تناولنا في الحلقة الثانية الفارابي وتلميذ تصانيفه ابن سينا، وما يخص كل منهما في المعرفة، وكيف أن النظرية الفارابية هي مزيج بين أفكار أرسطو ومنطقه، والتصوف ومكاشفاته، والدين ووحيه. والطرح السيناوي الإشراقي، ودقة التفاصيل النظرية والعملية في المعرفة الإنسانية.
من الغزالي إلى ابن خلدون
رفض أبو حامد محمد الغزالي (450-505 هـ/1058-1111 م) قضية "الوسائط" التي نص عليها الفارابي في نظريته المعرفية، فبحسب رأي الغزالي، إن هذا من تلويث الوثنية اليونانية، إذ جعل الفارابي ومن يؤيد أفكاره مثل ابن سينا وغيره، أن يقول بما يرفضه الشرع الإسلامي، منها القول إن الأول فيه كثرة من دون التوحيد، وأن لا كثرة في العالم بإنكار الحس، وأنه ملزم بالوسائط، وهذه "دعوة باطلة لا تعرف بنظر أو بضرورة"، كما جاء في كتابه "تهافت الفلاسفة".
ومن هنا، عمد الإمام الغزالي إلى تكفير فلاسفة اليونان، "وتكفير شيعتهم من المتفلسفة الإسلاميين كابن سينا والفارابي وغيرهما، على أنه لم يقم بنقل علم أرسططاليس أحد من متفلسفة الإسلاميين كقيام هذين الرجلين، وما نقله غيرهما ليس يخلو من تخبيط وتخليط". (المنقذ من الضلال).
وطلب المعرفة عند الغزالي والوصول إلى اليقين، وسط نزاعات وتجاذبات بين المذاهب والمدارس الإسلامية، "فما الحق في هذه المذاهب؟ فإن كان الكل حقاً فكيف يُتصور هذا؟ وإن كان بعضه حقاً فما ذلك الحق؟". (ميزان العمل). تجاه هذه الأوضاع المضطربة، اتخذ الغزالي الشك طريقاً يستقل فيه في البحث عن الحقيقة ومنهجاً يصل به إلى العلم اليقيني.
ويشرح لنا الغزالي سيرته الفكرية في كتابه "المنقذ من الضلال"، الذي وضعه في أواخر حياته، عن تفاصيل نظريته المعرفية، وكيف أن "الشكوك هي الموصلة إلى الحق". كما كان يدعو صراحة إلى الشك، "فمن لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في العمى والضلالة". خصوصاً أن العقائد تنتقل إلى الإنسان عن طريق التقليد. فصبيان النصارى لا يكون لهم نشوء إلاّ على التنصّر، وصبيان اليهود لا نشوء لهم إلاّ على التهوّد، وصبيان المسلمين لا نشوء لهم إلاّ على الإسلام. وسمع الحديث المرويّ عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حيث قال: "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه وينصّرانه ويمجّسانه". فتحرك باطنه إلى طلب حقيقة الفطرة الأصلية التي يكون عليها قبل حصول الاعتقادات، وحقيقة الحقائق العارضة بتقليد الوالدين والأستاذين، والتمييز بين هذه التقليدات، وأوائلها تلقينات، وفي تمييز الحق منها عن الباطل اختلافات.
وبما أن الفطرة الأصلية واحدة عند البشرية كلها، وفق رأي الغزالي، لذلك بمقدوره أن يبدأ منها بحثه عن اليقين الذي لا شائبة فيه قط. فالعلم اليقيني هو الذي ينكشف فيه المعلوم انكشافاً لا يبقى معه ريب، ولا يقارنه إمكان الغلط والوهم، ولا يتسع القلب لتقدير ذلك، بل الأمان من الخطأ ينبغي أن يكون مقارناً لليقين مقارنة لو تحدّى بإظهار بطلانه مثلاً من يقلب الحجر ذهباً والعصا ثعباناً لم يورث ذلك شكاً وإنكاراً. فإني إذا علمت أن العشرة أكثر من الثلاثة، فلو قال لي قائل: لا، بل الثلاثة أكثر من العشرة بدليل إني أقلب هذه العصا ثعباناً وقلَبَها، وشاهدت ذلك منها، لم أشك بسببه في معرفتي ولم يحصل لي منه إلا التعجب من كيفية قدرته عليه. "ثم علمت أن كل ما لا أعلمه على هذا الوجه، ولا أتيقّنه هذا النوع من اليقين، فهو علم لا ثقة فيه ولا أمان معه، وكل علم لا أمان معه فليس بعلم يقيني". (المنقذ من الضلال).
