الاختلافات التاريخية
على الرغم من أن الإمام محمد بن عبد الوهاب (1703- 1792) بدأ حركة الإحياء ودعا إلى العودة إلى نهج السلف الصالح، لكن حركته الدينية كانت محصورة في نطاق الجزيرة العربية، على عكس حركة الإصلاح والتجديد الديني بزعامة جمال الدين الأفغاني (1838-1897)، وتلميذه الشيخ محمد عبده (1849-1905)، التي كانت على احتكاك مباشر مع العالم الأوروبي، حيث ركزت على أن الإسلام جدير باستيعاب التقدم العلمي الأوروبي، وأن المسلمين لهم القدرة على بناء حضارة عصرية كما فعلوا في الماضي بعد تفاعلهم مع علوم اليونان والهنود وغيرهم. لذلك كان محمد عبده على خلاف مع السلفية الوهابية.
إلا أنه بفضل الملك فيصل بن عبد العزيز (1964- 1975)، تم تحديث حياة الوهابيين في المملكة العربية السعودية. وكان المجتمع السعودي، بشكل عام، في طريقه نحو التحرر من قيود المتشددين الإسلاميين؛ ولكن تجربة الملك فيصل لم تكمل بناءها كما أراد لها من دولة عصرية تواكب ومعطيات العصر وتقدمه. حيث أن سياسة الغرب التي تخلت عن دعم شاه إيران محمد رضا بهلوي (1941- 1979)، ثم مساندة الغرب لوصول الخميني (1902-1989) إلى السلطة عام 1979، والأخير يؤمن بنظرية "ولاية الفقيه"، حيث الجمع بين السلطتين الدينية والسياسية. وما بين العمل على "تصدير الثورة" من ناحية، وعلاقة تنظيم الإخوان المسلمين بالخميني من ناحية أخرى، سمحت تلك الفترة بعودة الإسلاميين الأصوليين إلى الواجهة والتأثير على نمطية الحياة الاجتماعية السعودية.
ولكن منذ تولي الأمير محمد بن سلمان منصب ولي ولي العهد في العام 2015، بدأ بتطبيق نظريته ورؤيته في عملية الإصلاح والتغيير على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وازدادت وتيرة الإصلاح والتغيير منذ توليه ولاية العهد في العام 2017. إنها عملية إحياء لتجربة الملك فيصل الإصلاحية والتحررية، لكنها لا تخلو من المجابهة والتصادم، حيث أن الأصوليين المتشددين لا ينسجمون مع هذه القرارات، بل ويُعارضونها بدعوى حرصهم على الدين والدولة. في حين أن الدين لا يقف حائلاً تجاه التطور والتقدم، وأن قيادة المملكة تسعى إلى تحقيق ذلك، خصوصاً وأن العنصر الشبابي هو العمود الفقري في المجتمع السعودي.
هذا ولعبت حركة جماعة الإخوان المسلمين دوراً في الحياة السياسية والاجتماعية منذ ثلاثينيات القرن الماضي. لكن حركات وأحزاب القومية العربية كانت أكثر نشاطاً من جماعة الإخوان المسلمين، سواء خلال النضال ضد الاستعمار الأوروبي، أو خوض الحروب ضد الاحتلال الصهيوني إلى فلسطين؛ وقادوا دولاً لفترات طويلة وبعدة بلدان عربية: مصر والعراق وسوريا وليبيا والجزائر واليمن. أما المواجهات بين الإخوان والسلطات الوطنية، غالباً كانت بدوافع علاقاتهم السرية مع دول الغرب، خصوصاً الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا.
ولذلك كان تنظيم الإخوان يتم حله في أكثر من بلد عربي، ففي مصر تعرض تنظيم الإخوان إلى الحل رسمياً ثلاث مرات في 1948 و1954 و2013. وفي سوريا تم حظرهم منذ العام 1982 ولغاية اليوم. وفي العراق كان حظر الإخوان منذ العام 1960 حتى الغزو الأميركي في 2003.
هذا وإن العديد من جذور الجماعات الإسلامية المتشددة كانت مرتبطة بالتنظيم الإخواني أصلاً، ثم انفصلت لأسبابها الخاصة، أمثال: "الجماعة الإسلامية" و"جماعة التكفير والهجرة" و"حزب التحرير الإسلامي" و"حركة الجهاد الإسلامي"، والأخيرة اغتالت الرئيس المصري محمد أنور السادات في 6 أكتوبر (تشرين الثاني) 1981. وقاد الهجوم الملازم أول خالد الإسلامبولي (1958- 1981)، وفي رده على السؤال: لماذا قررت أن تغتال الرئيس السادات؟ قدم ثلاثة أسباب:
1- لم تكن قوانين مصر متوافقة مع تعاليم الإسلام وشرائعه.
2- حقق السادات السلام مع إسرائيل.
3- قام السادات بالقبض على علماء المسلمين وإهانتهم.
