قبل أربعة عشر عاماً، أصدر المسرحي والروائي الروسي ديمتري ليبيسكيروف روايته "ليونيد سيموت حتماً" التي يطرح فيها حلم الخلود، هاجس البشر القديم، مذ تسلط الموت على أعناقهم، وقدرة العلم على تحقيق هذا الحلم، من جهة. ويطرح الظواهر الخارقة التي يجترحها العقل الغيبي، في مواجهة عجز الواقع وجموده، من جهة ثانية. واليوم، تصدر الرواية بالعربية، في ترجمة لفؤاد المرعي (دار ثقافة 2020)، فتفتح عينَي القارئ العربي على فضاءٍ آخر للرواية الروسية.
تدور أحداث الرواية بوقائعها في ستينيات القرن الماضي، وتعود بذكرياتها إلى مرحلة الأربعينيات منه، وإلى أجواء الحرب العالمية الثانية. وإذا كانت الوقائع تحصل في موسكو، فإن الذكريات تتعداها إلى مناطق أخرى شكلت ميادين لتلك الحرب، مع العلم أن علاقة الرواية بالحرب ليست مباشرة، فهي تطرح قضايا تشغل الإنسان في الحرب والسلم، على حد سواء، كالموت والخلود، والحب والجنس، والشيخوخة والشباب. وهي تفعل ذلك في فضاء روائي مركب، يجمع بين الواقعية والواقعية السحرية والغرابة والخيال العلمي والبوليسية، ما يتيح لهذا الفضاء خصيصة التنوع، ويبعد عنه الأحادية والرتابة.
هذه القضايا يجري طرحها، من خلال حكايتين اثنتين، تتمحور كل منهما حول شخصية معينة، يكون لها مسارها ومصيرها المختلفان عن الأخرى. ولولا نقاط تقاطع قليلة تلتقي فيها الحكايتان لأمكن القول إننا إزاء روايتين اثنتين في رواية واحدة. على أن ثمة مجموعة من الشخوص تحف بكل من الشخصيتين المحوريتين، يشكل بعضها نقاط تقاطع بين الحكايتين.
الحكاية الأولى غرائبية بامتياز، تتمحور حول ليونيد سيفيرتسيف، مذ كان جنيناً في رحم أمه يوليا إيلينيتشنا حتى موته قتيلاً بسهم زوجته إنجيلينا ليبيدا، بطلة الحكاية الثانية، في نهاية الرواية. وهذه الشخصية تمتلك قدرات خارقة، تتمظهر في سلوكيات معينة، في مراحلها العمرية المختلفة، يطغى فيها الشر على الخير، والغرابة على المألوف، والخارق على العادي. - في المرحلة الجنينية، يعرف ليونيد ما يدور حوله، يقرأ أفكار أمه، يحاورها ويشاكسها، يعاقبها حين تخطئ بإفرازه مادة تؤدي إلى التقيؤ، يُشفِق عليها حين يتم إعدام والده، وينبهها إلى ما يتربص بها من تلصص.
دور الأم
في مرحلة الطفولة المبكرة، في دار حضانة الأيتام، تتخذ علاقته بمديرة الدار بوديونا منحى سلبياً جراء تهورها الإداري وقيامها بإخراجه من الدار مع المربية فالنتينا بعد ضبطها تقوم بإرضاعه، بينما تتخذ علاقته بهذه الأخيرة منحى إيجابياً لإشفاقها عليه، وحمايتها له، ولعبها دور الأم التي ماتت لحظة ولادته. يزحف في الشهر الثامن من العمر مئة وخمسين متراً هي المسافة الفاصلة بين دار الحضانة ومركز الشرطة. يتعرف إلى جار أمه في السكن سيرغيي سيرغييتش الذي كان يتلصص عليها، لدى مروره بمربع الألعاب. يعرف الجاذبية. وحين يتم نقله إلى المؤسسة الخاصة للعلاج النفسي، بعد ضبطه يرتكب جريمة الرضاعة الوهمية، يمضي فيها ست سنوات يبكي في حجرة مقفلة من دون طعام وشراب، ومع هذا يبقى على قيد الحياة. في مرحلة الصبا، يُوضع في مدرسة داخلية، إثر اكتشاف فضيحة احتجازه في المؤسسة الخاصة. يدافع عن نفسه بشراسة حين يحاول رومكا الأحمر المجنون التعرض له. يتسلل إلى مهجع البنات ليلاً، ويقبل ماشينكا التي تكبره عمراً، ويعرض عليها الزواج على رغم أنه لا يزال في الصف الأول. يسرق حقائب المعلمين وصندوق المدرسة، ويفر مع حبيبته، ويترك خصلة من شعرها قرب شجرة صنوبر لتضليل البحث عنهما. ويعقد قرانه عليها بعد رشوة كاهن الكنيسة.
في مرحلة الشباب، تتطور قدراته في السلب، فيسلب حراس النقود في بنك التوفير، ويطلق النار عليهم مستعيناً برومكا الذي تحول إلى أداة طيعة في يده، حتى إذا ما اكتشف خيانته له يقوم بالتخلص منه. يقتل مدرسة الرياضيات التي تعاقب صديقه رومكا وبوديونا التي تسببت في طرده مع المربية فالنتينا من دار الحضانة بدس النمل في أذنيهما. يخنق العقيد درونين الذي كان يطارده للقبض عليه. يزور فالنتينا في مستشفى كاشينكو ويرشو رئيس القسم النفسي للاهتمام بها. يمتلك القدرة على الطيران. يتزوج من إنجيلينا ليبيدا التي تكبره بعشرات السنوات، حتى إذا ما قامت الشرطة بمداهمة بيتهما يطير من النافذة، فترميه زوجته، الأستاذة في رمي السهام، بسهم بالتزامن مع إطلاق العقيد ريكوف الرصاص عليه، فيصيبان منه مقتلاً. وهكذا، تتحقق نبوءة العنوان "ليونيد سيموت حتماً".
