تتحسس الشابة المقدسية يارا بامية المقادير المطلوبة من زهرِ الحنون، والكركم ولحاء شجر القيقب وثمار العليّق (التوت البري)، ليس لإعداد طبق حلوى، ولا لاختراع نكهات جديدة في عالم الطبخ، بل لإعداد الألوان من الطبيعة، فبين النباتات والأشجار البرية المتناثرة على جبال مدينة رام لله وسط الضفة الغربية، تتجول بامية مع كراسها الأبيض، بحثاً عن رونق الألوان الحقيقي، الذي تجمّل به قصص الأطفال التي ترسمها وتؤلفها منذ العام 2012.
بين "القيقب" و"البلوط"
فمن خلال برنامج الفنون البصرية "نماء واستدامة"، الممنوح من مؤسسة عبدالمحسن القطان، وهي مؤسسة غير ربحية تعمل في تطوير الثقافة والتربية في فلسطين والعالم العربي، استطاعت الشابة الثلاثينية إطلاق العنان لشغفها في حبّ الطبيعة والنباتات البرية، واكتشاف آفاق جديدة لم تكن لتدرك أهميتها قبل انخراطها في البرنامج. وتقول بامية "إن جولات عدة من البحث والاستكشاف قمت بها على مدى شهور بين أحضان الطبيعة الخلابة في قرية عين قينيا بمدينة رام لله، استطعت من خلالها تلمّس جمال النباتات واستخراج ألوانها الطبيعية، فاللون الأحمر من القيقب والبُني من البلوط أو قشر الجوز، والأصفر الحاد من الكركم، ولأن أدب الأطفال ورسم القصص وتأليفها يحتاج إلى الخيال والراحة، فقد أسهمت الطبيعة من حولي في تغذية مخيلتي بألوان وأفكار مستجدة ومدهشة ومبهجة، مليئة بالبهجة والسحر، وبعد وضع الأزهار الجافة أو لحاء القيقب مثلاً بالماء أو الكحول وتحلل اللون، نثبتّه في ما بعد بـ "المستكة" العربية السائلة ليصبح جاهزاً للاستخدام، وتجربتي الفريدة هذه ساعدتني لإنتاج ما لا يقل عن سبعة أحبار طبيعية".
مشروع "ساقية"
"مشروع ساقية للبحث التجريبي والتطوير" الذي أسسته المهندسة سحر قواسمي، رفقة الفنان الفلسطيني نداء سنقرط في قرية عين قينيا كمبادرة مجتمعية فنية، فتح أبوابه لبامية وغيرها من الفنانين والباحثين والمزارعين والطلبة، كفضاء ثقافي جديد وفريد، يدمج بين الفنون البصرية والزراعة وإنتاج المعرفة والأرشفة، على أرض تصل مساحتها إلى 16 ألف متر مربع، يتوسطها مبنيان تاريخيان من العهد العثماني والانتداب البريطاني، محاطان بعيون المياه العذبة والجوفية وبئر ماء، ناهيك عن غنى المنطقة بمئات الأشجار البرية التي لم يمسّها أي تغير ديمغرافي، فالساقية التي تتربع وحدها على تلة عالية، لا يمكن الوصول إليها إلا بالمشي على الأقدام، أو ركوب حمار.
علاقتنا بالأرض
مديرة "مشروع ساقية" سحر القواسمي تقول، "نعتقد أن دور الفنانين والمؤسسات الثقافية هو تنمية القيم المشتركة المبنية على مبادئ العمل التعاوني المرتبط بالأرض لخلق ثقافة مستدامة تسعى نحو الاكتفاء الذاتي، ومن هنا، ولدت "ساقية" كمنصة تقدمية، وحقل لإنتاج المعرفة التجريبية ومشاركتها، من خلال تطعيم التقاليد الزراعية المحلية المتمثلة بالاكتفاء الذاتي مع الفن والممارسات البيئية المعاصرة، ونسعى إلى إنشاء سرد جديد حول علاقتنا بالأرض والمشاع والإنتاج المعرفي والثقافي. ومشروع "ساقية" المستدام يدمج الزراعة بإطار برنامج إقامات متعدد التخصصات، إذ يتولى الفاعلون الثقافيون والمزارعون ومبادرات الحرف اليدوية والصناعات الصغيرة، دوراً بارزاً إلى جانب الفنانين والباحثين المحليين والزائرين، متحدّين بتلك الفجوة الديموغرافية التي تميز الإنتاج والاستهلاك الثقافي في فلسطين".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتضيف القواسمي، "تنقسم مهمتنا في "ساقية" بتوفير منبر ومختبر للبيداغوجيا (التعلّم البديل)، والاتصال بشبكة متنامية من مراكز حماية بيئية وفنية حول العالم، وربط المعرفة ارتباطاً وثيقاً بالأرض. تسعى "ساقية" إلى مواجهة هذه التحديات محلياً، مع تطوير منهجياتها عند تقاطع الفنون والعلوم والزراعة، كجزء من المشاعات العالمية، وهذا النوع من التعلم الوجودي لا يأتي من دون تعب، نحن دائمو العمل والتجربة والتعلم والمشاركة".
تطلعات شابة
ويتطلع مؤسسو "ساقية" إلى تشجيع مبادرات مجتمعية بمشاريع تشاركية تتسم بالاكتفاء الذاتي والإنتاج المعرفي، وتدمج الزراعة والعلوم والفنون مع عمل إنتاجات إبداعية ومعرفية ترتكز على إعادة النظر بعلاقة الفن بالبيئة الطبيعية والاجتماعية، وذلك بخلق منصّة لإقامات متعددة التخصصات، مع إعادة دمج التعلّم بالخبرات والمعرفة المحلية، وأن يشكل المشروع نموذجاً يحتذى به لطرق العمل والإنتاج الفني والثقافي المستدام والمتجذر بالأرض، والذي يحتفي بالتراث والتقاليد والعمل الجماعي.
وتتابع القواسمي، "تقدّم "ساقية" إقامة قد تكون الوحيدة من نوعها في فلسطين، في رحاب الطبيعة الخلابة، وفي عزلة مهمة للإبداع، لذلك نعتقد بأن مستقبل الفنون منوط بالممارسات البيئية المرتبطة بالأرض والعمل التعاوني".
فعل ثقافي تحرري
لم تكن "ساقية" الوحيدة الحاصلة على دعم مؤسسة عبدالمحسن القطان، فمن خلال مشروع الفنون البصرية، "نماء واستدامة"، الممول من السويد، سعت المؤسسة إلى تطوير حقل الفنون البصرية في فلسطين، وجعله أكثر حيوية وثراء، وقدرة على النمو المستدام، وتمكن المشروع عبر دورتيه (2017-2019) و (2019-2021) من إفادة 18 مؤسسة، تلقت منحاً تقدر قيمتها الإجمالية بما يقارب أربعة ملايين دولار، تراوح قيمة المنحة الواحدة بين 100و300 ألف دولار، وكان المشروع أطلق دورته الأولى في مارس (شباط) 2017، ضمن برنامج الثقافة والفنون، في وقت تنتهي دورته الثانية مع نهاية العام 2021.
مديرة مشروع الفنون البصرية في مؤسسة عبدالمحسن القطان يارا عودة قالت إن "المشروع يهدف إلى توفير فرص للعرض والبحث في المجال ذاته، وفقاً لحاجات المؤسسات وفرادة برامجها، إضافة إلى التركيز على نوعية الفعل الثقافي التحرري والنقدي، واستطاعت "ساقية" الحصول على المنحة في الدورتين، فنحن نرى فيها تجربة واعدة، بتوجهات من شأنها أن تقدم ممارسات فنية فريدة، وأن تسهم في تلبية حاجات وتطلعات قطاع الفنون البصرية في فلسطين، عبر رفده بأعمال وممارسات فنية مبتكرة، والانخراط في مشاريع فنية مجتمعية".