لم يكتفِ الكاتب المصري عبد النبي فرج في روايته الجديدة "زواحف سامة"، (دار "خطوط وظلال")، بإقامة عالم فني مُوازٍ يحاكي حياة القرويين في الريف الممتد من شاطئ النيل إلى تخوم الصحراء، وإنما ألغى المسافة بين الحقيقي المعيش، والمتخيل الدرامي، ليجد القارئ ذاته منغمساً في قلب الوقائع الطازجة بصحبة الشخوص المأزومين والمطحونين في شبكة الصراعات الدائرة.
والقارئ هنا شأنه شأن المؤلف ذاته، الذي حضر أيضاً في أحابيل النص بشخصيته الأصلية كأحد الرواة المتعددين وأحد الأبطال المشاركين في صناعة الأحداث المرتبكة المتداخلة، ما عزز ذوبان الفواصل تماماً بين لعبتي المسرحين: الواقعي، والروائي.
في روايته السادسة، بعد "طفولة ضائعة"، و"الحروب الأخيرة للعبيد"، و"ريح فبراير"، و"مزرعة الجنرالات"، و"سجن مفتوح"، رسخ فرج (55 عاماً) في عمله الجديد الذي استغرق 268 صفحة ملامح تجربته الخاصة كسارد يحتفي بالبكارة والدهشة، ويراهن على اقتناص الحالات الإنسانية في براءتها وتلقائيتها وتصرفاتها العفوية. فالبشر لديه في أوج أريحيتهم وانفلاتهم من عبوديتهم لأي نظام أو قانون، يمارسون تحررهم وتمردهم وجنونهم بالصورة التي تتراءى لهم، بغض النظر عن الوازع الديني المنسي، ومعيار التقييم الأخلاقي، الذي تآكل بدوره مع المقاييس المجتمعية المتبدلة بسرعة البرق.
حبكة مراوغة
من خلال حبكة فنية مراوغة، بدت ظاهرياً كأنها ذات طبيعة هندسية بتناوب الرواة في الحكي وفق نسق متوازن، نصب المؤلف فِخاخه وشراكه، وأطلق سرابه ومتاهاته عبر السرد المشحون بالفانتازيا، مفتتاً مجموعة الحكايا المتجاورة المتحاورة إلى نثارات منفصلة، وممزقاً البشر إلى هلاهيل بلا عقل أو ذاكرة. وجعل الحاضر والمستقبل بقايا رثة لما خلفه الماضي من حصاد موجع دام، حيث غدت خطوات المنهكين المصرين على مواصلة المشي إمعاناً في الصعود إلى قمة جبل اليأس، واستغراقاً في الذبول في الصحراء الموحشة.
رسم الرواة والأشخاص المتعددين من أبناء الريف (البقال، وصائد الثعابين، والكاتب، والمعلم، والفران، والطالب، والتاجر، وراعي الأغنام، والممرضة، وموظف الوحدة المحلية...) بعناية فائقة وكيف تفكك المجتمع القروي بمعاول المصالح المتضاربة، والطبقية العنيفة التي قضت على المودة والتلاحم، وأفرزت الحقد والكراهية والمادية.
أكسب المؤلف شخوصه أبعاداً أسطورية، فهم أيقونات ورموز لمعانٍ مجردة، مثل الشاب منصور على سبيل المثال، الذي يتعرض للموت كثيراً، ولا يموت أبداً، والذي اقترن منذ صغره بالمخاطر، كصيد الحيوانات البرية والثعابين والزواحف السامة (عنوان الرواية). وانتهى به المقام في ختام العمل إلى قاطع طريق ومحترف أعمال عنيفة واغتيالات وتفجيرات، ومفسد للآخرين، كصديقه محمد طالب الهندسة، الذي جرفه معه إلى الإدمان والجريمة والضياع.
وفي غياب الخوف من أي رادع، صار لا يتحكم في سلوكيات أحد بالقرية غير ضميره ووازعه الذاتي وما بقي لديه من مفاهيم واعتبارات وقيم، الأمر الذي ألهب الصراعات وشحنها بالمفاجآت وبالانجرافات، وبالانحرافات كذلك، غير المتوقعة، لا سيما في ما يخص الجرائم المباشرة، كاللصوصية والرشوة والاعتداءات البدنية والنفسية، والغرائز الفائرة والشهوات الفجة غير المكبوتة، كشهوة الطعام (اصطياد الطفل منصور إوزة من الترعة وذبحها والتهامها بمباركة أسرته)، وشهوة الجنس (بداية من تبادل الصغار والمراهقين القبلات خلسة، وصولاً إلى الخيانات في فراش الزوجية، وزنى المحارم بدم بارد).
بطاقات متناثرة
وشكلت بطاقات الأحداث المتناثرة وشظايا الحكايات الصغيرة، في مجموعها، بانوراما واسعة أو جدارية كبرى لعالم القرية بكل ما فيه من سمات وتفاصيل يومية. وهو باستثناء مراكز النفوذ القليلة المتمثلة في ذوي السلطة والمال والجاه، عالم يعج بالفقر والبؤس والجهل والمرض وقلة الحيلة، إلى جانب سيطرة الخرافات، مثل التطير والشعوذة، والعادات السيئة كالأخذ بالثأر وتعاطي المخدرات.
وفي هذه الأجواء الفظة، لا يمكن لطفل أو لشاب أن يتصور الخلاص سوى في الحلم، أو باستحضار الأبوة المستحيلة: "أحلم بالأب الغائب الذي سينتشلني في يوم من الأيام من هذا المستنقع الذي أعيش فيه، أعيش في أحلام يقظة لا تنتهي سوى بالاستغراق في لعب الكرة أو السباحة في البحر".