كان محمد عبد السلام فرج (1962-1982) المُنظّر الفكري وأحد مؤسسي تنظيم "حركة الجهاد الإسلامي"، بينما كان الشيخ عمر عبد الرحمن (1938-2017) الزعيم الروحي الذي أذِنَ باغتيال السادات. وفي عام 1993 سافر عبد الرحمن ليقيم في الولايات المتحدة الأميركية، لكنه أُعتقل بتهمة التورط في تفجيرات نيويورك في نفس ذلك العام، وحُكم عليه بالسجن المؤبد.
إن مسعى الأصوليين في سبيل إقامة دولة الإسلام وتطبيق شرع الله، باستخدام العنف، أدى بهم إلى صراع مع الأنظمة العلمانية في مصر والعراق وسوريا وتونس والجزائر وليبيا واليمن، وبخاصة خلال فترة الثمانينيات من القرن العشرين. وعلى الرغم من ادّعاء الخميني أنه يقود ثورة إسلامية في إيران، موجهة ضد دول الاستكبار العالمي، الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وغيرها من دول الغرب الرئيسة، لكن ثورته ركزت بشكل كبير على الجانب الطائفي من جهة، وتصدير ثورته للعالم العربي من جهة أخرى؛ مما أدى إلى صِدام مع بعض الدول العربية، وعلى رأسها جمهورية العراق والمملكة العربية السعودية.
عموماً، عندما دخلت قوات جمهوريات الاتحاد السوفيتي إلى أفغانستان في ديسمبر (كانون الثاني) 1979، تزامنت مصالح السياسة الخارجية الأميركية مع الحركات الأصولية وبقوة. حيث أرادت الولايات المتحدة إلحاق هزيمة بالقوة السوفيتية بشكل غير مباشر، بينما كان الأصوليون يؤمنون بالجهاد لمحاربة الكفار في أفغانستان وإقامة دولة الإسلام. بعد عشر سنوات، انتصر المجاهدون في الحرب المقدّسة عبر الأسلحة الأميركية، والدعم المالي العربي والإسناد الاستراتيجي الباكستاني. ولكن ما أن نقلت الحركات الأصولية عملها الجهادي ليكون ضد الحُكام المسلمين المدعومين من قِبل الولايات المتحدة الأميركية، حتى لهبت الشرارة الأولى بوجه الولايات المتحدة بصفة خاصة، والعالم الغربي بصفة عامة.
وفقاً لمجرى الأحداث وقتذاك، لم تكن هذه الشرارة مستغربة في سرعة انتشارها بمواجهات متصاعدة بين العالم الغربي، ممثلا بالولايات المتحدة الأميركية، ومجموعات إسلامية أصولية يقودها تنظيم القاعدة الدولي. وهنا استخدم عبارة "لم تكن هذه الشرارة مستغربة"، لأن المواجهة بين الولايات المتحدة الأميركية والإسلاميين الأصوليين كانت مسألة وقت فقط.
إن تزامن المصالح بين الطرفين الغربي والأصولي في أفغانستان لم يُبنَ على أساس متين، بل التقاء طرفين متناقضين حول مصلحة مشتركة مؤقتة، وما أن قادت الولايات المتحدة الأميركية، باسم القانون والشرعية الدولية، الحرب ضد العراق في العام 1991، حتى هاجم تنظيم القاعدة، باسم الواجب الديني، مركز التجارة العالمي في نيويورك في العام 1993. وفي العام 1995 قصفت الولايات المتحدة تجمع الأصوليين في الصومال. وفي 1996 هاجم التنظيم قواعد الجيش الأميركي في العاصمة الرياض ومدينة الظهران في السعودية. وفي 7 أغسطس (آب) 1998، تعرضت السفارات الأميركية في تنزانيا وكينيا للهجوم من تنظيم القاعدة أيضاً. وبعد عشرين يوماً من ذلك التاريخ، قصفت الولايات المتحدة مواقع تنظيم القاعدة في السودان وأفغانستان. ومن الواضح، في كل هجوم يُقتل الأبرياء المدنيون. والأسوأ كان في الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001، حيث توفي ما يقرب من ثلاثة آلاف شخص؛ رداً على ذلك دمرت الولايات المتحدة تنظيم القاعدة وحركة طالبان بغزو أفغانستان في أكتوبر (تشرين الأول) من ذلك العام.
ولقد تفاقم الأمر أكثر سوءاً عندما غزت الولايات المتحدة الأميركية أراضي العراق ودخلت قواتها إلى بغداد في 9 أبريل (نيسان) 2003، لتبدأ حقبة جديدة مريرة ومدمرة تتكشف فيها حقائق الإسلام السياسي الذي تبرقع بالدين عقودا طويلة. فالأحزاب الدينية المقدسة أمثال: "حزب الدعوة الإسلامية" و"المجلس الأعلى الإسلامي" و"الحزب الإسلامي العراق" وغيرها قدمت أردأ وأحط صورة عن أصولية الإسلام السياسي، حيث الفساد المالي والإداري، والقتل والتهجير الطائفي، وسرقة قوت الشعب، وتبديد ثروات البلاد، والتأخر في كافة المجالات العلمية والثقافية والخدمية والاجتماعية... إلخ.
