أعرب أحد أبرز العلماء البريطانيين، في وقت سابق من هذا الأسبوع، عن مشاعر فرح وارتياح لافتة، إذ قال إن لقاح كورونا الذي طوّرته شركة "فايزر" Pfizer قد يعني العودة إلى الحياة الاعتياديّة مع حلول الربيع المقبل. وتفاعلت المحاوِرة التلفزيونية التي كانت تستضيفه على قناة "بي بي سي"، سارة مونتايج، المعروفة عادةً بتحفّظها، بسرورٍ مع ما ذكره البروفيسور السير جون بيل، حين عبّر عن "ثقته" بأننا في طريق استعادة الحياة، فسارعت المذيعة إلى رفع يديها في الهواء ابتهاجاً وعلت وجهها ابتسامة عريضة.
في هذا الإطار يقوم كثيرون من الناس سلفاً اليوم بالتحضير لحفلات حامية في صيف 2021، فيتبادلون على مواقع التواصل الاجتماعي افكاراً للاحتفال، وخططاً لحفلات ومهرجانات صاخبة، ومشاريع للسفر حول العالم. فهل نحن أمام هذا نميل للاستعجال بعض الشيء؟ هل يمكننا العودة إلى الحياة الاعتيادية بعد كل هذا الكم من التغييرات في حياتنا؟ وإن كانت الحياة السابقة مستحيلة بعد اليوم، كيف ستكون عليه الحياة الجديدة حين تُرفع القيود والتدابير التي فرضت لمواجهة فيروس كورونا؟
وجهت "اندبندنت" أسئلتها في هذا الموضوع إلى خبراء في علم المناعة، وأنماط السلوك، ولعلماء سياسة وفلسفة، لاستطلاع ما تخبّئه لنا سنة 2021، ولنعرف في السياق إن كان بوسعنا التجرّؤ على الحلم بمجتمع أفضل من ذي قبل.
أبدى بول هانتر، أستاذ الطب في جامعة "إيست أنجليا" University of East Anglia تفاؤله بما ستؤدي إليه الأمور خلال النصف الأول من العام المقبل، على الرغم من مناشدته الناس التحلي بالصبر.
لا يعتقد هانتر أن التطعيم أو التلقيح الجماعي (ضد كورونا) سيبدأ بإنزال "الأثر الكبير" بمواجهة الجائحة في المملكة المتحدة قبل مارس (آذار) وأبريل (نيسان) المقبلين. وقال "لا أعتقد أن جميع الأشخاص الذين يريدون تلقّي اللقاح أو يحتاجونه سيتمكنون من الحصول عليه خلال الأشهر الثلاثة أو الأربعة الأولى من العام المقبل، ستكون هناك حاجة لبعض القيود والتدابير على مدى الربيع (المقبل) وربما فترة أطول". وتابع "الفيروس لن يكون مختفياً.
ربما ستفرض درجة معيّنة من التباعد الاجتماعي، وقد يُشجَّع الناس على ارتداء كمامات الوجه خلال المناسبات والأنشطة المقامة في الداخل وفي أمكنة مغلقة. لكن بالتأكيد مع حلول الصيف فإن الأشياء ستصبح أسهل بكثير. أتوقع عودة السفر من جديد فيه وربما في بعض البلدان ستكون هناك حاجة لإبراز شهادة تطعيم (تثبت تلقّي اللقاح)".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأحد التحديات الكبرى الذي سيطرح في مسار التعافي، يتمثّل بإقناع الناس باتّباع القواعد والإرشادات الصحية العامة المتبقية، وفي حال تراجع معدلات العدوى وتفشي الفيروس مع حلول الربيع المقبل كما هو متوقع.
