع القصيدة تحضر بيروت في صيغة المؤنث التي تحملها بالضرورة، ولكن لا كحبيبة أو عشيقة بل كامرأة (وربما فتاة) تحتضر وتحشرج، تتنفس ببطء وتموت ببطء، كما يقول الشاعر.
المرأة – المدينة هي كائن على سرير الاحتضار، منهكة ومدمرة، ولن يلبث الشاعر أن يقيم لها بنفسه جنازة احتفالية شبه طقسية، تشارك فيها "أبواق وصداحات وموسيقى ركام وأوركسترا ومواء هررة..."، ما يذكّر بجو أناشيد القيامة في النصوص الرؤيوية. ويمكن القول إن الشعر يؤنسن المدينة أنسنة مطلقة، جاعلاً منها جسداً بشرياً، لا يكاد يسمع له، في أوج الصدمة، نبض او نفَس بين الخرائب.
مرثية المدينة
ولئن اعترف الشاعر إبان رثائه بيروت أن "ليس ممتعاً ولا مناسباً/ توقيت هذا الرثاء"، فإنما كي يرثيها رثاء شبه ديني على طريقة النبي إرميا الذي رثى المدينة المقدسة في التوراة، أجمل ما يمكن أن ترثى به مدينة في الأدبيات القديمة.
ففي الفقرة الثانية من مراثي إرميا يقول النبي عن مدينته بحسب ترجمة المعلم إبراهيم اليازجي:"تبكي بكاءً في الليل ودموعها على خديها. لا معزي له من جميع محبها. كل أخلائها غدروا بها وصاروا لها أعداء".
أما الشاعر الحديث فلا يرثي رثاء الأنبياء، بل يواجه المدينة المهدمة مواجهة واقعية ورمزية في آن، تندمج فيها روائح الحرائق وألسنة النيران وجراح الأرواح وأشلاء القلوب... يقول الشاعر: "يا مدينة الكبريت والصدأ/ ستنامين في المقبرة العارية / بلا قمر عليك".
وفي فقرة أخرى يخاطب المدينة: "أغسلك بصدأ قلبي /تغسلينني بماء الرحم". إنها العلاقة الرحمية بين الشاعر ومدينته، فرحم المدينة تستحيل هنا رحم الأم والحبيبة، رحم الولادة ورحم الحب والرغبة.
غير أن الشاعر الذي يرثي المدينة "السابقة والمفقودة" لا يفقد بصيصاً ولو ضئيلاً من أمل، متمثلاً في معجزة المسيح الذي لا بد منه "ليمشي على مائك"، كما يقول. والمسيح هنا يماثل الرب في مراثي أرميا الذي خاطبته المدينة القديمة المدمرة قائلة: "عادلٌ الرب لأني عصيت أمره". ثم تقول: "أنظر يا رب فإني في ضيق".
لكن مدينة النبي تلقّت هذا العقاب لأنها "عصيت عصياناً"، أما بيروت، فهو قدرها الذي رسمه لها الشر والأشرار، الخونة والقتلة، الطغاة الذين "ملحهم فاسد"، القصور الفاسدة وسرّاقها الفاسدون، كما يعبر الشاعر.
وهؤلاء "القتلة" كما يسميهم، "عبثاً يهربون من مرايا كوابيسهم، عبثاً يهربون من مصائرهم". أما القتلى، قتلى بيروت، فـ"لن تقوم لهم قيامة، إلا إذا مرّرت يدُ المسيح جروحها على ابتساماتهم البكماء". لعله "المسيح بعد الصلب" بحسب قصيدة بدر شاكر السياب، المسيح الذي انفتحت جروحه لحظة دوى الصراخ وارتفعت أصوات الاستغاثة.
أما بصيص الأمل أو الرجاء، الذي جسده المسيح فهو الذي يحمل الشاعر على مخاطبة المدينة بصوت رخيم قائلاً: "منارتك ستعثر عليك وسيعود بك الصيادون إلى الميناء مع الفجر، وعلى الزورق مسيح يهدئ الروع، وفي الشِباك سمك غفير". يقول الشاعر هذا، بعدما قال هامساً في أذن مدينته: "ستموتين كثيراً، وكلّ وقت. لكنك لن تكوني حصة أحد. ولن يسبيك أحد. ما أجمل أن مراسك صعب وأنت على فراش الموت".
كأن بيروت هي مدينة الشاعر مثلما هي مدينة الأخرين. المدينة هي الشاعر نفسه، هي مرآته، وموتها موته مثلما قيامتها قيامته: "كل ما في الأمر أنني كنت ميتاً"، يقول، ويضيف: "كيف أصف مشهداً / إذا كنت غريقاً فيه؟".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لا تخفي قصيدة "الرابع من آب 2020" نفسَها الملحمي في المفهومين الشعري والإيقاعي. والنفَس هذا يلوح بهدوء متحرراً من الثقل "الموضوعاتي" ومتخففاً من الوقائعية، متدفقاً تدفقاً غنائياً وذاتياً ورثائياً، وتدفقاً إيقاعياً نثرياً بحسب عبارة الناقد الإنجليزي ديريك أتريدج "الاندفاق الإيقاعي المطّرد للنثر" (المجلة الفرنسية "أشكال شعرية معاصرة"- العدد الأول 2003).
قصيدة طويلة لا يمكن تجزئتها، لو تم الأخذ بمقولة الشاعر تي إس اليوت صاحب "الأرض الخراب": إن كل قصيدة طويلة هي مجموعة قصائد قصيرة.
قصيدة عقل العويط تبدو كأنها مكتوبة دفعة واحدة حتى ولو كتبها على مدار أيام وأسابيع. فالبنية الظاهرة كما البنية الداخلية، ملتحمة بنفسها، تبعاً لالتحام قضية القصيدة أو "موضوعها" الذي لا يمكن أن يُجتزأ. وهذا ما يؤكد خيطها الملحمي الخفيف المتواصل سواء عبر لعبة التكرار المقصود أو عبر الدفق النثري الإيقاعي، المتنوع الوحدات والأصداء، وعبر لعبة المخاطبة والتقديم والتأخير والإضمار اللفظي.
والأمثلة على هذه العناصر كثيرة ومنها: "يجب / يجب ألا تموتي"، "أن تعبري جحيماً تلو جحيم"، "إني أرى، إني أرى أرى قتيلاً"، "بيوتك وقتلاك وقتلاك سحلاً يسحلون"،"جدار تلو جدار تلو جدار"، "وأنتِ / من أنتِ / من انتِ؟"... وفي الصفحة 37، يعزف الشاعر على وتر كلمة "قتلاك" ما يجعل المقطوعة ذات إيقاع واضح تماماً.
"الرابع من آب" قصيدة تحتفي بمدينة بيروت الجريحة والمدمرة، بما يؤتى لقصيدة أن تحتفي، لغة وغناء، وهي شهادة شعرية ووجودية لهذه المدينة التي تقاوم البغضاء والكراهية، شهادة الشاعر عندما يستحيل شهيداً حياً ينهض مثل المدينة من الأنقاض على وقع معجزة الزمن.
وتجدر الإشارة اخيراً إلى تصميم غلاف الكتاب الصارخ بقوته الذي أنجزه الرسام إميل منعم معبرأ بخطوط مشرئبة وشظايا أشكال بالأسود والأحمر عن مأساة انفجار مرفأ بيروت.