في وقت تتهيأ قوى الحرية والتغيير مع الجبهة الثورية لتشكيل حكومة جديدة، ربما ترى النور خلال هذه الأسبوع، عبر شراكة سياسية بين الطرفين ستمتد على مدى ثلاث سنوات في المرحلة الانتقالية، تبدو اليوم هناك فرصة جديدة وأخيرة لقوى الحرية والتغيير لإجادة الاختيار والدفع بتشكيلة حكومية متميزة وفاعلة بعيداً عن المحاصصات، التي غلب فيها الدفع بعناصر لمسؤولين حزبيين لم تكن لهم الكفاءة اللازمة والملائمة لحساسية المرحلة الانتقالية طوال العام الماضي، ما كان له أبلغ الأثر في تعثر الأداء الحكومي والعجز عن كثير من المهام التي كان ينتظرها الشعب.
هذه المرة يمكن القول، نظرياً، بما أن الجبهة الثورية هي جزء مفترض من قوى الحرية والتغيير، بصورة من الصور، فإن هناك معطيات محتملة تتجه بإمكانية تعزيز موقف قوى الحرية والتغيير كي تعمل على أداء أقوى وتعيد تصحيح مسارها السياسي في المرحلة المقبلة، لكن المحاذير التي قد تقع فيها قوى الحرية والتغيير في تعاطيها مع المتغير الجديد بدخول الجبهة الثورية في الإدارة السياسية للمرحلة، هو أن تتغلب شكوك وهواجس بعض مكوناتها فتتصرف بطرائق غير مسؤولة، أو تقع تحت هاجس أن القادمين الجدد لتقاسم كعكة السلطة إنما هم من إقليم واحد في غالبيتهم (دارفور) أو من أهل الهامش، فتتحفز بعض تلك المكونات في الحرية والتغيير لممارسة ردود فعل قد لا تعكس قيم الثورة، وربما ترتد بنا إلى التذكير بالممارسات الجهوية التي سبقت تنفيذ اتفاق "نيفاشا" في العام 2005، عندما تحفز النظام البائد وسعى إلى استقطابات جهوية من إقليم معين كرد فعل على استقبال الملايين من الشعب السوداني للزعيم الراحل جون قرنق، الأمر الذي كان سبباً رئيساً للغدر ببنود الاتفاقية والدفع بالحركة الشعبية إلى خيار الانفصال عن السودان بعد انتخابات العام 2010.
هذه المرة الوضع مختلف، فهناك ثورة، وهناك شعب حريص على قيم الثورة وحراستها، لكن الخطورة تكمن في أن تتصرف بعض قوى الحرية والتغيير عبر تلك العقلية الجهوية وتمارس إعاقات للمرحلة الانتقالية، لا سيما بعد أن بدا واضحاً تذمر الشعب من الأداء الهزيل الذي قدمته قوى الحرية والتغيير عبر حكومة حمدوك طوال العام الماضي، وظهر ذلك جلياً أثناء الاحتفال بقدوم قادة سلام جوبا الأسبوع الماضي حين تذمر الجماهير وأعلنوا امتعاضهم من صعود الناطق الرسمي باسم قوى الحرية والتغيير إبراهيم الشيخ لإلقاء كلمته على المواطنين المحتفلين بالسلام في ساحة الحرية.
الرسالة كانت واضحة جداً، ونتمنى أن تكون قوى الحرية والتغيير قد وعت الدرس، بعد أن تمادت طويلاً في عدم الاكتراث لصوت الشعب، الذي لم تستجب لتطلعاته بتنصيب مسؤولين أكفاء بعيداً عن المحاصصات واللهاث خلف المناصب.
اليوم، في وقت يقول المنطق، إن الجبهة الثورية هي الأقرب إلى قوى الحرية والتغيير في إدارة الشراكة خلال التجربة السياسية المقبلة من المرحلة الانتقالية، ويصح القول أيضاً، إنه إذا تعالت الأصوات الانعزالية والجهوية في قوى الحرية والتغيير ضد اللاعبين الجدد من الجبهة الثورية وقادة الحركات المسلحة، قد تكون هناك ترتيبات أخرى لا تخدم الانتقال الديمقراطي في مستقبل هذه الشراكة من المرحلة الانتقالية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فللجبهة الثورية خياراتها كذلك إذا ما شعرت بالتوجهات الانعزالية والجهوية ضدها من طرف قوى الحرية والتغيير، كما أن للجبهة قوى عسكرية وجيوشاً، ما يعني أن احتمال الخيار البديل في الشراكة قد يدفعها لترتيبات تعاون أكبر مع الشق العسكري، وهنا ستكون الأوضاع أكثر من خطيرة على مستقبل المرحلة الانتقالية وعلى مستقبل الثورة والانتقال الديمقراطي في السودان.
فمن ناحية، سيكون رصيد ابتعاد قوى الحرية والتغيير عن حاضنتها الشعبية (جماهير الثورة) قد لعب دوراً في تعميق الشرخ بينها وقوى الثورة، ومن ناحية ثانية ستجد قوى الحرية والتغيير، في حال أي تحالف محتمل ضدها بين الجبهة الثورية والعسكر، وحيدة وبلا سند، ما سيعني رضوخاً وإضعافاً للشق المدني في شراكة المرحلة الانتقالية.