تقول الدكتورة جينيفير كول، الباحثة في الإنثروبولوجيا البيولوجية في معهد "هولواي الملكي" Royal Holloway، إن الشبان على وجه التحديد سيكونون متحمّسين للتخلص من أعباء المباعدة الاجتماعية بأسرع وقت ممكن. وذكرت "أظهر الأشخاص الأكبر سناً ميلاً للتعاون (مع التدابير والقيود) على نحو جيد هذا العام، لأنهم يعرفون أن الحياة لا تسير وفق خطّة مرسومة، وهم يعرفون أن أشياء غريبة تطرأ وتغير [مسار] التاريخ". وتضيف كول "بالنسبة لمن هم في العشرينات، تعرّضت حياتهم الاجتماعية الناشطة لنكسة كبيرة. إذ كان من السهل نوعاً ما وقف الحفلات، بيد أنّهم في المقابل واجهوا الصعوبات على مستوى صحتهم النفسيّة. لذا فإن الاندفاع للعودة إلى الحياة العادية مرة أخرى في الصيف المقبل مفهوم تماماً". وتتابع "رأيت أموراً تشير إلى عودة المهرجانات الموسيقية بطريقة مختلفة، والسؤال الذي يُطرح، هو إن كان على الجميع ارتداء كمامات الوجه في حلبات الاحتفالات خلال أداء رقصات الروك، هل سيكون ذلك مسلياً؟ ربما يكون من الصعب على الناس التحلّي بالصبر، بيد أن الرسالة التي ينبغي توجيهها اليوم تقول "إننا نقترب من النهاية (نهاية الجائحة)".
في المقابل يرى بعض الخبراء أن اللقاح سوف يسمح باستخدام "وثائق" المناعة أو شهاداتها، أو حتى أساور خاصة ترتدى حول المعصم، في الحفلات الموسيقية والفعاليات الرياضية.
بيد أن إليانور رايلي، أستاذة علم المناعة والأمراض المعدية في جامعة إدنبره University of Edinburg، ترى أننا قد لا نحتاج حتى إلى تحصين (تلقيحهم كي يكسبوا المناعة) من هم تحت سن الخمسين ضد "شيء ليس بعيداً من المعتاد" مع حلول صيف 2021. وتقول في هذا الإطار "الأشخاص بأعمار فتية، والذين يتمتعون بصحّة جيدة، ينبغي ألا يتوقعوا منحهم اللقاح سنة 2021. إنني لا أتوقع وضع برنامج لتلقيح جميع الأشخاص الذين هم بأعمار شابة والأقل عرضة للخطر وتطعيمهم. لا أعتقد أن ذلك سيحصل".
وماذا عن مسألة العودة للعمل في المكاتب؟
يرى الخبراء في هذا المجال أننا سوف نشهد اندفاعة كبيرة لإحياء الاقتصاد المديني والعودة للسكن في بعض مراكزنا المدينية الموحشة والهادئة. إلا أن العديد من الشركات في الآونة الأخيرة اكتشف مدى قدرة العمل من البيت في أن يكون فعالاً، وربما أقل كلفة. وترى الدكتورة كول "ثمة فرصة للقيام بالأشياء على نحوٍ مختلف، بمعنى ما بطريقةٍ أفضل. كثيرون وجدوا أنهم يفضلون العمل من البيت. ولا أحد يريد العودة للانحصار في عربات النقل المشترك كأسماك السردين. لذا أمامنا إمكانية حقيقيّة لإعادة تكييف المجتمع على نحوٍ أكثر مرونة".
الفيلسوف نايجل ووربيرتون، الذي يشارك في تقديم البرنامج الإذاعي الفلسفي "فيلوسوفي بايتس" Philosophy Bites، رأى أن الكثيرين منا قاموا بتطوير موقفٍ يمثل احتراماً مستجداً للحياة العظيمة في الأمكنة والمساحات المفتوحة، وللأركان والأماكن المنزوية في أحياء سكننا، وهم أدركوا مصلحتنا في الحفاظ عليها وعدم السماح بفقدانها حتى وإن عدنا للتفاعل الاجتماعي بوتيرة أكبر. وذكر "أناس كثيرون قاموا فعلاً باستعادة الصلة مع الطبيعة، ومع المتنزهات والمساحات الخضراء التي تحيط بهم". تابع "والآن إذ بات هواؤنا أكثر نقاءً، مع تراجع حركة سير المركبات والرحلات الجوية، فأعتقد أن المزيد من الناس سيغدون أكثر انتباهاً وحرصاً على البيئة".
الانطوائيون قد لا يكونون متحمسين كثيراً أمام المواعيد المتراكمة في مفكرة العام 2021 الاجتماعية. لكن ووربيرتون يعتقد أنّنا جميعاً، أكنّا [صنو النباتات] زهوراً تستظل الجدران (محبي عزلة) أم حيوانات حفلات (صاخبين)، سوف نظهر تقديراً أكبر للوقت الذي نختار قضاءه مع آخرين. وتابع "زووم وسكايب لم يكونا كافيين للتفاعل مع الآخرين. أعتقد أن الناس سوف يقدرون أكثر التفاعلات الحقيقيّة، ويُظهرون شيئاً من الحرص على أن تكون تفاعلات مثمرة". ويتابع "مثّلت الجائحة تذكيراً حاداً بأننا كائنات تموت. وهي قد تشكل حافزاً لبعض الأشخاص لـ"اغتنام ما يتيحه اليوم" في حياتهم، والعيش بطريقة أكثر ضراوة. لكن مهما كانت رغبتك في الحياة، فإنها فرصة مؤاتية للتفكّر بما هو مهم لك".
الفيلسوف الألماني ماركوس غابرييل يرى أنّ أمامنا فرصة كي نغدو مجتمعاً أكثر "أخلاقيّة" بموازاة خروجنا من الجائحة. مجتمع أكثر اهتماماً بالمساواة واستعداداً للتضحية في سبيل الخير العام. ويقول "نعرف أنّه يمكننا القيام بالأشياء الصحيحية. لقد قمنا بها. حتى لو تطلب ذلك أكلافاً اقتصادية مذهلة بضخامتها، فقد قمنا بإنقاذ الكثير من الأرواح".
إن بدت هذه الرؤيا للمستقبل المشرق وردية بعض الشيء، فإن المتشائمين أمام ما حصل قد ينبرون لذكر مخاوفهم في أن يكون الفيروس ساهم بإرساء المزيد من الصلابة في المواقف تجاه مسألة الهجرة. في هذا الإطار توصلت لين آرو، باحثة العلوم السياسية في جامعة آرهوس Aarhus University الدنماركية، إلى أن الذعر من المرض بوسعه التأثير في النظرة والآراء تجاه القادمين من بلدان أخرى، أو تجاه فئة تعتبر غريبة. وتذكر "بعض الأشخاص، وبمستوى اللاوعي، قد يقدمون على فهم الاختلافات الإثنية بطريقة خاطئة، أو يسيئون تأويلها فيعتبرونها دلالة أو إشارة إلى احتمال انتشار الوباء، فيتمثل رد فعلهم تجاهها (الاختلافات الإثنية) بالخوف".
تتابع "إحدى العواقب السلبية المحتملة للجائحة تتمثّل بارتفاع الارتياب تجاه الهجرة". لكن في المقابل فإن هزيمة دونالد ترمب الأخيرة، وعلى الرغم من جهوده لإلقاء اللوم أمام حصيلة الوفيات الكارثية في الولايات المتحدة على "الفيروس الصيني"، تُظهر أن السياسيين في معسكر اليمين لا يكسبون تلقائياً من الجائحة. فمظاهر تأييد القادة اليمينيين الشعبويين شهدت تراجعاً خلال الأشهر الأخيرة في معظم أنحاء أوروبا. ويعود جزء منه (التراجع هذا) إلى محاولاتهم تقليل شأن المخاطر الصحية. وذكرت آرو "في الدنمارك أيضاً لم نشهد الارتفاع الذي توقعناه في شعبية الأحزاب الاجتماعية المحافظة. وذاك مثير للاهتمام. وهو أمر شائك. الأشياء تتطوّر في اتجاهات لا يمكننا توقعها". فالجائحة علمتنا أن ننظر إلى كل الأمور تقريباً بطريقة مختلفة، إلى سياسيينا، وإلى أولوياتنا وعاداتنا اليوميّة. ومهما كان وقع هذا العام ثقيلاً ومؤلماً، فالدافع لإعادة ضبط حياتنا على أثره لا يقل إلحاحاً. إذ إن التعافي الذي بدأ يلوح في الأفق اليوم، يمثّل فرصة مثالية أمامنا للبحث عن سبل حياة أفضل.
© The Independent