لم تكن اللقاءات الجماهيرية التلفزيونية التي عقدها كل من الرئيس الأميركي دونالد ترمب في ميامي، وخصمه الديمقراطي جو بايدن في فيلادلفيا، مختلفة فقط في المكان، بل كانت متباينة في كل شيء كما لو كانا في عالمين مختلفين. فقد تبيّن بعد الملاسنات والتهكمات التي اتسمت بها المناظرة الرئاسية الأولى، أن الفعاليات الانتخابية المتزامنة على شبكتي تلفزيون منفصلتين في وقت الذروة، ليست تحسناً كبيراً ولا فكرة صائبة كبديل عن المناظرة التلفزيونية الثانية التي ألغيت باستثناء كونها أفرزت ثماراً قليلة ومراوغات كثيرة.
فهل نجح أي من المرشحين الرئاسيين في كسب نقاط جديدة في السباق الانتخابي، وما تأثيرها المتوقع قبل موعد المناظرة الثالثة المقرر إجراؤها في 22 أكتوبر (تشرين الأول) الجاري؟
أميركا المنقسمة
كان استبدال المناظرة الرئاسية الثانية بلقاءات منفصلة مع الناخبين دليلاً حياً على أميركا المنقسمة سياسياً والمنفصلة اجتماعياً، فبدلاً من المواجهة المباشرة والحوار البناء أو حتى الصراخ في وجه بعضهما بعضاً، تحدث ترمب وبايدن على شبكتي تلفزيون مختلفتين، ما أتاح للأميركيين اختيار مرشحهم المفضل ليتابعوه، ويصف لهم الواقع كما يريدون رؤيته، ومن ثم لم يستمع أي طرف إلى وجهة نظر أخرى أو رؤية برنامج آخر للاختيار بينهما.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكما كان متوقعاً، لم تنجح اللقاءات المنفصلة التي استضافتها شبكة "إن بي سي" في مدينة ميامي للرئيس ترمب، و شبكة "آي بي سي" في مدينة فيلادلفيا لنائب الرئيس السابق بايدن في اجتذاب الجمهور، فوفقاً لبيانات مركز نيلسن اجتذب لقاء بايدن 15.1 مليون مشاهد بينما اجتذب لقاء ترمب 13.5 مليون، ما يجعل مجموع مشاهدة اللقاءين أقل من نصف أعدد المشاهدين الذين تابعوا المناظرة الانتخابية الأولى التي سجلت 73.1 مليون مشاهد.
مراوغات وتملصات
وفيما تستطلع مراكز قياسات الرأي العام حالياً مدى تأثير اللقاءين المتزامنين في الناخبين، وبخاصة في الولايات التنافسية المتأرجحة التي تحسم المعركة الانتخابية، اتسم الحدثان بقدر واسع من المراوغات، فبايدن، راوغ كثيراً حين سأله مذيع شبكة "آي بي سي" جورج ستيفانوبولوس الذي أدار اللقاء، عن موقفه من زيادة عدد قضاة المحكمة العليا، لكنه لم يوضح موقفه مرة بعد أخرى محاولاً التملص من تحديد إجابة مقنعة، إلا بعدما حاصره ستيفانوبولوس، فاضطر للقول أنه سيحدد موقفه قبل موعد الانتخابات في إشارة إلى أن الأمر يتعلق بتثبيت القاضية المحافظة إيمي كونيت التي رشحها ترمب.
ويعني زيادة عدد أعضاء المحكمة العليا، والذي يمكن إنجازه من الناحية التشريعية إذا تمكن الديمقراطيون من السيطرة على الكونغرس بمجلسيه وفازوا بالرئاسة، إضعاف سلطة القضاة المحافظين الذين يشكلون الغالبية حالياً في المحكمة العليا وهو ما يدعمه العديد من التقدميين داخل الحزب الديمقراطي.
وبالمثل حاول ترمب المراوغة من أسئلة وضغوط لشجب جماعات البيض المتشددين المؤمنين بتفوق العرق الأبيض، لكنه أصر على أن العنف يأتي من أولئك الموجودين على اليسار وليس اليمين.
فبعدما تسبب رفض ترمب إدانة جماعات العنصريين البيض خلال المناظرة الرئاسية الأولى بكثير من الانتقادات، كان مستعداً لتأكيد إدانته هذه المرة حتى قبل أن تكمل سافانا غوثري مذيعة شبكة "إن بي سي" التي أدارت الجلسة سؤالها في هذا الشأن، لكنه مع ذلك تنصل من معرفته بجماعة كيو آنون المؤمنين بنظرية المؤامرة.
هل من انحياز؟
عدد من الجمهوريين والمحافظين اعتبروا في تعليقاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، أن الأسئلة الموجهة إلى جو بايدن من جورج ستيفانوبولوس لم تكن أسئلة متحدية أو محرجة بقدر ما كانت الأسئلة الموجهة إلى الرئيس ترمب من سافنا غوثري، ما جعل البعض يتهم الإعلام بالانحياز لصالح بايدن.