على أنه لا بد من الإشارة إلى تناقض بين الغاية والوسيلة في بناء الشخصية، فليونيد الذي يضيق ذرعاً بإطار الجسد، ويبحث عن مستوى أعلى من الوعي، ويزور الدلاي لاما لعرض إمكاناته الخارقة عليه، يلتمس لتحقيق غايته وسائل ليست من جنسها، تتراوح بين السرقة والسلب والقتل، ما يقيم تناقضاً كبيراً بين الغاية المشروعة والوسائل غير المشروعة. وجملة القول، إن الظواهر الخارقة التي تتنافى مع الطبيعة، وتناقض العلم، وتخالف القانون، مآلها الزوال. وهو ما تتم ترجمته روائياً بمقتل ليونيد شاباً على يد زوجته التي ارتبط بها خلافاً للطبيعة بحكم فارق السن الكبير بينهما، وعلى يد الشرطة المخولة مبدئياً وضع الأمور في نصابها.
الحكاية الثانية في الرواية تتمحور حول شخصية إنجيلينا ليبيدا التي تمتلك قدرة خارقة في مجال الرماية وقيام أعضائها بوظائفها الطبيعية، على تقدمها في العمر. وإذا كانت الحكاية الأولى تبدأ برصد الشخصية، مذ كانت جنيناً في رحم أمها، وتنتهي بمقتلها، من دون أن تراعي خطية المسافة المرصودة بين البداية والنهاية، بل تستخدم التكسر وفقاً لمقتضيات الروي الفنية، فإن الحكاية الثانية تبدأ من مرحلة شيخوخة الشخصية وتنتهي بها، وتستعيد وقائع حياتها وذكرياتها بين البداية والنهاية، بمراحلها العمرية المختلفة، في خط متكسر تتخلله فجوات زمنية، قصيرة أو طويلة، قد تبلغ عشرات السنين، في بعض الأحيان.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
استعادة الشباب
يثير التنمر الذي تتعرض له ليبيدا، في الثانية والثمانين من عمرها، خلال مشاركتها في عرض أزياء، رغبتها في الخلود واستعادة الشباب، حتى إذا ما قرأت على الشبكة العنكبوتية مقالاً لأوتياكين، الدكتور في العلوم الطبية، يتحدث فيه عن الموضوع، تتقصى عنه وتتصل به وتقرر الخضوع لعلاج طويل يحقق رغبتها. وهو ما يتحقق بالفعل، بعد مخاض عسير وجلجلة آلام، ويتمخض عن نتائج مبهرة، تستعيد فيها العجوز شبابها. وخلال هذه الوقائع المعيشة، تتذكر ليبيدا محطات من حياتها، لا سيما في مرحلة الشباب، تتمثل في: مشاركتها في الحرب العالمية الثانية، تدرجها في الوظائف من ممرضة إلى "باب للجنة" إلى راصدة إلى قناصة، وتحقيقها إنجازات كبيرة في هذه الأخيرة أهلتها للحصول على ثلاثة أوسمة، انخراطها في ست علاقات زوجية عابرة تنتهي بموت الأزواج جميعهم، وموت الزوج السادس ليونيد، بطل الحكاية الأولى، حين ترميه بسهم يصيب منه مقتلاً، فتحس، وهي المهووسة بالرماية، بفرح إصابة الهدف.
وإذا كانت الظاهرة الخارقة في الحكاية الأولى تنتهي بمصرع صاحبها لتناقضها مع الطبيعة والأخلاق والعلم، فإن الظاهرة الخارقة في الحكاية الثانية الناجمة عن العلم يتحقق لها النجاح وتنتهي باستعادة صاحبتها الشباب، فيأتي العام 2048 وهي لا تزال على قيد الحياة، فتقول الرواية أن زبد الغيبيات والمخالفات يذهب جفاءً، وأن ما ينفع الناس من العلم وتجاريبه يمكث في الأرض. غير أن حضور الدكتور أوتياكين لتسلم جائزة نوبل في الطب راعشاً، نصف أعمى، على عربة نقل عجزة، في نهاية الرواية، يثبت أن الأمور نسبية، فهو الذي منح ليبيدا إكسير الشباب عجز عن منحه لنفسه، فصح فيه القول "طبيبٌ يداوي الناس وهو عليل".
بالإجابة عن سؤال متعلق بماهية القول، نخلص إلى أن ديمتري ليبيسكيروف يقول الظواهر الخارقة بنوعيها المخالف للطبيعة والمستند إلى العلم، فيخرج الأول من حساب التاريخ، ويراهن على الثاني في صناعة تاريخ جديد للإنسانية. وبالإجابة عن سؤال ثان متعلق بكيفية القول، نخلص إلى أن الكاتب يضع الأحداث في إطار تطغى عليه الغرابة، فيحقق التلاؤم بين المحتوى والإطار.