وفي وسط هذا السعار الكلي الصاعد، لم يغفل المؤلف التقاط الأنفاس الطيبة والعلاقات الحميمة السوية التي تنمو بين ثنايا السطور، كهوامش تجعل لاخضرار الحقول معنى. وذلك من خلال العلاقات العاطفية البريئة السامية التي أبرزها بين بعض الشبان والفتيات، وتفاني الأمهات في تربية أبنائهن وإيثارهن على أنفسهن في أحلك الظروف، ودفء الجلسات العائلية في البيوت الريفية البسيطة المضاءة بالصدق والنبل والمحبة والاحتواء. وهذا ما أفصح عن أن تحت الرماد لا تزال هناك جمرات حية مثمرة، بإمكانها أن تشيع الدفء والائتناس والإنسانية.
الغضاضة والتصحر
بالقدر الذي أفرطت فيه الرواية في بلورة منحنى التصحر، بمعناه الحقيقي ودلالاته المعنوية الإيحائية ("إن الصحراء تمتد، فويل لمن أراد احتواء الصحراء"، وفق مقولة نيتشه)، إلا أن الغضاضة جاءت خيطاً رفيعاً أخضر بالغ الرهافة والحساسية في الوجهة المقابلة للجدب. ولعل تجاور الوادي الخصيب والرمال العطشى يعكس هذا التناقض الذي أراده المؤلف سمة للحياة المزدوجة، مهما بدا للرائي أنها ذات وجه واحد عابس.
وليس ضرورياً أن تكون البهجات ضخمة، فحسب جني الفلاحين لوز القطن أن يبتكر عيداً في أحد الأيام، وتكفي لحظة صفاء بين الشاب والفتاة في أثناء رعيهما الغنم معاً لأن تحطم الصخور أمام أعينهما الشاردة، المتطلعة إلى سعة السماء وعدالتها. هكذا، فإن تكثيف الحالة الشعورية الحادة بمقدوره أن يحيل صبارة ضالة في الصحراء إلى جنة مترامية الأطراف، بمذاق الخلود.
عنصران أساسيان من عناصر التكوين الروائي أرادهما المؤلف غايتين بحد ذاتهما، هما: السرد، واللغة. لقد تجاوز السرد دوره كوسيلة لتصوير الحدث وتمريره وتوصيف الشخوص والأمكنة ليصبح استعراضاً غنائياً مستقلاً، يفيض بالشاعرية والمسرحية والتجسيد التشكيلي، بتوخي التفاصيل الدقيقة واستشفاف الجوانيات المكبوتة والمسكوت عنه من الرغبات والأحاسيس الكامنة. هذا، إلى جانب القدرة المذهلة على تفريغ محتوى الشوارع القلقة الضيقة والبيوت المكدسة بالكتل البشرية المتراصة، وتتبع الأفعال الحيوية الكثيرة المتلاحقة، المعينة على مشقة الحياة وأعبائها، مثل الحرف والمهن المنهكة التي تلتهم أعمار شباب القرية، وسائر الأشغال والتحركات والممارسات، في داخل البيوت وخارجها، التي تلتقطها الكاميرا بأسلوب تشريحي كاشف للجوهر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وانصاعت اللغة للمنطق نفسه، متخطية فكرة الوعاء التوصيلي إلى آفاق الجماليات التعبيرية والجرسية والإيقاعية والتخييلية، وفضاءات الإمتاع الفني التشويقي المثير، فجاءت حروفها وتراكيبها طيعة لينة، مازجة بين الفصحى والعامية، كما بدت جريئة وصادمة، حد الفضائحية في بعض الأحيان، ولكنها دائماً ذات حمولة ثرية وافية، خالية من الافتعال والتلفيق والاصطناع.
وقد استلهمت اللغة نكهتها الخالصة وعصاراتها العفية من نبع القرية الصافي، وثمارها الشهية، وكذلك من سموم ثعابينها وحياتها، ولدغات عقاربها البرية: "قام من النوم وهو يشهق وينتحب، عارياً في الصحراء، يجري، يصدر صوتاً أشبه برغاء الجمل، عارياً يتمرغ في الرمال كأنه مسعور يريد أن يلتحف بالرمال. كان في قمة اليأس، يقعد على ركبتيه ناظراً إلى الصحراء الموحشة، الصحراء الخالية من الحياة، مهتزاً، مشوش الذهن، يتكلم عن أبواب الصحراء المغلقة، والطرق المتاهة، والدروب الشراك، والسهول الخادعة. يصرخ بصوت حيواني مريع: أنا وحيد؛ بلا دليل، بلا ذاكرة أو عقل يدرك أنني في الجحيم".
بقيت إشارة أخيرة إلى هيمنة عنوان الرواية "زواحف سامة" على المشاهد المتدفقة المتتابعة على امتداد النص، فهذه الكائنات التي تعلم منصور صيدها منذ صباه، صاحبته وصاحبت شخوص الرواية حتى مصائرهم الختامية، بالتسمم البدني والروحي، أو بالتيه في الصحراء، وهذه الكائنات هي من جهة أخرى معادلة للبشر أنفسهم، الذين لا ينفكون يزحفون بشرورهم وسمومهم وأمنياتهم وجلودهم الناعمة، هرباً من عصي الصيادين وضربات القدر، من حفرة إلى جحر، ومن مكان مهجور إلى آخر.