Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

يوم شغلت رواية سنكلير لويس "إلمر غانتري" أميركا كلها

بين فضح الحلم الأميركي والمتاجرة الحاذقة باسم الدين

بيرت لانكستر في مشهد من فيلم "إلمر غانتري" (غيتي)

كان عام 1927 في الولايات المتحدة الأميركية عام الكاتب سنكلير لويس ولكن بالمعنيين الإيجابي والسلبي للكلمة. فإذا كانت روايته التي أصدرها في ذلك العام، "إلمر غانتري" قد تصدرت لوائح الكتب الأكثر مبيعاً في معظم المكتبات وفي الولايات كافة وظلت لها تلك المكانة شهوراً طويلة، فإن الرواية نفسها هوجمت بشدة من قبل الأوساط المحافظة لا سيما من الدوائر الكنسية. وكان الغريب في هذا أن الرواية في جوهرها تدافع عن الدين الحقيقي وعن الإيمان الكنسي على الضد من النصابين والطوائف ومدّعي الدين من الذين كانوا في ذلك الحين وأكثر من أي زمن مضى، يستخدمون الدين وقد زيفوه، وسيلة للنصب على الطيبين من المؤمنين الذين لا يمكنهم أن يفرقوا بين الدين كفعل إيمان وتسييس الدين وتحويله إلى تجارة.

الحساب العسير

ومن هنا في مواجهة الحملة الشرسة التي شنتها تلك الرواية التي سبق فيها سنكلير لويس كثراً في محاولة تقويم الأمور، جمّع مدعو الدين صفوفهم ووجدوا قواسم مشتركة مع ألوف التجمعات والطوائف و"الكنائس" المحققة أرباحاً طائلة باسم الدين، كما الحال في كل مكان وزمان، وفي هذه الأزمنة الجديدة أكثر من أي وقت مضى، ليحاسبوا الكاتب حساباً عسيراً، وليشكلوا قوى ضغط تحرض السلطات في هذه الولاية أو تلك ضد الكاتب وروايته. ولعل ما يدعو إلى الدهشة أكثر من أي شيء آخر أن مدينة بوسطن التي تعرف بمدينة الجامعات وتعتبر المدينة الأكثر انفتاحاً على العلم والتقدم، كانت من أولى المدن التي منعت بيع الرواية وحرّمت قراءتها. لكننا نعرف أن الرواية عاشت طويلاً بعد ذلك وبعد أن اختفى مانعوها ومهاجموها، بل إنها ستتحول إلى عروض مسرحية وأوبرات ومسلسلات تلفزيونية، إضافة إلى اقتباسها في عام 1960 في فيلم نال رواجاً كبيراً مثل فيه بيرت لانكاستر الدور الرئيسي وأخرجه ريتشارد بروك الذي عُرف بجرأته وتقدميته.

مهما يكن من أمر، حين أُفلمت الرواية على ذلك النحو، كانت الضجة قد تبددت وربما كان في خلفية ذلك ما راح النقاد يكتبونه من أن "إلمر غانتري" ومهما كان من قوة هجومها على النصب باسم الدين، "تبقى غير خطيرة بالنظر إلى أنها في تصويرها للقوى المتصدية لأولئك الدعاة من النصابين المحترفين لا تبدو واثقة من أن في إمكانها أن تحمل عبء المعركة التي تخوضها ما يسفر في النهاية عن إخفاقها وترك المجال واسعاً أمام انتصار نهائي تحققه القوى المسيئة استخدام الدين".

عندما أحب الناس النصّاب 

ولعل هذا يفتح على مسألة أخرى لا تبعد عن تلك كثيراً وتتعلق هذه المرة بفيلم العام 1960 حيث بدا استخدام الفاتن وذي الشعبية الكبيرة في عالم النجوم بيرت لانكستر، معاكساً للفكرة التي كانت منشودة من تحقيق الفيلم. فـ"الناس أحبوا إلمر غانتري كما مثله بيرت لانكاستر وفتنوا به" وهو أمر يتعاكس تماماً مع ما كان يفترض أن يكون مطلوباً!.

وفي يقيننا هنا، أن المشكلة الرئيسية في هذه الرواية، التي لم يدركها الذين هاجموها وهاجموا كاتبها أول الأمر، كانت تكمن في أنها من خلال تصديها لما تتصدى له، إنما كانت في طريقها لفهم شعبوي عام لما يسمى "الحلم الأميركي"، الذي اختصره أحد الكتاب يومها بقوله: "إن كل أميركي يعتقد من دون تردد أنه إذا عاش شجاعاً، نزيهاً، طيباً مؤمناً، إذا لم يغدر بأي شخص، وإذا لم يرتكب المعصيات، فإن الأمر سوف ينتهي به إلى أن يربح في اليانصيب، أو يتزوج ابنة رئيسه في العمل".

مهما يكن إذاً باكراً، منذ نهاية الربع الأول من القرن العشرين، تنبّه الكاتب سنكلير لويس إلى هذا الواقع، وكتب روايته التي أثارت ضجة كبيرة. والحقيقة إنه كان من الطبيعي لكاتب تعمق في دراسة الذهنيات الجماعية الأميركية، من طراز سنكلير لويس، أن يصل إلى ذلك الموضوع... في رواية شعبية غزت الفئات والمناطق الأميركية كلها.