سيناريو الأيام المقبلة ستتبين ملامحه في القريب العاجل. فإذا ما بدا أن قوى الحرية والتغيير ما زالت في سكرة اللهاث وراء المناصب وصراع النفوذ والمكاسب السياسية العاجلة بعيداً عن أي رؤية جديدة للتدبير وإعادة النظر والاستعداد للاعتراف بالأخطاء والسماع من الشعب والرجوع إليه، فإن ما سيترتب على ذلك سيكون خطيراً للأسف، فكل من الجبهة الثورية والعسكر ربما يتوجهون إلى سيناريوهات أخرى، وهي بكل تأكيد سيناريوهات ستستعين من وراء الكواليس بقوى موجودة في الساحة ولها خيوط خفية مع العسكر ومع قسم من الجبهة الثورية، وربما نرى تحالفات جديدة تضخ مزيداً من التعقيد في الوضع إذا ما تحالفت قوى عسكرية مع أحزاب لديها استعداد للشراكة مع العسكر، وخطورة هذه السيناريوهات أنها ستجعل من قوة الثورة أكثر تشتتاً، فحتى لو تحرك الشعب باتجاه تصحيح مسار الثورة فإن الشرخ الذي سيكون بينه وقوى الحرية والتغيير في هذه الحال، سوف لن يعين على إعادة الثقة بها من جديد وهذا أخطر سيناريو يمكن أن تصل إليه الأوضاع.
لكل تلك الحيثيات، فإن لقوى الحرية والتغيير فرصة أخيرة لإعادة تموضعها وتجديد ثقة الشعب فيها عبر أداء قوي وترتيب يدفع بكفاءات وطنية مسؤولة من كل مكوناتها بحيث يعكس التكوين الجديد للحكومة الانتقالية المرتقبة إدراكاً واضحاً بالمسؤولية في الخيارات التي ستتخذها قوى الحرية والتغيير.
لقد سمعنا في الآونة الأخيرة دعوات لإقالة لجنة إزالة التمكين، وأن هناك جهوداً حثيثة لمدنيين وعسكريين من أجل إقالة اللجنة (التي هي اليوم، على الرغم مما عاب أداءها من شوائب، أمل الشعب في استرداد حقوقه ومكافحة الفساد ومحاصرة رموز النظام القديم)، وذلك بعد أن توسعت تحقيقات اللجنة لتشمل شخصيات مهمة وتقترب من مناطق خطرة ربما تصبح مهددة لمصالح كثيرين.
وفي تقديرنا، هذه الأصوات التي تنادي بحل لجنة التمكين تعكس طرفاً من صراع القوى الذي يجري في الكواليس بين تطلعات الثورة وبقايا المتحالفين مع النظام القديم.
كما أن بعض مخرجات اتفاقية السلام، كمسار شرق السودان، كان واضحاً أنها ستجلب كثيراً من ردود الفعل السلبية نظراً للطريقة التي تعاملت بها كل من الجبهة الثورية من ناحية، والحكومة المركزية من ناحية ثانية مع ملف شرق السودان، وهي طريقة عكست إهمالاً واضحاً عبر النظر إلى قضايا شرق السودان بعيداً عن طبيعة القوى التمثيلية الوازنة سياساً فيه. وقد كان واضحاً أن ملف شرق السودان في الجبهة الثورية هو ملف للمساومات أكثر منه نظراً عميقاً لمقتضيات الحلول الناجعة لأوضاع شرق السودان، الذي بدا اليوم هو الخاصرة الرخوة المهددة لمسار الانتقال الديمقراطي في السودان.
وبطبيعة الحال، ينشط اليوم معارضون لمخرجات مسار الشرق لكن عبر واجهات قبائلية عنصرية مثل (المجلس الأعلى لنظارات البجا)، وما قد تجره ردود فعل نشاط هذا المجلس على الأوضاع الأمنية لشرق السودان.
إن إحدى عيوب مسار شرق السودان هو أنه خلف وضعاً إشكالياً لرافضيه، إذ بدا أن ثمة تقاطعاً واضحاً جمع بين رافضي المسار، على الرغم من اختلاف أسباب رفضهم. وهذا الوضع سيعيق المرحلة الانتقالية المقبلة، لا سيما مع تخبط حكومة حمدوك وأدائها السيء لملف شرق السودان الذي شهدنا فصوله الدموية في المرحلة السابقة.
ربما تصبح الشراكة المقبلة بين قوى الحرية والتغيير والجبهة الثورية والعسكر في ظل الحكومة المرتقبة مساراً مفخخاً للتناقضات، وتجبناً لهكذا مسار، فإن أمام قوى الحرية والتغيير اليوم فرصة أخيرة لتحزم أمرها وتكون على مستوى التحديات التاريخية الملقاة على عاتقها فهي اليوم أمام مفترق طرق، وسنرى!