أثار التقرير النهائي حول نتائج مراقبة تمويل الحملة الانتخابية التشريعية والرئاسية السابقة لأوانها لسنة 2019، الذي أصدرته محكمة المحاسبات، جدلاً واسعاً، في الساحة السياسية والقانونية في تونس، لما تضمنه من اختلالات وخروقات تتعلق أساساً بالتمويل الأجنبي للحملة الانتخابية لعدد من المترشحين للانتخابات الرئاسية، والقائمات المترشحة للانتخابات التشريعية.
محدودية منظومة الرقابة
وأقر التقرير بمحدودية منظومة الرقابة على تمويل الحملة الانتخابية، ما فتح الباب أمام التمويل الأجنبي الذي يمثل تهديداً للديمقراطية الناشئة في البلاد، كما أنه يمس بجوهر الديمقراطية التمثيلية من خلال مصادرة الإرادة الشعبية لصالح المال الانتخابي.
وجاء في التقرير أن 1159 قائمة من مجمل 1506 قوائم ترشحت للانتخابات التشريعية لسنة 2019، قامت بإيداع حساباتها المالية لدى مصالح المحكمة في الآجال القانونية، وأكثر من 100 قائمة لم تلتزم ضوابط مسك الحساب، و13 قائمة لم تصرح ببعض الأنشطة، و51 قائمة لم تودع موارد نقدية في الحسابات البنكية، و17 قائمة لم تقدم كشوفات بنكية تغطي كل العمليات التي مرت بالحساب البنكي.
وأكدت المحكمة وجود أدلة وقرائن قوية على أن عدداً من الأحزاب والشخصيات تعاقدت بصفة مباشرة أو لفائدتها مع شركات أجنبية، من أجل كسب التأييد، على غرار زعيم حزب "قلب تونس" نبيل القروي، الذي تعامل مع شركة ضغط أجنبية بمبلغ قيمته مليون دولار، وذكر التقرير أيضاً عدد المخالفات التي تخص أحزاب "النهضة" و"قلب تونس" و"تحيا تونس" و"آفاق تونس" وعدداً من القائمات المستقلة.
سلطة المال الفاسد والتمويل الأجنبي
وأعلنت مجموعة من الأحزاب والشخصيات الوطنية، اعتزامها تقديم قضية عدلية لتتبع كل من سيكشف عنه البحث، وتسليط عقوبات صارمة، حسب ما يقره القانون الانتخابي التونسي، وإنارة الرأي العام بكل المعطيات الإضافية، بخصوص ما جاء في التقرير من خروقات فادحة شابت العملية الانتخابية.
وأكدت في بيان مشترك، أن الانتخابات الرئاسية والتشريعية لسنة 2019، لم تستند إلى شرعية الاختيار الشعبي الحر، بقدر ما استندت إلى سلطة المال الفاسد، والتمويل الأجنبي وتدخل مؤسسات ولوبيات خارجية ومؤسسات الأخبار الزائفة.
وشجبت هذه الأحزاب والشخصيات الوطنية، بشدة، صمت منظومة الحكم والنيابة العمومية، حيال تقرير دائرة المحاسبات، بما يؤكد تورط المنظومة الحالية ومحاولتها التستر على الجريمة الانتخابية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فقر تشريعي
ويعتبر المحلل السياسي صلاح الدين الجورشي محكمة المحاسبات آلية قوية، ومكسباً مهماً، لضبط الانتقال الديمقراطي، وحمايته من أي تجاوزات، مبرزاً الفقر على المستوى التشريعي الذي يمكن محكمة المحاسبات من أن تُصدر أحكاماً ملزِمة وباتة، وقابلة للتنفيذ، ضد القائمات، أو الأشخاص الذين ارتكبوا اختلالات، داعياً إلى تلافي النقص في الجانب الإجرائي، حتى نضمن عدم انحراف العملية الانتخابية أو تزوير إرادة التونسيين.
وقال الجورشي إن هدف التقرير هو جعل العملية الانتخابية في مرحلة البناء الديمقراطي شفافة، وما كشفه التقرير أن معظم الأحزاب السياسية تناور ولا تقدم الحقائق في خصوص وضعها المالي وتمويلاتها، واصفاً الأحزاب في تونس بالضعيفة، وتنقصها الشفافية وتحتاج إلى تأطير من قبل مؤسسات الدولة.
