الانتخابات تصل إلى محطتها الأخيرة وأميركا تنتظر المجهول

على الرغم من أن الأميركيين سينتهون خلال ساعات من عملية تصويت طويلة مشحونة بالأمل والقلق، إلا أن الخوف الأكبر الذي يشغل بالهم يتعلق بالمستقبل، فهناك ملامح عديدة في القطاعات الأميركية الرسمية والشعبية كافة تؤشر إلى أن الأسوأ آتٍ، فالحكومة جهزت نفسها لمواجهة اضطرابات، كما استعدت قطاعات اقتصادية وتجارية لإجراءات احترازية وتحصينات غير مسبوقة، والحرس الوطني أعد وحدات خاصة لمواجهة الخارجين عن النظام، فما الذي جعل أميركا في مواجهة نفسها وفِي انتظار المجهول؟ وإلى أين سوف تسير الأمور؟ 

يتصاعد القلق بين كثيرين من السياسيين والباحثين وقادة الرأي من أن تنزلق الولايات المتحدة بعد الانتخابات الرئاسية والتشريعية، نحو أسوأ أزمة تشهدها البلاد منذ قرن ونصف القرن، أي منذ الحرب الأهلية الأميركية. وينبع القلق من إمكانية تحقق نتائج متقاربة بين الرئيس الجمهوري دونالد ترمب وخصمه الديمقراطي جو بايدن في عدد قليل من الولايات المتأرجحة، أو إذا استنكر أحد المرشحين شرعية العملية الانتخابية بما قد يولد العنف وسفك الدماء.

أسابيع الخطر

من بين السيناريوات المحتملة أن يخسر الرئيس ترمب بهامش ضئيل في ولاية أو اثنتين، وفي هذه الحال من المرجح أن تنتشر أجواء غير مألوفة بالنسبة إلى الأميركيين في العصر الحديث، تبدأ بأن لا يعترف بالهزيمة ويستخدم تكتيكات وأساليب عديدة محاولاً البقاء في السلطة والاستفادة من صلاحيات الرئيس الهائلة، متشجعاً بغضب أنصاره الذين سيعتقدون أن الانتخابات قد سُرقت، وهي أجواء أصبحت هاجساً لكثيرين من الأميركيين بعدما شاهدوا بذور الشك تُزرع منذ شهور عن الانتخابات ونتيجتها.

أما إذا كانت خسارة ترمب كبيرة وفي أكثر من ولاية بما يجعله يضطر إلى الاعتراف بالهزيمة على غير المتوقع، فسيكون طعم الخسارة مريعاً بالنسبة إليه بعدما ذاق طعم السلطة والقوة، وسيكون جريحاً وخطيراً وسيشعر بحرج بالغ مصحوباً بتوبيخ من الجمهوريين لأنه سيكون أول رئيس لا يفوز بدورة حكم ثانية منذ 28 عاماً، بينما سيظل وباء كورونا مستشرياً في البلاد من دون أن يشعر ترمب بأي التزام باحتوائه على الإطلاق بعد أن قلل باستمرار من خطر الفيروس واتهم بإساءة إدارته بشكل مأسوي.

على الجانب الآخر، قد يتمرد بايدن والديمقراطيون على نتيجة الانتخابات إذا فاز ترمب بإحدى الولايات الديمقراطية تقليدياً بهامش ضئيل، ولاحظوا ما يعتبرونه تدخلات أو إجراءات تجعلهم يعتقدون أن الانتخابات سُرقت منهم، وقد يفجر كل ذلك اضطرابات واحتجاجات قد يواجهها الرئيس ترمب من خلال قيادته الجيش ووزارة العدل وأجهزة الاستخبارات.

الاستعداد للأسوأ

وسط هذه الأجواء والتوقعات يستعد الجميع في واشنطن العاصمة وفي سائر أرجاء الولايات المتحدة للعداء والعنف، فقد ذكرت صحيفة "واشنطن بوست" قبل أسابيع أن وزارة العدل الأميركية تُخطط لتمركز مسؤولين في أحد مراكز القيادة داخل مكتب التحقيقات الفيدرالي (أف بي آي) المقر الرئيسي لتنسيق استعدادات المواجهة الفيدرالية لأي اضطرابات تتعلق بالتصويت قد تنشأ في جميع أنحاء البلاد.

وفي وقت تستعد إدارات الشرطة في جميع أنحاء البلاد لمواجهة الاضطرابات، تتأهب البنوك والمحال التجارية والمباني السكنية لاندلاع عنف من خلال تركيب ألواح خشبية سميكة على واجهات منافذها في الشوارع والميادين تحسباً للأسوأ، كما أنشأ الحرس الوطني في عدد من الولايات وحدة جديدة يتشكل معظمها من رجال الشرطة العسكرية بهدف المساعدة في إخماد الاضطرابات في الأيام المقبلة.