وهكذا شرع الغزالي، عبر هذا العلم الذي لم يرثه من أحد، ولم يقلد فيه ملة ما، بالتفتيش ومراجعة العلوم، فاتجه صوب الحسيات والضروريات. وبعد تأمل ونظر بليغ، انتهى به طول التشكك إلى أن لم تسمح نفسه بتسليم الأمان في المحسوسات أيضاً، وأخذت تتّسع للشك فيها وتقول له (في حوار تخيلي): من أين لك الثقة بالمحسوسات، وأقواها حاسة البصر وهي تنظر إلى الظلّ فتراه واقفاً غير متحرك وتحكم بنفي الحركة؟ ثم بالتجربة والمشاهدة، بعد ساعة، تعرف أنه متحرك، وأنه لم يتحرك دفعة واحدة بغتةً بل على التدريج ذرة ذرة، حتى لم يكن له حالة وقوف، وتنظر إلى الكوكب فتراه صغيراً في مقدار دينار، ثم الأذلة الهندسية تدل على أنه أكبر من الأرض في المقدار. هذا وأمثاله من المحسوسات يحكم فيها حاكم الحس بأحكامه، ويكذبه حاكم العقل ويخونه تكذيباً لا سبيل إلى مدافعته، فقلت: بطلت الثقة بالمحسوسات أيضاً.
ثم اتجه الغزالي نحو العقليات التي هي من الأوّليّات، مثل قولنا العشرة أكثر من الثلاثة، وأوشك أن يركن إلى عقله غير أن شبهات منطقية عرضت له، فقالت له المحسوسات (ضمن الحوار التخيلي): "بمَ تأمن أن تكون ثقتك بالعقليات كثقتك بالمحسوسات؟ وقد كنت واثقاً بي فجاء حاكم العقل فكذبني، ولولا حاكم العقل لكنت تستمر في تصديقي. فلعل وراء إدراك العقل حاكماً آخر، وإذا تجلى، كذّب العقلَ في حكمه، كما تجلى العقل فكذّب الحس في حكمه. وعدم تجلي ذلك الإدراك لا يدل على استحالته".
وهنا، توقفت النفس في جواب ذلك قليلاً، وأيدت إشكالها بالمنام وقالت: أما تراك تعتقد في النوم أموراً وتتخيل أحوالاً، وتعتقد لها ثباتاً واستقراراً ولا تشك في تلك الحالة فيها، ثم تستيقظ فتعلم أنه لم يكن لجميع متخيلاتك ومعتقداتك أصل وطائل؟ يمكن أن تطرأ عليك حالة تكون نسبتها إلى يقظتك كنسبة يقظتك إلى منامك، وتكون يقظتك نوماً بالإضافة إليها! فإذا وردت تلك الحالة تيقنت أن جميع ما توهمت بعقلك خيالات لا حاصل لها. ولعل تلك الحالة ما يدعيه الصوفية أنها حالتهم، إذ يزعمون أنهم يشاهدون في أحوالهم التي لهم إذا غاصوا في أنفسهم وغابوا عن حواسهم أحوالاً لا توافق هذه المعقولات.
ولعل تلك الحالة هي الموت، إذ قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا". فلعل الحياة الدنيا نوم بالإضافة إلى الآخرة. لما خطرت لي هذه الخواطر وانقدحت في النفس، حاولت لذلك علاجاً فلم يتيسّر، إذ لم يكن دفعة إلاّ بالدليل، ولم يكن نَصبُ دليل إلاّ من تركيب العلوم العقلية، ولم تكن مُسلّمة عندي. وإذا لم تكن العلوم مسلّماً بها كان الدليل عقيماً غير منتج.
"فأعضل هذا الداء ودام قريباً من شهرين أنا فيهما على مذهب السفسطة بحكم الحال لا بحكم النطق والمقال". حتى شفاه الله من ذلك المرض، وعادت النفس إلى الصحة والاعتدال، ورجعت الضروريات العقلية مقبولة موثوقاً بها على أمن ويقين. ولم يكن بنظم دليل وتركيب كلام، بل بنور قذفه الله تعالى في الصدر. وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف، فمن ظنّ أن الكشف موقوف على الأدلّة المحرّرة فقد ضيق رحمة الله الواسعة.
ويوضح الغزالي كنه هذا النور الإلهي الذي نفث في صدره، من خلال بعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية. فقوله تعالى: "فمن يُرد الله أن يهديهُ يشرح صدرهُ للإسلام". (الأنعام: 125). ولما سُئل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عن هذه الآية قال: "نور يقذفه الله في القلب". فقيل وما علامته؟ قال: "التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود". وهو الذي قال فيه رسول الله: "أن الله تعالى خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليه من نوره". فمن ذلك النور ينبغي أن يُطلَب الكشف، وذلك النور ينبجس من الجود الإلهي في بعض الأحاين، ويجب الترصد له. كما قال النبي عليه السلام: "أن لربكم في أيام دهركم نفحات، ألا فتعرضوا لها".
ومن أجل نيل هذا النور الإلهي، فعلى طالب المعرفة، أن يعمل كمال الجد في الطلب، حتى ينتهي إلى ما لا يطلب. فإن الأوليات ليست مطلوبة فإنها حاضرة، والحاضر إذا طُلب فُقد واختفي. ومن طلَب ما لا يُطلَب لا يُتّهم بالتقصير في طلب ما لا يُطلَب.
صفوة القول في نظرية المعرفة عند الغزالي، أنها ترتكز على قاعدتين، الحدس الصوفي والاكتساب. الأول، لا يحصل لكل إنسان، والثاني، بالتعلم والاستدلال. وهكذا وصل الغزالى إلى العلم اليقيني من خلال الشك المنهجي القويم، وبذلك "رجعت الضروريات العقلية مقبولة موثوقاً بها على أمن ويقين".
إلا أن أبو الوليد محمد ابن رشد (520-595 هـ/1126-1198 م) رفض طريقة الغزالي المعرفية، ودحض معظم اعتراضاته، فابن رشد يفرز بدقة بين الأقوال المتداخلة بين فلاسفة الإسلام (الفارابي وابن سينا) وفلاسفة اليونان من جهة، ويأخذ من الأوائل (أفلاطون وأرسطو) ما هو مفيد للمعرفة الإنسانية من جهة أخرى. ولهذا يرد على الغزالي حججه، ويُبطل عليه تكفيره للفارابي وابن سينا، لا سيما أن ابن رشد قاضٍ أباً عن جد وفقيه متمرس، فإن "المذاهب في العالم ليست متباعدة حتى يُكفَر بعضها بعضاً. فلا ينبغي للمسلمين إذن أن يتخذوا من هذا الخلاف اللفظي سبباً لإلقاء التهم جزافاً بلا مبرر"، كما جاء في "فصل المقال". أما كتابه "تهافت التهافت" فكان مخصصاً لدحض معظم اعتراضات الغزالي، وتبيان "قصور أكثرها عن رتبة اليقين والبرهان".
على أي حال، فإن ابن رشد لا يتفق مع ما ذهب إليه الفارابي بأن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد، وبالصدور الثلاثي عن كل عقل بعد الله، والقول بأن المبادئ تصدر عن بعضها على الحقيقة، ويعدها من تخرصات الفارابي. ولذلك، يطالب من كل دارس أن يتفحص أقوال الفارابي ونظرياته، وكذلك بالنسبة إلى ابن سينا وغيره، لأنهم أساؤوا إلى المعرفة الإنسانية وفق ما "تقتضيه طبيعة البرهان"، كما كان الأمر عند فلاسفة اليونان أفلاطون وأرسطو. وبذلك، فإن مسؤولية هذا المسلك إنما يقع على عاتق الفارابي وابن سينا وكل من لم يكن له تحصيل كامل "لمذهب القدماء"، إذ إن قلة التحصيل هذه أدت إلى تكفير لا داعي له، قاده الغزالي من دون روية واجبة.