وحول ما إذا كان التقرير يهدد الديمقراطية في البلاد، استبعد الجورشي أن تمثل الخروقات أو الاختلالات تهديداً للديمقراطية، ودعا الأحزاب إلى التعامل بشفافية واحترام القانون.
تقرير قد يغير المشهد البرلماني
رجاء جبري رئيسة شبكة "مراقبون"، وهي منظمة تهتم بمراقبة نزاهة وشفافية الانتخابات رحبت بما جاء في تقرير محكمة المحاسبات، مستغربة عدم صدور التقرير النهائي حتى الآن من قبل الهيئة المستقلة للانتخابات، وأضافت أن التقرير كشف عديداً من الخروقات، آملة أن يتواصل الجدل حول هذا الموضوع من أجل تتبع المخالفين، ومشيرة إلى أن العقوبات السياسية قد تصل إلى حد إسقاط قائمات بأكملها وبالتالي تغيير المشهد البرلماني الحالي.
ودعت إلى وضع ترسانة جديدة من التشريعات تحمي الديمقراطية في تونس أمام سياسة التحايل التي تتوخاها الأحزاب السياسية، وتتعلق هذه التشريعات بتمويل الحملة والأحزاب السياسية، وبصفحات التواصل الاجتماعي، وبشركات ومكاتب الدعم الأجنبية وبنظام الاقتراع.
كما دعت جبري مؤسسة القضاء إلى التحرك العاجل في هذا الملف، حتى لا يكسب المخالفون مزيداً من الوقت، مستغربة ارتكابهم مثل تلك المخالفات وهم مرشحون لمؤسسة تشريعية ستضع القوانين للشعب التونسي.
إجراءات قضائية منتظرة
وفي خصوص الإجراءات القضائية، التي تلي صدور التقرير، أكد مصدر قضائي في محكمة المحاسبات أن الإجراءات الخاصة بالتقارير الرقابية تتمثل في تصنيف المخالفات من حيث أنواعها (جرائم انتخابية واختلالات)، وقال إن الجرائم تتعهد بها محاكم الحق العام، وتتم إحالة الملفات إلى المحكمة التي تصدر في شأنها عقوبات سجنية، بينما الاختلالات التي نص عليها القانون الانتخابي، هي مرجع نظر محكمة المحاسبات، ويتم الحكم فيها بالأخطاء المالية، وأضاف المصدر نفسه أن إثارة الدعوى، تتم من قبل النيابة العمومية، أو تحال من قبل محكمة المحاسبات، مشيراً إلى أنه رُصدت مخالفات لا ينص عليها القانون الانتخابي، ومن أساسيات ضمان حقوق المتقاضين "لا عقوبة من دون نص قانوني".
في المقابل، أكد الناطق الرسمي باسم المحكمة الابتدائية في تونس محسن الدالي، في تصريح صحافي، أن النيابة العمومية في المحكمة الابتدائية ستتخذ الإجراءات اللازمة، إزاء التجاوزات والاختلالات التي كشف عنها تقرير محكمة المحاسبات، حال تلقيها إشعاراً في الغرض من محكمة المحاسبات.
وكانت جمعية القضاة التونسيين دعت النيابة العمومية للقضاء العدلي والقطب القضائي المالي إلى فتح التحقيقات "الجدية واللازمة" بخصوص الجرائم الانتخابية الواردة في تقرير محكمة المحاسبات حول انتخابات 2019، وخصوصاً حول التمويلات الأجنبية للانتخابات الرئاسية والتشريعية.
التقرير خدش شفافية الانتخابات
من جهته، اعتبر رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات نبيل بفون أن تقرير محكمة المحاسبات، حول رقابة الحملات الانتخابية في انتخابات 2019، خدش شفافية هذه الانتخابات، داعياً النيابة العمومية ومحكمة المحاسبات إلى النظر في الخروقات المسجلة في الانتخابات، واتخاذ القرارات اللازمة.