الحكاية من أساسها

تتحدث الرواية عن شخصية مدهشة هي إلمر غانتري، الذي ندرك منذ البداية أنه مجرد حكواتي نصاب يدور بين الحانات راوياً حكايات تثير الضحك، محتالاً على هذا من الزبائن أو ذاك لنيل رزقه. ولكن يحدث ذات يوم، حين كان في حانة، أن دخلت سيدة من عصبة "جيش السلام" لتجمع التبرعات لطائفتها... فاذا بإلمر يتحول فجأة ليتحدث عن الذات الإلهية في لهجة خطابية مفخمة، ثم يقوم بنفسه بجمع التبرعات للسيدة. ومنذ تلك اللحظة يشعر بأنه وجد طريقة للعيش الرغيد ولاكتساب الرزق، فيبدأ بالتجوال بين مكان وآخر، مدعياً المعجزات والإيمان، محققاً الأرباح.

وتزداد حدة نشاطه حين يحدث له يوماً أن يشهد قداساً زنجياً مفعماً بالموسيقى والحركة... وكل هذا يضيفه إلى مخزونه، حتى يلتقي يوماً بـ "الأخت شارون فالكونر" وهي بدورها داعية واعظة، فيفتن بها ويتبعها من مكان إلى آخر، ثم يبهرها إذ يريها كيف أن كلامها أقنعه وها هو يعتنق أفكار طائفتها. ولاحقاً خلال الاجتماع التالي لطائفة شارون يأخذ صاحبنا الكلام، بشكل استعراضي عميق الإيمان، فخم اللغة... وتحقق موعظته نجاحاً غير متوقع، إذ سرعان ما سوف تخبره شارون أن أكثر من نصف حضور العرض المشترك قد انضموا إلى الطائفة على الفور. غير أن شارون التي تتحمس لهذه الشراكة الجديدة والمثمرة، لا تنتبه في البداية إلى فوارق أساسية بين خطابها وخطاب إلمر: هي تتحدث عن إله طيب وسعيد ومتسامح، أما إلمر غانتري فيتحدث عن إله قاس يعاقب ولا يتهاون في شيء. ولسنا في حاجة هنا إلى القول كم إن الجمهور مال نحو خطاب إلمر، أكثر من ميله نحو خطاب شارون.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

خطاب ديماغوجيّ ناجح

المهم إنه منذ تلك اللحظة تسير الرواية في خطوط متعددة ومتشابكة، إذ سرعان ما تدخل الصحافة عنصراً جديداً فيها وتتحول اللعبة كلها إلى لعبة استعراضية، ترسم انتصارات إلمر غانتري ووسائله الديماغوجية ومواعظه الصاخبة، على الإيمان الهادئ والعميق الذي تعبر عنه شارون. إنما من دون أن يقوم أي صراع بين الاثنين... ذلك إن الصراع والانتصار فيه حتى وإن كان إيديولوجياً، ليس ما يهم إلمر هنا. ما يهمه هو النجاح والكسب وأن يجرب قدراته الخطابية بين جمهور يزداد عدده أكثر وأكثر.

والحقيقة إن في هذا البعد بالتحديد، يكمن جوهر رواية سنكلير لويس. فهو إنما كان يستهدف أولاً وأخيراً تصوير ذهنية الناس وانقيادهم وراء الخطاب الديماغوجي الذي يدغدغ مشاعرهم. ولئن اختار هذا النوع من استغلال الخطاب الديني موضوعاً لروايته فما هذا إلا لأن ذلك كان السائد في أميركا. ومن هنا ما قاله النقاد الفرنسيون عن "إلمر غانتري" حين ترجمت إلى الفرنسية في العام 1932: "إنها أوفى صورة تتوافر لنا حتى اليوم، عن المجتمع الأميركي وحياته... إنها صورة مرعبة ولكنها حقيقية".

أما بالنسبة إلى ما يلي من حوادث، فإنها تتمحور من حول تلك العلاقة التي تقوم بين غانتري وشارون فالكونر، فهو بعد أن كان مساعدها أول الأمر، ثم المضارب عليها خفية، يصبح عشيقها ما يمكنه من أن يسيطر على الوضع تماماً.

غير إن شارون سرعان ما ستهلك في حادثة، ما يطلق يدي إلمر غانتري تماماً على اعتباره وريثها ومحط ثقة جمهورها، الذي لم يكن قد تنبه بعد أنه كان قد صار جمهوره منذ زمن بعيد. إن المنتصر في نهاية الأمر هو النفاق. أما الضحية فهو الدين الصحيح وإيمان البسطاء الذين يفتنهم إلمر محولاً إيمانهم إلى وسيلة تزيد ثراءه ثراء.

واضح هنا أن سنكلير لويس، قد وصف منذ ذلك الوقت المبكر ظاهرة تتفاقم أكثر وأكثر في أيامنا هذه. ولنا هنا أن نتصور ما كان سيبدو عليه موقف لويس ورأيه، إذا رصد في بلاده خصوصاً، ولكن عند شعوب أخرى وفي مناطق أخرى، ما يحدث، بفضل التلفزة، من إمعان في انتصار الخطابات الديماغوجية واستغلال الدين - كل دين - للترويج إما للمتطرّف (اللادينيّ في حقيقته) من أفكار، وإما لتحقيق الثروات... فهل يذكّر هذا الأمر قراءنا العرب بشيء؟ حسناً... لهم أن يقرّروا، أما نحن فنكتفي بالقول إن سنكلير لويس حقّق بهذه الرواية، عمله الأدبي والفكري الأكبر، وإن أثار ضده صخباً وعداءً كبيرين. مهما يكن فإن هذا الكاتب الذي عاش بين 1885 و1951، كان معتاداً على ذلك النوع من ردود الفعل جابه بعض رواياته ومؤلفاته الأخرى ومنها "بابيت" (1922) و"الشارع الرئيسي" (1920) وكان بالطبع مستعداً له حين أصدر "إلمر غانتري" وهو يدرك حدودها.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة