ليس للحروب الأهلية التي تلعب بها قوى خارجية نهاية واحدة. فما تؤكده التجارب هو أربعة أنواع من النهايات: التقسيم، غلبة فريق واحد بالقوة بحيث يقيم حكماً سلطوياً مرشحاً للاهتزاز، احتلال أجنبي أو انتداب دولي، وتسوية سياسية تتعرض لأزمات قابلة للحلول أو للانفجار.
حرب لبنان انتهت باتفاق الطائف، الذي قاد التلاعب بتطبيق بعضه وحجز بعضه الآخر إلى أزمات خطيرة تهدد بالفوضى أو بحرب أهلية. حرب سوريا التي بدأت ثورة من أجل الانتقال الديمقراطي أدت إلى قيام "دولة الخلافة" الداعشية، وكادت تؤدي إلى التقسيم لولا التدخل العسكري الروسي، ولا تزال عصية على التسوية السياسية التي يؤيدها الجميع علناً. حرب اليمن التي كانت ثورة قام الحوثيون بالانقلاب عليها تهدد بالتقسيم وسط صعوبة التسويات على الرغم من الجهد الدولي. وحرب ليبيا تشهد سلسلة طويلة من الاتفاقات السياسية والعسكرية بإشراف دولي، وسط سلسلة من المعارك في ثورة على القذافي الذي حوّلها حرباً حسمتها القوة الأطلسية قبل أن تعود الحرب الأهلية: من اتفاق الصخيرات إلى اتفاق جنيف الأخير على وقف النار الدائم مروراً باتفاقات أخرى على طريق اتفاقات سياسية مقبلة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
والسؤال هو: هل بدأت ليبيا الخروج من كابوس الحرب الأهلية بعد الخروج من كابوس معمر القذافي؟ القذافي ألغى التاريخ وما يشبه الدولة وبالتالي المستقبل، والحرب الأهلية مزقت الجغرافيا وألغت الحاضر واستعادت مخزون الذاكرة التاريخية والصراعات الجهوية والقبلية. وهناك من يسأل: هل خرج الليبيون فعلاً من كابوس القذافي، إذ يبدو نجله سيف الإسلام يتمتع بشعبية ما؟ الأمثلة حية. في أغسطس (آب) 1991 بعد هزيمة الانقلاب الذي قاده زعماء شيوعيون متشددون ضد ميخائيل غورباتشوف وبوريس يلتسين اندفع فريق من الشباب لإزالة تمثال فيلكس درجنينسكي مؤسس البوليس السري الرهيب. ويروي ميخائيل شنايدر الذي قاد الشباب أن "الهجوم على التمثال كان لحظة عاطفية ساعدتنا على الشعور بأننا نعيش في بلد مختلف، لكنها لم تغيّر شيئاً". واليوم يحكم روسيا ضابط سابق في الاستخبارات، وتمثال درجنينسكي أعيد نصبه. وتقول نينا خروشوف حفيدة نيكيتا خروشوف والخبيرة في شؤون روسيا في المدرسة الجديدة في نيويورك، إن "الإلغاء لا ينجح. شجب جوزف ستالين كان أهم إنجاز لجدي، لكن سحبه من كل الفضاءات العامة كان غلطة كبيرة. عندما تدمر ما يعتبره شخص آخر بطلاً، فإنك تزرع الحقد والشعور المعادي تحت الأرض".
بعد انتصار الثورة الليبية ومصرع القذافي جاءت الوصفة الخاطئة التي تقدمها الولايات المتحدة الأميركية دائماً في مثل هذه الأحوال: "إجراء انتخابات سريعة بدل ترتيب وضع انتقالي يمهد الطريق إلى الديمقراطية". فما حدث بعد الانتخابات التي فاز فيها التيار المدني المعتدل على التيارات الإسلامية، هو العودة إلى الانقسامات والصراعات والحرب الأهلية ثم التدخل الإقليمي والدولي في الحرب. في الانقسام الحالي بين بنغازي وطرابلس، فإن مصر والإمارات العربية وروسيا وفرنسا دعمت رئيس البرلمان عقيلة صالح وقائد الجيش الوطني خليفة حفتر، في حين دعمت تركيا وقطر وغيرهما في طرابلس حكومة الوفاق برئاسة فايز السراج بالسلاح والمال والمقاتلين والتدخل التركي المباشر. ومارست أميركا اللعب على الحبلين. وليس الاتفاق على وقف النار الدائم وفتح الطرق والأجواء سوى بداية لعملية صعبة ومعقدة تشرف عليها الأمم المتحدة، وسط اعتراض أردوغان الذي يريد استمرار الحرب لخدمة مصالحه وأهداف الإخوان المسلمين عماد الميليشيات التي تحمي حكومة السراج.
والسؤال هو: هل تعب المتقاتلون الليبيون؟ وهل توصل أركان لعبة الأمم إلى التسليم بأن وظيفة الحرب في ليبيا انتهت ولم تعد تخدم مصالحهم؟ الأجوبة حذرة وسط شيء من التفاؤل. لكن المسار العملي للتخلص من تركة ثقيلة لحكم بلا دولة وحرب بلا أفق وتدخل خارجي بلا حدود يبدأ من معادلة بالتوازي والتزامن بين مهمتين: أولى هي تفكيك مراكز قوى وميليشيات ومواقع سلطة ومال، وترتيب مصالحات وتوافق على مرحلة انتقالية ودستور وانتخابات. وثانية هي تنظيم مصالح قوى خارجية تتعامل مع ليبيا على أنها "رصيد" استراتيجي و"كنز" بترولي ويستحيل أن تقبل "التقاعد" من الدور. والهم الأول هو إخراج المقاتلين الذين يزيد عددهم على عشرة آلاف من المتشددين، يصعب إرسالهم جميعاً إلى حرب ناغورنو قره باغ.
في كتاب "ديمقراطية وديكتاتورية في أوروبا: من النظام القديم إلى اليوم"، تقول أستاذة العلوم السياسية شيري برمان إن "الليبرالية الديمقراطية لا تحدث بفعل رجال ونساء عظام فحسب، بل نتيجة تحولات اقتصادية واجتماعية عميقة أيضاً. ولكي تنجح، فإنها تحتاج إلى وحدة وطنية ودولة قوية".
وهذا هو التحدي الكبير أمام الليبيين، حين ينجحون في تطبيق الاتفاقات خلال مرحلة جديدة من لعبة الأمم.