يؤجج النفوذ المتزايد لمواقع التواصل الاجتماعي قبل أقل من أسبوعين على الانتخابات الأميركية، مخاوف لدى مراقبين من دورها في نشر المعلومات المغلوطة وتكريس الانحياز السياسي، وذلك بعد تفوّقها على الوسائل التقليدية لجذب أصوات الناخبين مثل حث الجماهير في المؤتمرات الحزبية التي لا يخلو خطابها من التوجيه والمبالغات، وتغليب إثارة الرأي العام على الدقة وتحرّي الحقائق.
ولذلك نحن اليوم أمام حرب انتقلت معاركها من المنصات الجماهيرية التي قلّص فيروس كورونا وجودها، إلى عوالم افتراضية مليئة بالخوارزميات المقلقة والمشبوهة. وعليه، لم تعد وسائل التواصل الاجتماعي في الولايات المتحدة تهديداً للحريات الشخصية فقط، بل تعدّى خطرها ليشمل نزاهة العملية الديمقراطية، وسط سهولة نشر الإشاعات وإمكانية تداولها على نطاق واسع.
ويُعتبر تويتر وفيسبوك في مقدمة المواقع التي تلعب دوراً في الحضّ على الخروج للتصويت وصناعة الفارق في الانتخابات الرئاسية، من خلال أيقونات مختلفة مثل "لقد صوّتت" (I Voted) أو محتوى الأخبار و"الترند"، الذي ربما ينتقى بعناية حتى يصل إلى المتلقي. وهذه الجزئية أثارتها أفلام وثائقية كان آخرها فيلم "المعضلة الاجتماعية" الذي عُرض على "نتفليكس" واستضاف شخصيات تقنية بارزة.
ويحدث التأثير السلبي لوسائل التواصل الاجتماعي في الانتخابات على سبيل المثال لا الحصر، عندما يلطّخ الانحياز السياسي قوائم تتحرك في خوارزميات تخترق منازلنا وتستقر في أجهزتنا من دون أن نشعر، وقد توجّه آراءنا السياسية بشكل مباشر وغير مباشر. لكن ما يختلف اليوم هو أن الأميركيين أصبحوا أكثر وعياً ويقظة بعد مزاعم التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية عام 2016، وكذلك بعد التحذيرات التي أطلقها المركز الوطني للأمن ومكافحة التجسس، بشأن تدخلات روسية وصينية وإيرانية تهدف إلى ترجيح مرشح على آخر خدمةً لمصالحها.
معركة ترمب الجديدة
عُرف ترمب بمهاجمته الإعلام التقليدي وتعلّقه بتويتر للتعبير عن آرائه وحشد أنصاره، لكنه في الآونة الأخيرة نزع إلى التنديد بممارسات موقعه المفضل، وانتهى به الأمر إلى إصدار أمر تنفيذي يحدّ من حصانة مواقع التواصل الاجتماعي ضد الملاحقة القانونية. وتزامنت هذه الخطوة مع اتهامات لشركات آبل وغوغل وأمازون وفيسبوك باستغلال النفوذ في السوق لإلحاق الهزيمة بمنافسيها وجمع بيانات وجذب مزيد من العملاء بطرق غير أخلاقية.
ولأن الرئيس الأميركي يحسن على الدوام اختيار أعدائه، فقد أدرك بشكل مبكر أن خسارة تأثيره في عالم الطائر الأزرق قد تعني بشكل أو بآخر خسارته الانتخابات. وهكذا واصل حربه على تويتر، منذ تلقّيه إنذاراً أول بشأن تغريداته. وراح سيد البيت الأبيض يتهم الموقع بالانحياز والسعي إلى إسكات الأصوات المحافظة، في حين لم يتوقف تويتر عن وضع علامات على حسابات رسمية تابعة لترمب وإدارته، ووصم بعض التغريدات بأنها تروّج لمعلومات مضللة.
مقال بايدن يعيد الجدل
وعادت اتهامات الانحياز هذا الشهر مجدداً بعد اتخاذ فيسبوك وتويتر إجراءات غير مسبوقة لمنع تداول مقالة نشرتها صحيفة "نيويورك بوست"، تضمنت انتقادات للمرشح الديمقراطي جو بايدن ومزاعم متعلقة بأعمال ابنه هانتر في أوكرانيا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وانتقدت "نيويورك بوست" من جانبها شركات وسائل التواصل الاجتماعي لمحاولتها مساعدة الحملة الانتخابية لبايدن، وزعمت أن أحداً لم يعترض على صحة القصة، وقالت في افتتاحيتها إن "فيسبوك وتويتر ليستا منصات إعلامية، إنهما آلات دعاية".
أما ترمب، فندّد بحذف المنصتين المقالة، مجدداً دعواته إلى إلغاء القسم 230 من قانون الاتصالات الذي أقره الكونغرس الأميركي عام 1996، وينص على أن منصات الإنترنت ليست مسؤولة قانوناً عما ينشره المستخدمون.
من جانبه، قال أندرو بيتس، المتحدث باسم حملة بايدن، إن "التحقيقات التي أجرتها الصحافة أثناء المساءلة، وحتى من قبل لجنتين من مجلس الشيوخ بقيادة الجمهوريين، توصّلت جميعها إلى النتيجة ذاتها، وهي أن بايدن نفّذ السياسة الأميركية الرسمية تجاه أوكرانيا ولم يرتكب أي خطأ".
التبريرات الرسمية
وتعكس إجراءات تويتر وفيسبوك حيال مقالة "نيويورك بوست"، توسع الرقابة في مواقع التواصل، كما تثير أسئلة عدة: هل يحق لهذه المنصات منع مستخدميها من قراءة خبر ما بحجة احتوائه على معلومات غير مؤكدة؟ ومن يقيّم صحة المعلومة من عدمها؟ ولماذا لم يحظر تويتر أو يقلص توزيع تداول سلاسل التغريدات التي نُشرت بالتزامن مع تقرير "نيويورك تايمز" الذي اتهم الرئيس الأميركي بالتخلف عن دفع الضرائب؟
وسط عاصفة الجدل، أوضح متحدث باسم فيسبوك أنهم "قلّلوا توزيع" المقالة في مسعى إلى تغيير الطريقة التي تتفاعل بها خوارزمية توصية الشركة عادةً مع مثل هذه القصص، وصولاً إلى منح الجهة الخارجية الموكل إليها تدقيق الحقائق، بعض الوقت للوصول إلى نتيجة حول صحتها. أما تويتر، فذهب إلى أبعد من ذلك بحظر المستخدمين من نشر روابط التقرير. وأظهرت التغريدات التي نُشرت تحذيراً للأشخاص الذين نقروا عليها، يتضمن عبارة "هذا الرابط قد يكون غير آمن".
وبرّر تويتر منع المقالة بتطبيق قواعد طويلة الأمد ضد نشر المحتوى المخترق والمعلومات الشخصية مثل رسائل البريد الإلكتروني، لكن المؤسس المشارك والرئيس التنفيذي للشركة جاك دورسي، قدّم اعتذاره لاحقاً عن حظر مشاركة رابط عبر تغريدة أو رسالة مباشرة من دون توضيح السبب، واعتبره تصرفاً "غير مقبول".
إجراءات أكثر صرامة
بصرف النظر عن وجود الانحياز من عدمه، تعكس لنا الآليات الجديدة و"المرتبكة" التي تنتهجها منصات التواصل الكبرى في التعامل مع الانتخابات الأميركية، المخاوف من تأثير محتواها سلباً في نزاهة العملية الانتخابية.
ومن القرارات الجديدة المؤقتة التي اتخذها تويتر، تغيير طريقة إعادة التغريد قبل الانتخابات الرئاسية في 3 نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، للمساعدة في منع إساءة الاستخدام ونشر المعلومات المضللة.
سيظل بإمكان المغردين استخدام الميزة، لكن لن يكون من السهل إعادة التغريد كالمعتاد حتى نهاية أسبوع الانتخابات على الأقل. وعندما تنقر على أيقونة إعادة التغريد، يشجع الموقع المستخدمين على التعليق على تلك التغريدة قبل مشاركتها، ولن يكون ذلك إلزامياً لكنه من منطلق تحفيز الأفراد على إضافة وجهات نظرهم الخاصة.
التغييرات في إعادة التغريد ليست الاختلاف الوحيد الذي طرأ في تويتر، إذ لن تعرض المنصة توصيات "Liked by" أو "Followed by" من أشخاص لا تتابعهم، وسيقتصر مربّع الاتجاهات على عرض معلومات إضافية، وستكون هذه التعديلات سارية في الولايات المتحدة من اليوم حتى نهاية أسبوع الانتخابات على الأقل.
تضارب الآراء
لا يعدّ جدل السياسات الذي يعم منصات التواصل أمراً طارئاً، إذ سبق أن تراجع فيسبوك عن سياسة قائمة منذ فترة طويلة تمنع الإعلانات المناهضة للتطعيم. وبرّرت الشركة فك الحظر برغبتها في أن تصل الرسائل المتعلقة بسلامة وفعالية اللقاحات إلى شريحة واسعة من الناس، مع الإبقاء على حظر الإعلانات التي تحتوي على معلومات مضللة قد تضر بجهود الصحة العامة.
وقبل سنتين، رفض مؤسس فيسبوك مارك زوكربيرغ منع المنشورات التي تشكّك في حقيقة الهولوكوست، على الرغم من اعترافه بأن ناكري الإبادة الجماعية التي تعرّض لها اليهود كانوا "مسيئين للغاية"، لكنه تراجع عن ذلك الأسبوع الماضي، معلناً أن الشركة ستحظر أي محتوى ينكر المحرقة اليهودية، مضيفاً أن رأيه الشخصي تغيّر بعد ملاحظته "تزايداً في المضمون المعادي للسامية".
ويؤمن زوكربيرغ بأن فيسبوك لا يحق له الحكم على صحة كل ما يقوله الناس على الإنترنت. وذكر في مقابلة مع قناة "فوكس نيوز"، "ربما لا ينبغي أن تكون الشركات الخاصة، لا سيما المالكة لهذه المنصات، في وضع يمكّنها من فعل ذلك".
لكن هذا الرأي لا يبدو متوافقاً بشكل تام مع بعض السياسات الجديدة التي تردّها الشركة إلى "الأحداث المهمة التي يعيشها العالم، مثل الانتخابات التاريخية في الولايات المتحدة التي تثير مخاوف بشأن قمع الناخبين وعدم اليقين بعدها". وقال متحدث باسم فيسبوك إن الموقع سيظل ملتزماً "بحرية التعبير مع الاعتراف أيضاً بأن البيئة الحالية تتطلب حواجز حماية أوضح لتقليل الضرر".