في الدليل الأول، ضمن الأدلة العشرة في المسألة الثامنة عشرة التي أوردها الغزالي في "تهافت الفلاسفة"، وردّ عليه ابن رشد في "تهافت التهافت"، أن كل ما هو في جسم فإنه يقبل الانقسام، وعكس النقيض صادق أيضاً. فإن ما لا يقبل الانقسام فليس يحلّ في جسم. وهذا بيَّن في أمر المعقولات الكلية، فهي ليست تقبل الانقسام أصلاً، وأذاً فليس محلها جسماً من الأجسام، ولا القوة عليها قوة في جسم.
ونأخذ الدليل الخامس، فقول الغزالي إنه يجوز أن تُخرَق العادة، فيبصر البصر ذاته، يعده ابن رشد "قول في غاية السفسطة والشعوذة". إذ لا يمكن أن تنخرق العادة، لأن الإدراك شيء ثالث بين طرفين: فاعل ومنفعل، ويستحيل على الحس بطبيعته أن يكون فاعلاً ومنفعلاً في آن ومن جهة واحدة، فإذا وجد فاعلاً ومنفعلاً فمن جهتين. أي أن الفعل يوجد له حينئذ من جهة الصورة، والانفعال من قِبل المادة، فالمركَّب لا يعقل ذاته، وإلا كان الجزء الذي يعقل فيه غير الذي به يعقل، وكانت ههنا بالتالي ازدواجية تمنع عقله لذاته، فلو عقل ذاته في هذه الحالة لعاد المدركَّ بسيطاً، وذلك مستحيل.
بعبارة أخرى، ليس في العقل أجزاء كما للحواس أجزاء، وإنما هو يدرك ذاته بذاته من دون أن يتميز فيه الجزء المدرِك عن الجزء المدرَك. أي لا يمكن الجمع بين كون الذات مركّبة وكونها تدرك نفسها، فلو فرضنا أن ذاتاً ما مركَّبة ثم عرفنا أنها تدرك نفسها تبين بطلان التركيب فيها وقلنا أنها بسيطة ضرورةً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأما الدليل السادس، فاعتراض الغزالي، أن ما هو في جسم أو قوة في جسم فليس يعقل ذاته بدليل أن الحواس لا تعقل ذاتها، فهو استقراء لا يفيد اليقين. فإذا كانت الحواس حقاً لا تدرك ذاتها فلا يستتبع ذلك أن جميع القوى المدرِكة الأخرى ليست في جسم. ومن هنا، يفرق ابن رشد بين مجرّد الإدراك وبين إدراك الحد، إذ نحن ندرك النفس وندرك أشياء كثيرة ولكننا لا ندرك حدها، أي ماهيتها، إذ لو كنا ندرك حد النفس مع وجودها لنا ضرورةً نعلم من وجودها أنها في جسم أو ليست في جسم. وكذلك يفرق ابن رشد بين علمنا بأن النفس في الجسم وبين أن لها قواماً بالجسم، فإذا كان الجسم بمنزلة الآلة للنفس فليس لها قوام به وإنما هي مستقلة عنه.
وفي الدليل السابع، يكاد ابن رشد يتجاهل موقف الغزالي، مؤكداً أن العقل إذا أدرك معقولاً قوياً ثم عاد بِعقبه إلى إدراك ما دونه، كان إدراكه له أسهل، وذلك مما يدل على إدراكه ليس بجسم، لأنّا نجد القوى الجسمية المدركة تتأثر عن مدركاتها تأثراً يضعف به إدراكها، حتى لا يمكن أن تدرِك ما إدراكه هين وسهل بأثر إدراكها ما إدراكه صعب مُجهد. فلما وجد الفلاسفة أن قابل المعقولات لا يتأثر عن المعقولات قطعوا على أن ذلك القابل ليس بجسم.
أما الدليل الثامن، واعتراض الغزالي فيدحضه ابن رشد، لإننا إذا فرضنا أن القوى المدركة موضوعها الحار الغريزي، الذي يدركه النقص بعد سن الأربعين، فقد ينبغي أن يكون العقل في ذلك كسائر القوى فيشيخ بشيخوختها. أما إذا فرضنا أن القوى المدركة موضوعها غير موضوع القوى الحاسَّة، لم يكن العقل كسائر القوى فلا يشيخ بشيخوخته الحار الغريزي الذي هو موضوع الحس. بالتالي فإن القوى المدركة مستقلة عن القوى الحاسَّة، ولذلك فلا يلزم أن تستوي أعمارها. فجوهر العقل إذاً غير جوهر النفس.
ويتفق ابن رشد مع الغزالي في الدليل التاسع، ويشير إلى أن هذا الدليل لم يستعمله أحد من القدماء لإثبات بقاء النفس، وإنما استعملوه ليبرهنوا على أن في الأشخاص جوهراً مستمراً من الولادة إلى الموت هو ما يسميه ابن سينا بالإنية، وعلى أن الأشياء ليست في سيلان دائم تتجدد فيه جميع جزئياتها، كما اعتقد كثير من القدماء، بل يبقى فيها ما يربط ماضيها بحاضرها بمستقبلها، وهو النفس البشرية.
ومع أن أبو زيد ولي الدين ابن خلدون (732-808 هـ/1332-1406م) تأثر بالغزالي بشكل ملحوظ، لكنه اختط منهجاً علمياً مغايراً، فالمعرفة التي نحصل عليها بالتأمل العقلي وأقيسة المنطق والقواعد الصورية الثابتة يمكن أن نتوصل من خلالها إلى معرفة حقائق الأشياء وما فيها من خواص وصفات. إلا أن هذه المعرفة في البحوث الماورائية لا تفيد العلم البتة، لأنها ذهنية خالصة بعيدة عن الواقع العياني المحسوس. فالمنطق من طبيعة أخرى غير طبيعة الأشياء المحسوسة، إذ إن معرفة هذه الأشياء المادية لا تكون إلا بالمشاهدة والتجربة.
إن التجربة وفحص الحقائق الجزئية واستقراء الحوادث الشخصية ومباشرة الكون عن طريق الحواس والعقل، كل أولئك هو الدعامة التي يقوم عليها العلم بحقائق الأشياء. وما يزعمه البعض من إمكان الوصول إلى الحقيقة باستعمال قوانين المنطق فإنه وهمّ كاذب.
ومن هنا، يركز ابن خلدون على أهمية التجربة الحسية ونتائجها اليقينية، أما النتائج الذهنية في الماورائيات غير يقينية، لأن أحكام الذهن كلية عامة، والموجودات الخارجية متشخصة بموادها، فهي لا تطابق العالم الخارجي. وفي هذا الصدد يقول: "ولعل في المواد ما يمنع من مطابقة الذهني الكلي للخارجي الشخصي. اللهم إلا ما يشهد له الحس في ذلك فدليله شهوده، لا تلك البراهين، فأين اليقين الذي يجدونه فيها؟". (المقدمة، ج 4).
وإذا يدعي الفلاسفة أن الوجود بأسره يمكن أن إدراكه ببضاعة العقل، فابن خلدون يؤكد أن العقل لا يدرك حقائق الألوهية والنفس والملائكة وجميع الموجودات الروحية. أن الموجودات التي وراء الحس ذواتها مجهولة لنا، ولا يمكن التوصل إليها ولا البرهان عليها، لأن تجريد المعقولات من الموجودات الخارجية المتشخصة إنما هو ممكن فيما هو مدرَك لنا، ونحن لا ندرك الذوات الروحانية حتى نجرد منها ماهيات أخرى، فلا يتأتى لنا برهان عليها، فما لا مادة له لا يمكن البرهان عليه.
بيد أن ابن خلدون لا يبخس قيمة العقل وشأنه، لكنه يرى أن "العقل ميزان صحيح، غير أنك لا تطمع أن تزن به أمور التوحيد والآخرة وحقيقة النبوة وحقائق الصفات الإلهية وكل ما وراء طوره، فإن ذلك طمع في محال". (المقدمة، ج3).
بالاختصار، المعرفة عند ابن خلدون تعتمد على الحس والذهن معاً، شريطة أن لا نغوص بالتجريد غير المطابق للواقع المحسوس، فنخرج بنتائج قاصرة ليست يقينية، بل نستعمل الذهن بالتفكير بما يفيد العلم أو الظن، ويدفع بالإيجاب نحو الإنتاج والعمل. وهذا المفهوم العلمي الخلدوني في المعرفة الإنسانية تلاقفته أوروبا، التي بدأت تزيح عن كاهلها العصور المظلمة، بينما بريق الحضارة العربية الإسلامية يأفل.