Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"عالم بلا كاش" حقيقة ممكنة أم خيال تقني؟

التحول الكبير والسريع نحو النقد الإلكتروني يتطلب إصدار تشريعات تنظمه

حتى قبل تفشي جائحة كوفيد-19، كان العالم في طريقه لهجر العملات الورقية والمعدنية مع الاستخدام الضخم والمتنامي للبطاقات البلاستيكية. ومع تشديد الرقمنة قبضتها على العالم، ظهرت تقنيات جديدة يميناً ويساراً، جعلت الدفع مقابل السلع والخدمات أسهل وأكثر سلاسة.

أتى فيروس كورونا بعد ذلك ليسرّع العملية، بعدما أثار مخاوف بشأن إمكانية انتقاله عبر الأوراق النقدية، دافعاً العجلة إلى النهاية الحتمية للأوراق النقدية والمعدنية.

وعلى الرغم من الدعوات المتزايدة في العالم للتخلّي عن النقد، يرى عدد من المحللين أن تحوّل المجتمعات، بعيداً من الأوراق النقدية قد يكون مدعاة للقلق في حد ذاته، فهو سيجعل عدداً من اللاعبين العمالقة، مثل "فيزا" و"ماستركارد" المتحكم الأول في نظام المدفوعات بالكامل، أي أنهما سيمتلكان القدرة على تجميد النظام المالي بأكمله.

أسئلة كثيرة طرحناها على محللين استطلعنا آراءهم عن مستقبل يحمل عنوان "عالم بلا كاش"، وما إذا كانت الأنظمة المصرفية في العالم، في المنطقة العربية بالتحديد، جاهزة للتخلّي عن النقد الورقي، وهل المتسوقون العرب قد بدأوا بالفعل ترك الكاش؟

عالم بلا نقد

بحسب تقرير لشركة "سيسكو" نشر في مارس (آذار) الماضي، سيكون هناك 549 مليون مستخدم للإنترنت في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في غضون السنوات الخمس المقبلة، أي ما يمثل 32 في المئة من السكان، وارتفاعاً يقدّر بـ388 مليون مستخدم، أو 23 في المئة عن عام 2017، مما يؤكد  التحوّل الرقمي السريع الذي تشهده المنطقة، في حين أدت التطورات التكنولوجية والهيكلية في القطاع المالي إلى زيادة إمكانية الوصول إلى تطبيقات الخدمات المصرفية عبر الهاتف المحمول والخدمات المصرفية عبر الإنترنت.

المناصرون لأسواق بلا نقد يقولون إن عدم وجود الأوراق النقدية يعد بمستقبل أوفر، إذ تصل تكلفة طباعتها وتوزيعها وتأمينها في العالم إلى مليارات الدولارات سنوياً، إضافة إلى أنه لن يكون هناك مجال للغشّ الضريبي في مجال المدفوعات النقدية، كما أن غياب النقد أكثر أماناً في ما يتعلق بالسرقات والعمليات التجارية غير القانونية كالمخدرات والأسلحة، ما سيزيد من الرقابة المالية.

وتتماشى فكرة النقد الإلكتروني مع الطريقة المفضلة لجيل الألفية الذين يستخدمون الهواتف الذكية بشكل كبير في حياتهم اليومية.

أنصار الـ"كاش"

في المقابل، يقول الداعمون للعملات النقدية إن غيابها سيجعل الناس يفقدون مسار إنفاقهم، بالتالي يصبحون غير قادرين على تحديد موازنتهم ومصروفهم بحكمة، كما حذّروا من إمكانية أن تصبح المجتمعات أكثر تهميشاً، إذ لا يزال مئات الآلاف من العمال في العالم خارج الأنظمة المصرفية.

كما أن المجتمع الخالي من النقد هو مجتمع تتم إدارة الأموال والتحويلات جميعها فيه تقريباً عبر الإنترنت أو عبر تطبيق الهاتف المحمول، وبطبيعة الحال سيكون الوصول إلى هذه الأجهزة والخدمات مقصوراً بشكل أكبر على أولئك الذين يستطيعون شراء هواتف أو أجهزة كمبيوتر، أما غير القادرين على شراء تلك الأجهزة، فلن يتمكّنوا من فتح حساب مصرفي على الإطلاق، مما يؤدي إلى مزيد من التفرقة بين الأغنياء والفقراء.

ثمة أيضاً ما يعرف بـ"كاش إن هاند" وهو أكثر شيوعاً في الغرب، حيث يحصل العامل في نهاية اليوم على أجر نقدي "في يده" مقابل الساعات التي قضاها في العمل، بالتالي التخلّي عن النقد، سيخلق مستويات جديدة من البطالة.

إضافة إلى ذلك، لا يزال النقد جزءًا لا يتجزأ من الممارسات الثقافية مثل تقديم البقشيش والهدايا، إلى جانب أنه يعدّ أحد خيارات المستهلك التي هي من أهم مبادئ السوق الحرة، بالتالي إزالة النقد تزيل أحد خيارات الدفع الرئيسة المتاحة للمستهلكين.

اعتماد أقل على الكاش

في سياق متصل، يقول المدير التنفيذي لشركة "الأنصاري للصرافة" في الإمارات العربية المتحدة محمد علي الأنصاري إن النقد أو الكاش لن يختفي ولكن ما سيحدث هو أن استخدامه سيتراجع تدريجاً، خصوصاً بالنسبة إلى المبالغ النقدية الكبيرة.

ويرى أن جائحة كورونا أسهمت في تسريع وتيرة التعامل بالبطاقات المصرفية البلاستيكية عوضاً عن استخدام الأوراق النقدية لتجنّب انتقال عدوى الفيروس.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويضيف، "هناك بطاقات للدفع لا ترتبط بحسابات مصرفية، أي أن حامل البطاقة لا يمتلك حساباً في البنك وهو أمر كان يشكّل معضلة في الماضي، بخاصة أن جزءًا كبيراً من العمال لا يمتلكون حسابات مصرفية، وكذلك الحال في دول فقيرة نسبياً في أميركا الجنوبية وفي أفريقيا".

ويؤكد أن مكاتب الصيرفة لم تتأثر بتراجع الاعتماد على النقد الورقي، قائلاً إن "الأمر مرتبط فقط بطريقة الدفع، وإن العميل لا يزال بحاجة لمكاتب الصيرفة كوسيط لتحويل أمواله من بلد إلى آخر". 

وينفي الأنصاري حدوث أي تراجع في التعاملات أو التحويلات المالية النقدية، مشيراً إلى أن الحصول على الكاش كان بطيئاً وصعباً في بداية تفشي كورونا، فعلى سبيل المثال "كان العملاء يراجعون البنوك عبر أجهزة الدفع الآلي أو عن طريق فروع المصارف لسحب المبالغ النقدية التي تتدفّق على مكاتب الصيرفة، ومن ثم تحوّل تلك المكاتب المبالغ النقدية إلى البنوك مجدداً، التي ترسلها بدورها إلى مصرف الإمارات المركزي"، وهذه العملية تحديداً مكلفة بالنسبة إلى المصرف الذي يتولّى إصدار أوراق نقدية جديدة أو إتلاف القديمة منها.

ويلفت النظر إلى أن تخفيض الاعتماد على النقد الورقي من شأنه أن يحدث توفيراً كبيراً في النظام المالي، إذ إن "كلفة طباعة العملات الورقية وشحنها وتأمينها تصل إلى مليارات الدولارات سنوياً في العالم"، ما يمكن تفاديه من خلال البطاقات البلاستيكية.

بطاقات سحب وإيداع من دون حاجة لحساب مصرفي

ويقول الأنصاري إن محافظ مصرف الإمارات المركزي، كانت له تصريحات سابقة عن إصدار بطاقات للسحب والإيداع، ولكن من دون الحاجة إلى فتح حساب مصرفي لحامليها، "أي أن راتب الموظف سيتم تحويله إلى هذه البطاقة تلقائياً حتى إن كان الراتب متواضعاً جداً"، إلا أن هذا يحتاج إلى تعاون عدد كبير من الجهات في الدولة بقيادة المركزي.

ويشير إلى أن هذه الفكرة ليست جديدة، إذ "كانت قائمة منذ عشر سنوات ولكن كان هناك بطء في تنفيذها"، مؤكداً وجود خطوات مشجعة محتملة ينوي المركزي الإماراتي أخذها، قد تفضي إلى تعاملات مالية أكبر عبر البطاقات البلاستيكية لتحل محل العملات الورقية والمعدنية، ما يعني انخفاض تداولها في السوق تدريجاً وليس اختفاءها.

الاختراقات التحدي الأكبر للنقد الإلكتروني

ويرى الأنصاري أن عمليات الاحتيال واختراق البطاقات الائتمانية والحسابات المصرفية هي التحدي الأكبر الذي يواجه التحوّل إلى عالم بلا نقد، موضحاً أن التطور التكنولوجي يشكّل حماية كافية للنقد الإلكتروني.

ويعتقد أن البطاقات المصرفية تبقى أكثر أماناً من النقد "في حال ضياع الأوراق النقدية لا يمكن استرجاعها، أما في إذا ضاعت البطاقة، فيمكن استرداد المبلغ النقدي الموجود فيها، بالتالي هناك ميزات عدة للنقد الإلكتروني". 

ضبط المصاريف

في المقابل، يفضّل المحلل الاقتصادي الأردني المقيم في الإمارات نضال حمدان، استخدام الكاش كونه أدق في ضبط المصاريف، ويرى أن استخدام البطاقة المصرفية يؤدي إلى "الاستسهال في الصرف، ما يدفع المتسوق إلى شراء سلع غير ضرورية، نظراً إلى سهولة استخدام البطاقات".

ويضيف أن المخاوف من انتقال عدوى كورونا عبر العملات الورقية موجودة، لكنها لا تنتفي أثناء استخدام البطاقات المصرفية، إذ "تنتقل البطاقة من يد إلى أخرى، بالتالي الحديث عن أن استخدام البطاقة أسلم غير دقيق بنظري". 

تحول كبير جداً نحو الدفع الإلكتروني

في سياق متصل، يوضح محمد الصياد، المحلل الاقتصادي البحريني أن الحديث عن تحوّل العالم بعيداً من النقد الورقي سابق لأوانه، إذ لا يزال "الأكثر تداولاً في التعاملات في المملكة"، لكنه يشير إلى نمو كبير جداً ومتسارع في التعاملات المالية الإلكترونية في بلاده.

ويقول إن التحوّل بعيداً من النقد كان سائداً في العالم بما فيه المنطقة العربية قبل تفشي كورونا، لكن ما فعلته الجائحة أنها سرّعت عمليات الدفع الإلكتروني مع تنامي القلق من انتقال الفيروس عبر النقد الورقي.

ويتحدث الصياد عن تغيير كبير جداً وسريع باتجاه الدفع الإلكتروني في بلاده، مؤكداً "هناك انتشار واستخدام كبيران للمحفظة الوطنية الإلكترونية للهواتف الذكية التي تعرف باسم "بينيفت باي" (BenefitPay)، وهي برنامج لتسهيل عمليات الدفع في مملكة البحرين، من خلال السماح للزبائن والتجار على حد سواء بالقيام بمعاملات الدفع من دون الحاجة الى حمل الأوراق النقدية أو البطاقات"، إضافة إلى الدفع عبر الهواتف الذكية.

أنظمة بديلة لـ"سويفت"

ويوضح الصياد أن المصارف المركزية في العالم غير جاهزة بعد للتحوّل إلى عالم بلا نقد، مشدداً على ضرورة خروج تشريعات تنظّم الدفع غير النقدي، منوّهاً أن "السوق تكون أسرع من المشرّع، إذ تسبق الممارسة التشريع، بالتالي الاستخدام الكبير للدفع الإلكتروني في الأسواق قد ينتج منه إصدار قانون ينظّم عملية التداول غير النقدي".

ويقول الصياد إنه في ظل وجود نظام جمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك "سويفت"، وتحكّم كبار اللاعبين في عالم البطاقات البلاستيكية في ما يتعلق بنظام الدفع الإلكتروني، ومع التحوّل بعيداً من النقد الورقي فقد تفتح هذه الأمور الباب لإنشاء أنظمة دولية مغايرة لنظام سويفت".

ويضيف أن الصين وروسيا تسعيان اليوم إلى إنشاء أنظمة بديلة عن "سويفت"، بخاصة موسكو "حيث شركات وبنوك عدة تعاني من قضية التحويلات المالية الدولية بسبب العقوبات الأميركية المفروضة على البلد"، كما دخلت الصين في حرب تجارية مع الولايات المتحدة، "عادة ما تجلب الحرب التجارية حرب عملات، ولكن علينا أن ننتظر لنرى استراتيجية الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن مع بكين".

ثمة وجهة نظر أخرى لدى إيمان محمود ذياب، (مديرة علاقات إعلامية في شركة علاقات عامة) التي تقول إنها تستخدم البطاقات المصرفية بصورة أكبر، لكنها تواجه مشكلة عدم تشغيل بعض المحال لأجهزة الدفع الإلكترونية وتضطر إلى البحث عن نقد للشراء منها.

الشارع العربي له رأي

من جهة ثانية، تجوّلت "اندبندنت عربية" في شوارع العالم العربي، تسأل مواطنيه في أي صف يقفون تجاه الكاش. ففي الرياض، اختلفت وجهتا نظر تقابلتا على طاولة أحد المقاهي، فمال أحدهما إلى الدفع النقدي كونه يساعده على حساب ما صرفه عكس الدفع بالبطاقة التي تجعله لا يقدّر ما أنفقه، فيما فضّل الآخر الدفع بالبطاقة لأسباب عدة، أهمها أنها أكثر أماناً في حال سرقة أو فقدان محفظته، إذ لن يخسر ماله إذا كان يعتمد على الدفع الإلكتروني.

أما في الإمارات، فكانت الغالبية تفضل استخدام البطاقة الائتمانية، الأمر الذي أكده بائع في محل عطور، فقد لاحظ أن المشترين يستخدمون البطاقات المصرفية في الدفع أكثر من استعمالهم الكاش، بخاصة بعد تفشي كورونا.

وفي بيروت، يقول أحدهم إنه يفضّل الشراء بالبطاقة شرط أن تكون المنصة التي يشتري منها معروفة وموثوقة، في حين رأت لبنانية أنها تستعمل البطاقة لصعوبة الحصول على النقد في بلدها بسبب المشكلات التي تعاني منها المصارف.

وفي تونس، قدّم الناس أسباباً متعلقة بأمان التعامل بالبطاقة بدلاً من الكاش المعرّض للسرقة، إلا أن الشراء عبر الإنترنت كان محط قلق لدى أحد الشبان الذي أكد أن تجربته لم تكن مثالية من ناحية المصداقية.

ثلثا سكان العالم والنفاذ للإنترنت بحلول عام 2023

وعلى الرغم من المبررات المقنعة للمدافعين عن النقد، إلا أن مؤشرات التطور الرقمي تقود إلى حقيقة التحوّل لعالم بلا نقد.

وبحسب "سيسكو"، سيكون لدى ما يقرب من ثلثي سكان العالم إمكانية الوصول إلى الإنترنت بحلول عام 2023، وسيبلغ إجمالي مستخدمي الشبكة العنكبوتية 5.3 مليار (66 في المئة من سكان العالم) العام ذاته.

كما أظهر التقرير أن 70 في المئة من سكان العالم ستكون لديهم اشتراكات في الهواتف النقالة بحلول عام 2023، وسينمو العدد الإجمالي لمشتركي الهاتف المحمول العالمي من 5.1 مليار (66 في المئة من السكان) في عام 2018 إلى 5.7 مليار (71 في المئة من السكان) بحلول 2023، ما يعني التحوّل نحو الصيرفة الإلكترونية والدفع عبر الإنترنت والهواتف النقالة.

نهاية لغسل الأموال والتهرب الضريبي

لكن هناك جانباً آخر يطرحه مناصرو الدفع الإلكتروني، إذ يعتبرون أنه أكثر إحكاماً من حيث الرقابة على حركة الأموال ومنع المخالفات المالية.

في هذا السياق، يرى المحلل الكويتي في الشؤون الاقتصادية محمد رمضان أن التوجّه الطبيعي هو أن ينتهي النقد الورقي في التعاملات اليومية، "نريد إنهاء عمليات غسل الأموال والتهرب الضريبي، ولا يمكن ذلك في ظل وجود النقد الورقي، إلا أن الأمر لا يمكن أن يتم على المستوى الوطني فقط، إذ إن إنهاء التعاملات النقدية يجب أن يحدث على مستوى العالم، ما يتطلب وقتاً طويلاً، ونحن في الطريق إلى عالم بلا نقد ورقي ومعدني".

وعلى الرغم من تراجع استخدام النقد في السنوات الأخيرة، من المحتمل ألا يختفي النقد الورقي أبداً، خصوصاً أن مدناً أميركية عدة مثل فيلادلفيا وسان فرانسيسكو ونيويورك، أقرّت تشريعات تحظر على التجار قبول الدفع بالبطاقات، في حين صادقت ولاية نيو جيرسي على مشروع قانون مماثل عام 2019 على مستوى الولاية، وحُظّر التجار غير النقديين في ماساتشوستس منذ عام 1978.

وعلى الرغم من الاتجاه الذي يبدو أننا نسير فيه، لا يوجد مجتمع حتى الآن خالٍ تماماً من النقد، والسويد مثال مثير للاهتمام، حيث انخفضت عمليات السحب النقدي بحوالى 10 في المئة سنوياً، وفي عام 2019، كان 1 في المئة فقط من الناتج المحلي الإجمالي السويدي يتكوّن من المعاملات النقدية، بحسب "فينتيش دوت كوم".

المزيد من تحقيقات ومطولات