عاد مصطلح "الركود" على حين غرة ليطلّ من جديد على ساحة الحسابات العالمية. فعمت الأسبوع الماضي موجة خوف مفاجئة اجتاحت الأسواق المالية، مع إشارة سوق السندات إلى حدوث تباطؤ اقتصادي متوقع في الأشهر المقبلة.
وهنا يبرز عدد من العناصر. فأسعار السندات الأميركية ارتفعت أو لم تتأثر متجاهلة ما يجري، وانخفضت معدلات الفائدة الأميركية الطويلة الأجل، وعليه، تراجع معدّل الفائدة على سندات فئة العشر سنوات إلى ما دون عائدات سندات الخزانة لثلاثة أشهر.
تحوّلت معدلات الفائدة على السندات الألمانية من فئة العشر سنوات إلى سلبية. كما غيّر الاحتياطي الفيدرالي الأميركي توصياته بشأن التحرّكات المستقبلية لمعدلات الفائدة، ملمحاً إلى أنّه قد لا يرفع المعدلات هذا العام. قبل بضعة أيام، أعلن المصرف المركزي الأوروبي أنّه سيواصل برنامج التيسير الكمي وضخّ مزيد من المال في النظام المصرفي الأوروبي.
إن كان كلّ ما تقدم يبدو بالغ التقنية، فما يجب أن يعرفه الجميع هو أنّ المصرفين المركزيين الرئيسين في العالم والأسواق، ترى ان ثمة خطراً فعلياً بوقوع ركود اقتصادي. فهل هم مصيبون؟
حسنٌ، لنأخذ نفساً عميقاً. بطبيعة الحال ليس باستطاعة أحد معرفة ما سيجري، غير أنّ هناك بعض الأمور التي يمكن قولها منطقياً في هذه الدورة الاقتصادية. أولها مفاده أن الدورة الاقتصادية الشاملة موجودة، وأن الاقتصادات تتسارع وتيرتها وتتباطأ، وأن مدّة هذه الدورة تراوح بين 7 و10 سنوات. إذا احتسبنا الهبوط الأخير في 2009، نجد أننا في مرحلة النمو ومضى على بلوغنا إياها 10 سنوات، ولهذا يجب أن نتوقّع حدوث نوع من الهبوط قريباً.
أمّا أن نسأل لماذا يجب أن يكون هناك أي هبوط فهو صنو السؤال هل ينبغي أن تكون هناك دورة اقتصادية في الأساس. ليس بوسعي أن أقدم جواباً مُرضياً، وجل ما في الإمكان هو ملاحظة أنّه في الأوقات الجيدة، يتحمّس الناس كثيراً ويفترضون أنّ كلّ شيء سيدوم إلى الأبد والعكس صحيح. لنتقبّل وحسب أنّ حالتَي الازدهار والكساد كلتيهما ستصل إلى خواتيمها في نهاية المطاف. ومن العوامل التي قد تنهي مرحلة النموّ الحالية هو التوتّرات التجارية العالمية والنقص في اليد العاملة والافراط في الديون وتضخّم أسعار الأصول.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يشهد العالم حالياً قدراً كبيراً من التوترات التجارية وضيق أسواق العمل في عددٍ من الأنظمة الاقتصادية، بما فيها الولايات المتحدة وألمانيا والمملكة المتحدة، فضلاً عن تراجع النمو في الصين (جرّاء الإفراط في الاستدانة) وتضخّم أسعار أسهم التكنولوجيا الدقيقة في أميركا- على الرغم من أن العامل الأخير هذا، عاد إلى مساره منذ الخريف الماضي.
أما المسألة الثانية التي يُجدر التذكير بها فمفادها أنّ كلّ هذه السلبيات لم تخرج عن حدود الطبيعي. فيقع المرء على مجموعة من الخصائص السلبية التي قد تنذر بالانكماش في ذروة كلّ طفرة اقتصادية. والعسير على الإدراك هو إذا كان ما يحدث يتخطّى حدود تجربتنا من الدورة الاقتصادية التي تعود إلى القرن الماضي.
تخطّت الأزمة المصرفية عام 2008 حدود المألوف، لم يحصل ما يضاهيها منذ الثلاثينيات. ولم تكن فقاعة الانترنت، "دوت-كوم"، بين 1998 و1999 سوى انفجار "طبيعي" لنشوة المضاربات.
طبعاً، في مقدور الناس أن يناقشوا ما هو طبيعي وأن يختلفوا بشأنه، على خلاف ما هو خطر اندلاع حرب تجارية بين أول اقتصاد وثاني اقتصاد في العالم. فهذا الخطر ليس أمراً عادياً، بمعنى أنّنا لم نشهد من قبل ما يشبه الصراع المستعر بين الولايات المتحدة الأميركية والصين.
ولكن، يُرجح التوصّل إلى نوع من تسوية، وحتّى في غياب تسوية، لن يكون الخلاف على نحو يكفي لزعزعة الاقتصاد العالمي برمّته.
يقلق الكثير من الناس بشأن تراكم الديون الحالي، ولكن بشكلٍ عام، فإنّ مستويات الدين في العالم منخفضة أكثر بكثير ممّا كانت عليه في نهاية الحرب العالمية الثانية. وهذه المستويات كانت فاتحة مرحلة طويلة، وإن كانت ملأى بالمطبّات أو العثرات، من النموّ الاقتصادي.
ماذا بشأن أسعار الأصول المفرطة؟ حسنٌ، أعتقد أنّ عائدات السندات التي هي أقلّ بكثير من التضخّم المتوقّع قد أدّت إلى ارتفاع الأسعار، وربما إلى تضخّم أسعار أصول أخرى. فالعقارات السكنية باهظة الثمن جداً في عدد من البلدان المتطوّرة. فإذا لم يكن بوسع الشباب الذين يتقاضون رواتب جيدة والذين استهلّوا حياتهم المهنية بشراء منازل في نيويورك أو لندن، بدا أن الأمور ليست على ما يرام.
غير أنني لا أعتقد أنّ قيمة الممتلكات مبالغ فيها مبالغةً لا تعقل، أقلّه ليس في غالبيّة المناطق. لنوضح الأمور بهذه الطريقة، قيمة الملكية ليس مبالغاً فيها كما كانت الحال في اليابان في أواخر الثمانينيات عندما كانت قيمة أرض القصر الامبراطوري في طوكيو تساوي أكثر مما تساوي قيمة كلّ أراضي كاليفورنيا.
فما الذي يخرج عن المألوف في هذه الدورة؟ البارز في ذروة ارتفاع النمو إن معدلات الفائدة منخفضة أو حتى سلبية في العالم المتطور. أرى أن هذا يشير إلى شيء ما بشأن الانتعاش الاقتصادي المقبل، الذي أخشى أن يكون خافتاً أو لا يثير جلبة، ولا ينذر بما سيكون عليه الانكماش المرتقب.
لا يقلقني حدوث تراجع عالمي خطير العام المقبل (مع أنّني اتوقع حدوث ركود متوسط) بمقدار ما يقلقني ركود قد يضرب بدءاً من العام 2020 وما يليه.
ولكن حتّى ذلك هو أمر غير بديهي نظراً إلى طفرة الابتكار التكنولوجي اليوم. خلاصة القول: نعم، بالتأكيد سوف نشهد انكماشاً ولعلّه سيحدث العام المقبل. ولكنه لن يكون على مقدار سوء الركود في 2008 و2009.
© The Independent