ما يدل على مدى التوتر الذي يبدو عليه الوضع الآن، نظم الاتحاد الأميركي لتجارة البيع بالتجزئة مؤتمراً عبر الفيديو شارك فيه 120 شخصاً يمثلون 60 علامة تجارية مختلفة لتدريب موظفي المتاجر على كيفية تخفيف حدة التوترات بين العملاء، خصوصاً ما يتعلق بالانتخابات، كما استعانوا بمستشارين أمنيين لتحديد المواقع التي من المحتمل أن تكون الأكثر عرضة للعنف في جميع أنحاء البلاد عند إغلاق صناديق الاقتراع.

اتساع مؤشرات العنف

وبعد تصريح مارك زوكيربيرغ مؤسس شركة فيسبوك ورئيسها حول رصد مؤشرات تدل على إمكان اندلاع عنف، ذكرت صحيفة "وول ستريت جورنال" أن شركة فيسبوك خططت لإمكان العمل على تهدئة الصراعات المرتبطة بالانتخابات في الولايات المتحدة من خلال نشر أدوات مصممة للبلدان المعرضة للخطر، عبر استخدام تكتيكات استُخدمت سابقاً في بلدان مثل سريلانكا وميانمار.

واعتبر معهد "بروكينغز" في تقرير نشره قبل أسبوع واحد أن احتمالات اندلاع عنف في البلاد تعد مرتفعة، حيث زاد حجم مجموعات المتطرفين المحتملين بين الأميركيين وعددهم في الداخل وعبر شبكة الإنترنت خلال انتشار وباء كورونا، ورصد المركز أنهم يتداولون وينشرون كميات هائلة من الدعاية والمعلومات المضللة. ولهذا فإن تبني إحدى هذه المجموعات أو نسبة صغيرة من المتطرفين فكرة التعبئة لأغراض العنف، فإن البيئة التي ستفرزها سوف تنتشر على الأرجح بشكل واسع، نظراً لأن هذه الانتخابات يُنظر إليها بين هذه المجموعات المتطرفة على أن الفائز بها يجني كل المكاسب، ولا مكان لأولئك الذين يقفون في المنطقة الوسطى.

وتقدم واحدة من الدراسات الأخيرة تحذيرات قوية من تزايد الشهية وقبول العنف بين عدد من الأميركيين خلال الأشهر القليلة الماضية سواء كانوا ديمقراطيين أو جمهوريين، والذين قالوا إنهم يعتقدون أن العنف سيكون مُبرراً إذا خسر من يدعمونه في الانتخابات الرئاسية.

هل من حرب أهلية؟

لكن هل يمكن أن تتحول الانتخابات إلى حرب أهلية؟

على الرغم من أن هذا الاحتمال غير وارد بدرجة كبيرة في دولة مؤسسات، وفي وجود قوات ضخمة من الحرس الوطني التي تتدخل لمواجهة أية اضطرابات مدنية، إلا أن البعض يخشى من نموذج ما حدث في الحرب العالمية الأولى حين لم يكن متصوراً أن يؤدي اغتيال ولي عهد الإمبراطورية النمساوية المجرية والذي كان شخصية غير مؤثرة، إلى خروج الأمور عن نطاق السيطرة بسبب مناخ مؤات من الاحتقان والانقسام والكراهية، وفي مناخ يتصاعد فيه التوتر حالياً في الولايات المتحدة، فإن كل ما يتطلبه الأمر هو أن تكون نتائج الانتخابات متقاربة في ولاية أو اثنتين مع انتشار ادعاءات بوقوع عمليات تزوير أو احتيال ما قد يفجر العنف.

ولعل نظرة سريعة على واحدة من المدن الأميركية قد تكفي لتصور كيف يمكن أن تنزلق البلاد إلى عنف ودماء، ففي مدينة بورتلاند بولاية أوريغون، تخطط جماعة مسلحة يمينية للظهور بأسلحتها في مواقع تسليم بطاقات الاقتراع خلال يوم التصويت على مرأى من الجميع، وفي المقابل، تخطط جماعات يسارية متطرفة للنزول إلى الشوارع في استعراض مضاد للقوة المسلحة.

مصادر القلق

من الإشارات المقلقة كثيراً، زيادة مبيعات الأسلحة بشكل حاد هذا العام وتصاعد الأحاديث حول الحرب الأهلية في المنتديات المنتشرة على الإنترنت خصوصاً بين المتطرفين اليمينيين، وقبل ذلك استخدام الرئيس ترمب لغة يعتبرها البعض تحريضية وعنيفة خلال خطاباته، فضلاً عن رفضه علناً القبول بانتقال سلمي للسلطة، وأن الطريقة الوحيدة التي يمكن أن يخسر بها، هي أن تكون الانتخابات مزورة.

ويشير مشروع بيانات الأحداث والنزاعات المسلحة، الذي تعقب أكثر من 80 جماعة متطرفة في الأشهر الأخيرة إلى أن الميليشيات وغيرها من الجهات المسلحة غير الحكومية تشكل تهديداً خطيراً على سلامة الناخبين الأميركيين وأمنهم، وأن ولايات جورجيا وميشيغان وبنسلفانيا وويسكونسن وأوريغون هي الأكثر عرضة لخطر زيادة نشاط الميليشيات في فترة الانتخابات وما بعدها، وقد يأتي الخطر الأكبر بعد الانتخابات من الجهات النشيطة التي تعمل بشكل فردي وتتوق لارتكاب أعمال عنف.

ولعل أبرز المفارقات أن مجموعة الأزمات الدولية، وهي منظمة مقرها واشنطن تقدم إنذارات مبكرة للدول المعرضة لخطر الانزلاق في صراع عنيف، لم تكن تتصور إصدار تحذيرات بشأن الولايات المتحدة، لكنها فعلت ذلك بالفعل في وقت مبكر من هذا الصيف، حين انتهت في تحليل لها إلى أن الصراع يمكن أن ينشأ من الاستقطاب السياسي الحاد في الولايات المتحدة، والوجود المتزايد للمتطرفين المسلحين، واحتمال عدم الإعلان عن نتيجة التصويت، كما حذرت المجموعة من أن خطر العنف ينسحب على المتطرفين من اليمين واليسار، وذكّرت بما حدث بعد انتخاب ترمب عام 2016، حين اندلعت التظاهرات السلمية في العديد من المدن، لكنها في بعض المدن الأخرى، تحولت إلى مظاهر من العنف إذ أحرق بعض المتظاهرين السيارات، وحطموا النوافذ وخربوا المباني.

أسلحة وفيرة

وتشير بيانات حكومية إلى أن مبيعات الأسلحة ارتفعت بنسبة 75 في المئة مقارنة بالعام الماضي، ووفقاً لتحليل صحيفة "واشنطن بوست" حول بيانات فحص المعلومات عن مشتريي الأسلحة من مكتب التحقيقات الفيدرالي، فقد سجل معدل شهري وصل إلى مليونين، مقارنة بأقل من 1.5 مليون خلال حملة 2016، وعندما تم إغلاق العديد من الولايات لمحاربة كورونا، قفز الرقم إلى 2.8 مليون عملية شراء في يونيو (حزيران) مقابل 2.7 مليون في يوليو (تموز) حيث اندلعت الاحتجاجات في الشوارع وأعمال الشغب في مدن عدة بعد مقتل جورج فلويد في مينيابوليس من قبل الشرطة.

ووجد التحليل أنه حتى الآن، اشترى الأميركيون أكثر من 18 مليون قطعة سلاح هذا العام، مع زيادات كبيرة في الولايات الجمهورية والديمقراطية على حد سواء.

وفي أكثر من 12 ولاية، تم بيع ضعف عدد الأسلحة النارية التي بيعت العام الماضي. ففي ميشيغان، حيث قام مكتب التحقيقات الفيدرالي بتفكيك مجموعة يُزعم أنها كانت تخطط لاختطاف الحاكمة الديمقراطية غريتشين ويتمير، تضاعفت مبيعات الأسلحة أكثر من ثلاثة أضعاف العام الماضي.

حوادث منعزلة وليست حرباً أهلية

على الرغم من هذه المخاطر، إلا أن السلطات الأمنية الأميركية والتي تأخذ التهديد على محمل الجد، ترى أنه لا يوجد دليل على أي خطة منسقة لعنف واسع النطاق، وأن اندلاع بعض حوادث عنف منعزلة هو السيناريو الأكثر احتمالاً على اعتبار أن الغالبية العظمى من الأميركيين من سائر التيارات السياسية يرفضون العنف بشكل واضح.

ويعتبر المؤلف وكاتب المقالات داريل بينكني أن الولايات المتحدة مجتمع على وشك الانهيار العصبي، وبداية حالة من التهور والطوارئ وليس الدخول في حرب أهلية.

وعلى الرغم من أن جيمس ماديسون أحد أبرز من صاغوا الدستور الأميركي، حذر من أن الديمقراطيات تميل إلى أن تكون قصيرة في حياتها وعنيفة في وفاتها، إلا أنه اعتقد أن الدستور الذي يضمن حقوق الأقلية والفصل بين السلطات يمكن أن يحمي الولايات المتحدة من مثل هذا الانزلاق.

ويعتبر محللون أن الحماية الأكثر فاعلية ضد العنف، ليست في استعداد الشرطة، لكن تتمثل في منع ترهيب الناخبين، وفرز سريع للأصوات، وإجماع بين القادة السياسيين والمؤسسات الإخبارية على التراجع عن إعلان الفائز حتى تكون النتائج قوية للغاية.