على أي حال، مع انطلاقة ما يسمى "الربيع العربي" في العام 2010 الذي أطاح بفترات متقاربة عدة أنظمة سياسية في تونس وليبيا ومصر واليمن، وما سببته من ارتجاجات وصراعات داخلياً، وإنعكاسات مؤثرة خارجياً. ولكن التقرير الذي كشفته "مجموعة الشرق الاستشارية" في واشنطن عام 2014، يوضح أسباب ما جرى، إذ تكشف عن الدراسة السرية المشتركة على مدى ستة أشهر ما بين سبتمبر (أيلول) 2010 إلى فبراير (شباط) 2011، والتي تمّت بين البيت الأبيض ومجلس الأمن القومي ووزارتي الخارجية والداخلية بالعمل التحضيري لاستيلاء الإخوان المسلمين على السلطة في مصر وبقية دول العالم العربي. ففي تلك الفترة كان الرئيس الأميركي باراك أوباما يميل إلى تغيير الأنظمة السياسية وجعل تنظيمات الإخوان المسلمين بديلًا لها.
استنتاج
بلا شك، إن الحضور السلبي للأصولية الإسلامية في الغرب، يتحملها النهج السياسي الغربي في العالم الإسلامي أولًا. والتنظيم الدولي للإخوان المسلمين ثانياً. وتراجع الأمن القومي العربي ثالثاً. فالغرب بشكل عام والولايات المتحدة الأميركية بشكل خاص يتحملون ما يلي:
1- إن سياسة التقارب مع الإسلام السياسي لخدمة المصالح الغربية لا الإسلامية، تجعل بعض الجماعات تنقلب على سياسة الغرب عندما تتصادم مصالحهما مع بعضهما البعض؛ "المجهادون العرب" بعد القتال في أفغانستان، أنموذجاً.
2- إن مواقف الغرب الصامتة تجاه الإرهاب الإسرائيلي بحق الفلسطينيين المدنيين، يجعل الفكر الأصولي المتشدد حاضراً دوماً.
3- العمل الخفي مع الإخوان المسلمين سواء بالتعاون ضد أنظمة بلدانهم سابقاً، أو التخطيط لاستيلائهم على السلطة لاحقاً؛ كما ذكرنا آنفاً عن الدراسة السرية لإدارة باراك أوباما.
4- الحضور الإخواني المزمن في الغرب، يبرر الحضور الأصولي للمزاحمة ضمن غايات وأهداف الإسلام السياسي، تفجيرات نيويورك عام 1993 مثالاً.
5- استمرار أحادية مفهوم الإرهاب لكل طرف من الأطراف، وغياب إجماع دولي لتحديد وتعريف الإرهاب ضمن ميزان العدالة العالمية.
وبما أن المشكلة هي سياسية وليست دينية أو اجتماعية، لذا يجب أن يكون هناك حل سياسي، أو قرار رسمي يتم فيه تحجيم التطرف، سيما مع الجماعات الدينية السياسية. إلا أن عدم التوافق في القرارات الرسمية تخلق فجوة تستفاد منها تلك الجماعات. على سبيل المثال، عندما اتخذت بعض الأنظمة العربية: مصر والسعودية والإمارات والبحرين، قراراتها الرسمية بفرض حظر على جماعة الإخوان المسلمين، فإن الغرب لم يتوافق مع هذه القرارات، خصوصاً بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية، رغم تعرضها لضربات إرهابية.
هذا وإن تراجع الأمن القومي العريي مكّنَ الأصولية والإخوانية والأذرع الإيرانية وغيرها من أن تتصدر الساحة السياسية. ولكن منذ العام 2015 عندما تحركت المملكة العربية السعودية لقيادة التحالف العربي في مواجهة التمدد الإيراني في البلدان العربية، بدأ يتبلور واقع عربي جديد لمجابهة الأخطار والمخططات التي تستهدف الوجود العربي، سيما من الجانبين الإيراني والتركي.
ومن أجل تجفيف منابع الإرهاب لدى الأصوليين وغيرهم، فعلى السياسة الغربية أن لا تكتفي فيما يتصل بالجوانب المالية والثقافية والإعلامية، بل التركيز على الجانب السياسي وتفعليه على أرض الواقع أيضاً. فالمشكلة، كما قلنا سلفاً، هي سياسية جملةً وتفصيلًا. وللاختصار نختم الموضوع بالنقاط التالية أدناه:
1- إقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة.
2- دعم مقررات القمة العربية في بيروت عام 2002.
3- مواجهة فعّالة ضد النظام الإيراني المزعزع للاستقرار في المنطقة.
4- الكف عن استخدام جماعات الإسلام السياسي لمصالح غربية مضادة للعالمين العربي والإسلامي.