وتساءل الكاتب جيمي فايلا على موقع "فوكس نيوز" عن سبب حرص القائمين على شبكة "إيه بي سي" تجاهل توجيه سؤال واحد لبايدن حول تعاملات ابنه هانتر التجارية في أوكرانيا والتي أثارتها صحيفة "نيويورك بوست" في تحقيق لها قبل أيام والذي قمعت نشره أهم مواقع التواصل الاجتماعي، ما كان أشبه بمؤامرة على الإنترنت على حد وصفه، في وقت تسأل فيه مذيعة شبكة "إن بي سي" الرئيس ترمب عن معتنقي أفكار كيو آنون ونظرية المؤامرة، الأمر الذي يكشف التباين الواضح في أسلوب إدارة اللقاءين على شبكتين تلفزيونيتين.
قيادة وتحكم
ويرى فايلا أن المقارنة بين اللقاءين تكشف أسلوب قيادة وآراء كل من المرشحين، فقد ظهر ترمب كمقاتل، اشتد ساعده بعد أربع سنوات من الهجمات المستمرة من وسائل الإعلام العازمة على وقف رئاسته بأي ثمن على حد قوله، في حين أن بايدن بدا مستمتعاً بالهدوء كسياسي غير مهتم بالقتال ويدير الأمور عبر جهاز التحكم عن بعد للتلفزيون.
في المقابل، عبر نشطاء ديمقراطيون عن إعجابهم بيقظة بايدن وتماسكه وقدرته على معرفة تفاصيل الملفات التي يتحدث عنها والتحكم في انفعالاته، بينما عبّر آخرون أن إستراتيجية بايدن بأكملها هي التحليق على ارتفاع منخفض عبر أداء متوازن باتجاه تحقيق النصر النهائي في الانتخابات.
ثمار قليلة
ولعل أهم ثمار ما أفرزته تلك الليلة، تعهد ترمب وللمرة الأولى أنه سيلتزم بانتقال سلمي للسلطة إذا لم يتم إعادة انتخابه، وأنه يريدها انتخابات نزيهة.
وكان ترمب رفض مراراً الالتزام بالتداول السلمي للسلطة في الأشهر الأخيرة، حيث قال عندما سئل في مؤتمر صحافي الشهر الماضي عما إذا كان سيقبل فوز بايدن إنه علينا أن نرى ما سيحدث، كما تهرب نائب الرئيس مايك بنس من السؤال في مناظرته مع كمالا هاريس المرشحة الديمقراطية على بطاقة بايدن الانتخابية الأسبوع الماضي.
من جهة ثانية، دافع نائب الرئيس السابق جو بايدن عن خطته لإلغاء التخفيضات الضريبية التي فرضها الرئيس ترمب على الأثرياء، وقال إنه من المناسب تماماً رفع الضرائب حتى في أثناء الاقتصاد المتعثر، مشيراً إلى أن حوالى 1.3 تريليون دولار من التخفيضات الضريبية التي نفذتها إدارة ترمب بقيمة 2 تريليون دولار، ذهبت إلى الأثرياء الذين يمثلون 1 في المئة فقط من الشعب، وأنه يريد فقط إلغاء الإعفاءات الضريبية على هؤلاء الأثرياء.
إدارة كورونا
في المقابل، أحدثت إجابة المرشحين الرئاسيين حول مسألة كيفية إدارة وباء كورونا الذي طغى على الأمة الأميركية خلال الأشهر الستة الماضية فارقاً واضحاً بينهما، فبينما تحظى الأقنعة بشعبية سياسية ويتم تبنيها كضرورة للصحة العامة من قبل الخبراء، لا يزال ترمب غير قادر على قبول فكرة ارتداء القناع.
صحيح أنه يطالب الناس بارتداء الأقنعة، إلا أنه قبل أيام قال أيضاً إنه قرأ دراسة تعني أن الذين يستخدمون الأقنعة يصابون أيضاً بالفيروس.
ومنذ البداية قلّل ترمب من خطر الفيروس، على الرغم من إصابته به، ونزع قناعه خلال التجمعات الانتخابية لحملته، وسخر من بايدن لارتدائه قناعاً، كما قاوم فكرة أن تكون الأقنعة إلزامية.
في سياق متصل، كشف بايدن أنه قبل أن يمشي على منصة التجمعات الانتخابية، كان يرتدي قناعين كإجراء وقائي يؤكد بعض الأطباء إنه فعال، كما أوضح أنه سيأخذ لقاحاً فور اعتماده بحلول نهاية العام، وسيحث الأميركيين على القيام بذلك، وأنه يدعم جعل اللقاحات إلزامية وإن أقر بأن مثل هذا الإجراء سيكون من الصعب تنفيذه.
وفي ظل عدم حسم عدد من مواقف المرشحين حتى الآن واستمرار المعركة الانتخابية على حالها مع استمرار نتائج استطلاعات الرأي على ثباتها، يترقب الأميركيون المناظرة الانتخابية الأخيرة والمقرر أن تجري مساء يوم 22 الجاري، قبل نحو عشرة أيام من الانتخابات المقررة في الثالث من نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل.