نجحت موسكو في إيقاف حرب قره باغ الثانية، وأنقذت يريفان من هزيمة قاسية، وحالت دون نصر كامل لباكو، فتحقيق أذربيجان انتصاراً حاسماً يعني أنها لن تعود بحاجة موسكو، وفي ظل علاقتها المتوترة مع جورجيا، تحتاج روسيا أذربيجان كبلد يحتل موقعاً جغرافياً سياسياً مهماً، أكثر من حاجة الثانية للأولى، فباكو تمتلك مصادر الطاقة والمنفذ البحري وهو ما يميزها عن جورجيا وأوكرانيا وأرمينيا البلد الفقير في الموارد، لكنها لم تذهب بعيداً في علاقاتها مع الغرب وتكسر خط موسكو الأحمر، بسبب نزاعها مع أرمينيا وأراضيها المحتلة، حيث تدرك باكو أن أي تعويل على موقف غربي يعني فقدانها الأمل باستعادة أراضيها المحتلة .
هزيمة قاسية
ولم تترك روسيا يريفان تتعرض لهزيمة قاسية وتفقد كل مكتسبات حرب قره باغ الأولى، حين استولت على سبع مناطق أذربيجانية تحيط بإقليم ناغورنو قره باغ في مساحة تقدر بـنحو 20 في المئة من عموم مساحة أذربيجان، وتدخلت موسكو بعد أن بات الحسم العسكري الكامل لأذربيجان قاب قوسين أو أدنى، ووصول القوات الأذرية إلى عاصمة قره باغ يعني فقدان موسكو لأرمينيا من دون ضمانة أن أذربيجان ستمثل مصالح موسكو في المنطقة.
أيضاً، لا يمكن إنكار حقيقة أن تجربة أوكرانيا كانت سلبية بالنسبة إلى الكرملين، وأفسدت علاقات روسيا مع العالم كله تقريباً، والواضح أنه لم تكن هناك رغبة بتكرار ذلك، لذلك لم نر تدخلاً عسكرياً روسياً مباشراً في بدايات تجدد المواجهات بين الأرمن والأذر، واليوم جمدت روسيا نزاع أذربيجان وأرمينيا من جديد، لكن وفق المعادلة التي فرضتها خارطة سيطرة القوى بعد حرب قره باغ الثانية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إكمال الانسحاب
ونجد من خلال قراءة للخارطة الجديدة في منطقة النزاع، أن ما تحقق سواء عبر الحل العسكري، أو لاحقاً في الاتفاق السياسي الذي رعته روسيا بتنسيق مع تركيا، لم يتجاوز المبادرات التي كانت روسيا تتوسط فيها منذ أعوام عدة، وتدعو يريفان لتنفيذها سلمياً والانسحاب من خمس مناطق أذربيجانية، تحتلها أرمينيا كخطوة أولى، وبدء عودة اللاجئين الأذريين، ثم إكمال الانسحاب من المناطق المتبقية، والخطوة الثالثة تكون حول وضع السكان الأرمن في إقليم ناغورنو قره باغ مع بعض الاختلافات التي حسمت عسكرياً.
اللافت أيضاً، فتح الممرات المتبادلة من خانكندي إلى أرمينيا عبر أذربيجان، ومن ناخشيفان عبر أرمينيا إلى باقي الأراضي الأذربيجانية، ولا بد هنا من التذكير أن فكرة أو اقتراح تبادل الأراضي مبادرة أميركية قديمة، أطلق عليها لاحقاً تسمية "المبادلة المستحيلة"، ولم تحظ بتأييد موسكو وطهران في وقتها.
تغيير سياسي
ويبقى خطر حدوث تغيير سياسي عسكري غير محسوب داخل أرمينيا، والاستعداد من جديد لمعاودة الكرة. وكثيرون اليوم بعد حرب الأسابيع الستة، لا سيما أرمن الشتات ينظرون إلى جدوى التحالف العسكري مع روسيا، وعدم تدخل موسكو عسكرياً إلى جانب يريفان سيدفع الأرمن إلى إثارة جدوى وجودهم في منظمة الأمن الجماعي، وكذلك تحالفها العسكري مع روسيا، ووجود القاعدة العسكرية الروسية على أراضيها، والسؤال الكبير والخطير في الوقت نفسه عن البديل؟
ويتعلق ملف قره باغ والتطبيع مع تركيا إلى حد كبير بموقف اللوبيات الأرمنية حول العالم، خصوصاً في العواصم الغربية، وقد يكون أكثر من ارتباطها بأرمن أرمينيا، وبمعنى آخر، قد لا تستطيع يريفان بمفردها البت في تلك الملفات الإشكالية بمعزل عما وراء الحدود.
وكما كل الحروب والأزمات والكوارث، لحرب قره باغ الثانية دلالات ودروس ولا تقتصر أبعادها على جنوب القوقاز، وتتجاوز أيضاً فضاء الاتحاد السوفياتي السابق، فأذربيجان الدولة الثانية بعد روسيا، التي تستخدم القوة العسكرية لاستعادة أراض، وقد يفتح ذلك الباب لتكرار السيناريو في مناطق أخرى لحسم خلافات حدودية منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، وربما ما قبل ذلك أيضاً.
الأساليب السياسية القديمة
وكشفت حرب قره باغ الثانية عن عدم فاعلية الأساليب السياسية القديمة، والتحرك نحو حل النزاع كان في شق كبير منه عسكرياً بامتياز، كما دخلت هذه الحرب التاريخ، إذ إنه لأول مرة تستطيع دولة على الخريطة بعد الحرب العالمية الثانية استعادة أراضيها المحتلة بعد فشل 28 عاماً من المفاوضات، وتقوم بتطبيق قرارات مجلس الأمن عبر قوتها العسكرية.
وبات واضحاً اليوم أن أزمة أرمينيا وأذربيجان نفسها ليست ذات أهمية كبرى بالنسبة إلى الغرب، لكن من الآن فصاعداً، بات ينظر إليها في سياق العلاقات مع موسكو وأنقرة، وسيخلق هذا العامل "قيمة مضافة"، لذلك سيدمج هذا الملف بشكل متزايد في جدول الأعمال الدولي، لا سيما في فرنسا التي حاول رئيسها إيمانويل ماكرون استخدام الصراع في قره باغ لتأكيد نفسه كقائد حقيقي لـ"أوروبا موحدة"، التي تبدو على خلفية وباء الفيروس التاجي، بعيدة كل البعد عن مُثُل الوحدة الحقيقية، في الوقت الذي ظهرت باريس والاتحاد الأوروبي ككل في هذه الأزمة المتجددة أشبه بنمر بلا أسنان، لا يلعب أي دور حاسم في المنطقة، وليس لديهم سوى المستوى الدبلوماسي وسيلة محدودة للغاية لممارسة أي ضغط .
إيران؟
وتبدو إيران خاسرة بعد التطورات الأخيرة، وظهر على حدودها جنود روس، وانخفضت أهميتها الجيوسياسية مبدئياً لأذربيجان بعد موافقة يريفان على فتح ممر عبر الأراضي الأرمينية بين ناخشيفان وباقي الأراضي الأذرية، وبات على طهران زيادة اهتمامها بالمنطقة على حساب ملفات أخرى.
وتبرز من جديد بعد سوريا و ليبيا، آلية العمل المشترك الروسي التركي، على الرغم من وجود كثير من التباينات بين أنقرة و موسكو، إلا أن طبيعة ارتباط كل منهما مع بلدي الأزمة، ووجود اتفاقات عسكرية بين موسكو ويريفان تتشابه مع اتفاقات تركيا وأذربيجان، بالإضافة للعوامل التاريخية والعرقية والدينية، الأمر الذي يفتح تساؤلات فرضها الاتفاق الجديد أبعد من الإطار الجغرافي للإقليم المتنازع عليه، وتتعلق بمسار التطبيع التاريخي بين أنقرة و يريفان، الذي انطلق قبل أكثر من 10 سنوات، وجُمد لارتباطه في تعقيدات من شقين، موقف أرمن الشتات، ومصير قره باغ .
ويبقى القول، إذا نُفذت الخطوات المحددة في البيان الثلاثي للاتفاق بين باكو ويريفان، تكون موسكو قد حلت المشكلة الرئيسة في نزاع جنوب القوقاز، مع مراعاة مصالحها الرئيسة، وفي الواقع، نحن لا نتحدث عن السلام الكامل والشامل، حيث أوقف التصعيد العسكري وهو شيء مهم في حد ذاته، لكن مسارات التسوية مستمرة وقصة قره باغ لم تنته بعد.