استكمل الجانب الفلسطيني ممثلاً في حركة فتح اتصالاته ومشاوراته في مصر، والتي جاءت عقب انتهاء المفاوضات بين حركتي حماس وفتح في مقر القنصلية الفلسطينية في إسطنبول، واستقرت على إجراء ثلاث انتخابات ضمن فترات زمنية متتالية، تبدأ بانتخابات المجلس التشريعي، ثم يليها دون تحديد سقف زمني، انتخابات رئاسة السلطة الفلسطينية، وبعدها انتخابات المجلس الوطني الفلسطيني، وهو ما يرسم خريطة الطريق نظرياً للقضية الفلسطينية، مثلما جرى في مراحل زمنية سابقة. والسؤال ماذا عما جرى في القاهرة من اتصالات ولقاءات تستهدف الاتفاق على الخطوة التالية، وهي الأهم، أي مراحل التنفيذ؟
تطورات مهمة
جاءت الاتصالات الفلسطينية مع القاهرة بعد الذهاب إلى أنقرة، حيث كانت الدعوة التركية المباشرة لإمكان أن يتوافق الجانبان في حركتي حماس وفتح، وهو ما تم بالفعل وفق البيان المشترك عن المشاورات التي مرت عبر تركيا إلى قطر ثم مصر، وأخيراً إلى الأردن كما هو مقرر. والرسالة أن ما يدور ليس مرتبطاً بعاصمة محددة، وإنما إشراك فلسطيني للأطراف المعنية وهي تركيا وقطر ومصر والأردن، وربما أيضاً روسيا في مرحلة أخرى.
إن ما جرى في تركيا وكذلك في القاهرة، هو محاولة وضع جدول زمني محدد لانتخابات يمكن البناء عليها، بخاصة وأن الاتفاق على مواعيد معينة سيلزم بالأساس السلطة الفلسطينية من خلال الرئيس محمود عباس، إذ سبق أن حدد الرئيس الفلسطيني مواعيد ورفضتها حركة حماس فعلياً، كما رفضت أن تشمل قطاع غزة، واشترط عباس أن تجري في القدس أيضاً، وهو ما تحفظت عليه الحكومة الإسرائيلية وتم طرح التصويت الإلكتروني.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتبرز مخاوف من أن يكون ما جرى في القاهرة وربما بعدها في الأردن أو قطر، رد فعل لا أكثر، تجاه ما جرى من العلاقات بين إسرائيل وكل من الإمارات والبحرين، وهو ما قد يرتب خيارات ومسارات أخرى في إطار علاقات فلسطينية عربية، في ظل فشل الوفد الفلسطيني في الجامعة العربية في تمرير مشروع قرار يدين اتفاقات السلام الفردية، ويدعو للالتزام بالموقف العربي، أي العودة للمبادرة العربية التي باتت حبراً على ورق، ولم يعد أحد يتحدث في شأنها.
ومما لا شك فيه أن هناك صراع أدوار في ظل تعدد الأطراف المصرية القطرية الأردنية والتركية والروسية، وهو ما يعني تشعب الحل الفلسطيني بالرغم من أن خريطة الطريق واضحة تماماً، ولا تحتاج إلا لإجراءات تنفيذية على الأرض، وإعادة الأمور لنصابها، والعمل على تفكيك المشهد المعقد من خلال إجراء الانتخابات على مراحل أو في صورة متتالية، أي الالتزام بكل ما تم مسبقاً في القاهرة من حوارات وصلت لاتفاقات نهائية، ولم يبق سوى التنفيذ، واليوم توافرت الإرادة السياسية لإتمام ذلك، وعلى الأطراف الفلسطينية كافة الالتزام الحقيقي بها، ومن المشكوك فيه أن توافق إسرائيل على الانتخابات في الأراضي المحتلة والقدس الشرقية، بحيث يتم انتخاب الممثلين الذين يعارضون اتفاقات السلام الأخيرة، وبرنامج الرئيس الأميركي ترمب الخاص بمشروع السلام.
رسائل متعددة الاتجاهات
ويبدو أن هناك رغبة من طرفي المعادلة الفلسطينية (فتح وحماس) في نقل رسائل متعددة الاتجاهات، فحماس بدورها أبدت تحفظات حقيقية على نهج الوساطة المصرية وربطها بملفات أمنية وسياسية، وعدم القدرة على فتح ثغرة في مسارات التحرك الإسرائيلي ورفع الحصار، فضلاً عن إبداء تحفظات على أسس التحركات المصرية المتعلقة بملفات محدودة ومنها ملف الأسرى، وتوسيع مناطق الصيد، وإدخال العمالة إلى إسرائيل والحصول على مكاسب بفتح معبر رفح في ظل تجمد النقاش حول إقامة منطقة تجارة حرة أو صناعية، كما اختزلت الدور القطري في تمويل بعض الأنشطة الخدمية والاستمرار في تقديم الخدمات للجنة إعمار القطاع، والتي تتحول وفق قيادات الحركة أخيراً إلى لعب دور استثماري وليس خدمي أو تطوعي، فيما ظلت السلطة الفلسطينية تتحفظ على التدخلات المصرية والقطرية في الشأن الفلسطيني وإشكالات الخلافات الفلسطينية، وعدم مواجهة الدول العربية الماضية في مسار اتفاقات السلام.
يضاف إلى ذلك تخوف كل أطراف المعادلة الفلسطينية من تبعات ما يجري من انفتاح المشهد العربي على إسرائيل، ما قد يصفي القضية الفلسطينية من أصولها الحقيقية، وبالنسبة لحركة فتح فهي تتخوف من استمرار الوضع الراهن في الضفة في ظل حال الحراك الشعبي غير الدوري، وإعادة تدوير بعض الأفكار الأميركية في شأن إشكالات الخلافات الفلسطينية، والتلويح باسم القيادي السابق في حركة فتح محمد دحلان لخلافة الرئيس محمود عباس، في ظل حال عدم الاستقرار في فتح، ومعاناة السلطة من أزمة مالية خانقة وسط تجفيف منابع الدعم الخارجي وبخاصة الأميركي، وحجب أموال المقاصة التي كانت تجنيها الحكومة الإسرائيلية وتسددها للسلطة الفلسطينية.
أما بالنسبة لحركة حماس، فهي تتخوف من استمرار الحصار المفروض على القطاع، واتهام الحركة بأنها تسعى للحصول على مكاسب شكلية ضيقة تفقدها حضورها ودعم الرأي العام في القطاع، وهو ما جعل حماس ترفض الخيارات المطروحة كافة، ومنها تقديم مزيد من التسهيلات والمزايا لسكان القطاع، بل بالعكس تعاملت من أعلى بتوجيه صواريخها على غلاف منطقة غزة لنقل رسائل بالوجود إلى جانب السلطة في خياراتها، ولو على المستوى الشكلي.
جدول الأعمال
وفقاً لما جرى في اجتماعات القاهرة، فإنه لا توجد مفاوضات جديدة وإنما إجراءات لتفعيل ما تم الاتفاق في شأنه سابقاً، وهناك أفكار مصرية ربما ستكون نقطة البدء في التنفيذ، بخاصة وأن ما تم في إسطنبول منذ أيام سبق وأن اقترحته مصر وتم التوافق في شأنه، ولا يحمل جديداً في مسألة الانتخابات ومنح فتح وحماس فرصة للتنفيذ وتحديد الأولويات، على أن يتم تأجيل استحقاقات المصالحة الكبرى والمعقدة لحين إجراء الانتخابات وإتمامها في توقيتات محددة بالفعل، تخوفاً من أية تطورات دراماتيكية، في ظل تحولات ربما يشهدها الملف الفلسطيني، ومنها ارتباك الوضع في إسرائيل وذهابها لانتخابات جديدة، أو تغيير الإدارة الأميركية والبدء من جديد، إضافة لاحتمال عدم ذهاب بعض الدول العربية المرشحة لإقامة علاقات سلام مع إسرائيل بتأجيل الخطوة لعدة أشهر، وبالتالي فإن هناك فرصة حقيقية أمام الفلسطنيين لترتيب أوراقهم.
ووفقاً لرؤية القاهرة التي قبل الفلسطينيون بعضها في حواراتهم بالعاصمة المصرية أخيراً، تظل المسألة مرتبطة بما هو آت، وليس مهماً أن يكون من تركيا أو قطر، وبالتالي فإن حسابات القاهرة أشمل ورؤيتها أعمق، إذ لم تُطرح في تركيا رؤى محددة أو جدول أعمال بمعنى الكلمة، كما أن قطر ليس لديها الخبرات الكافية في الملف الفلسطيني، وهو ما تدركه القوى الفلسطينية وخاصة حماس.
وكشفت كواليس اجتماعات القاهرة عن ضرورة العمل على تنظيم مسارات الحل والتنفيذ دفعة واحدة، مع عدم إعطاء الفرصة لأية تجاذبات جديدة، وإن كان ذلك مرتبطاً بالجانب الفلسطيني، بخاصة وأن هناك ردود فعل فلسطينية بدأت تلوح في الأفق وتعترض على هذه اللقاءات، وترى أن اتفاق حماس وفتح من دون الفصائل الأخرى سيفشل أي اتفاق أصلاً، إضافة إلى أن إجراء الانتخابات بالتزامن أو تباعاً يحتاج بالفعل، وهذه المرة بالتحديد، جدول أعمال صارماً تلتزم به كل الأطراف، مع وجود ضمانات من الأطراف الإقليمية الأخرى ومنها قطر والأردن وتركيا وروسيا على المستوى الدولي، والاتحاد الأوروبي واللجنة الرباعية، وهو ما سيعمل عليه الجانب الفلسطيني في إطار محاولته إشراك أكبر عدد من الدول لضمان صدقية ما سيجري، بخاصة وأن القاهرة لا تعارض دور أي طرف، فهناك مساحات من التقبل لطرح البعض، فملف الأسرى على سبيل المثال قطعت مصر شوطاً كبيراً في إنجازه، ولديها سابق خبرة في صفقة جلعاد شاليط، كما أن قطر تؤدي دوراً في ملف التهدئة، لكن الإشكال الحقيقي في وجود متغير إقليمي في اتجاه دول عربية جديدة لاتفاقات السلام، ولا تملك القاهرة أو أية دولة عربية إمكان إيقاف ذلك في الوقت الراهن، بما في ذلك ما يجري في الجامعة العربية من تحولات في المواقف والتوجهات التي يجب على الجانب الفلسطيني تفهمها، بالرغم من كل الانتقادات التي تم توجيهها إلى الدول التي قامت بذلك، في ظل بقاء المشهد الفلسطيني على حاله.
موقف فتح
لا تريد فتح من هذه التطورات والاتصالات في القاهرة أن تقيد مسارات الحركة في توجهاتها، ولهذا سيكون الانتقال من عاصمة لأخرى مطروحاً في ظل هدف معلن للرئيس محمود عباس بضرورة إجراء الانتخابات وحسم الأمر، وعدم إعطاء الفرصة للجانب الإسرائيلي في الانفراد بالمشهد، مع الاستمرار في الاعتماد على الورقة التركية في مواجهة ما قد يطرح مصرياً، وهو ما تفسره القاهرة وفقاً لحساباتها الخاصة، وأن تركيا تريد توظيف الملف الفلسطيني ضمن أوراق ضاغطة في مواجهة مصر، مثل ملف ليبيا وشرق المتوسط وغيرها.
كما تتخوف حركة فتح من احتمال الاستمرار في خطوات إجراء الانتخابات وانفتاح حركة حماس وفصائل أخرى على الإدارة الأميركية، بل وعلى إسرائيل في ظل مخطط أميركي - إسرائيلي غير معلن يقوده كوشنر، وبالتالي يمكن لحركة حماس الانخراط في هذا الاتجاه في حال فشل ما جرى في القاهرة أو إسطنبول أو الدوحة، ولدى حركة فتح تقييم بأن حماس باتت الطرف المقبول أميركياً، وفي هذه الحالة فإن إعادة تعويم دورها سيتطلب اعتماد بدائل وسيناريوهات عدة، وبالتالي فإن مصر تريد فرض استراتيجية تفاوضية حقيقية، وتحديد جدول أعمال متماسك وراسخ بدلاً من ترك الأمور على عواهنها، في ظل سيناريو مفتوح ربما يضم أطرافاً آخرين. ويبدو أن القاهرة لن تسمح هذه المرة بتعدد مسارات الحل أو الذهاب لعواصم بديلة في حال الاتفاق النهائي على منهجية الخيارات والحلول، بخاصة وأن الجانب الفلسطيين ما زال يرتب ملفاته وأوراقه، وهذا ما تدركه القاهرة جيداً، ومنها على سبيل المثال درس التفاهمات التي تمت بين فتح وحماس عبر اجتماع اللجنة المركزية لمنظمة التحرير نهاية هذا الأسبوع، ووفقاً لمصادر خاصة فإن الرئيس محمود عباس هو من طلب من فريق مفاوضي فتح البدء بتركيا، لتليها قطر ثم مصر، على اعتبار أن القاهرة هي مرتكز الحركة الفلسطينية، وأن فريق المفاوضين وبخاصة اللواء جبريل الرجوب وروحي فتوح هما من يديران المشهد، على أن يكون العرض النهائي والأخير في الأردن.
موقف حماس
سعت القاهرة لتوجيه قائمة تحفيزية لحركة حماس قبل الشروع في إجراء التشاورات الأخيرة، من خلال فتح المعبر استثنائياً، كما أفرجت عن 11 مواطناً من غزة بينهم سيدة، كما تم تأمين عودة الصياد الثالث ياسر زعزوع بعد مهاجمة مركب صيد كان على متنه إلى جانب اثنين من أشقائه أُعلنت وفاتهما، مما يشير إلى أن هناك مساع للتعامل مع الحركة على أسس مباشرة، ووفقا لما هو جارٍ، لم توقف مصر دعمها للقطاع، بل وسمحت بدخول الأموال القطرية، ونسقت مع مبعوث الأمم المتحدة نيقولاي ميلايدنوف في تقديم التسهيلات وغيرها، في رسالة داعمة للحركة في ظل استمرار التزامها بضبط الحدود على الجانب الآخر، كما استمرت مصر راعية لصفقة تبادل الأسرى على الجانب الآخر، وستكون القاهرة وليس قطر من ينفذها، على غرار ما جرى في صفقة جلعاد شاليط.
لكن في المقابل، تريد العاصمة المصرية من حركة حماس عدم طرح "مراوغات جديدة"، وهو الأمر الذي سيدفع باعادة التأكيد على استحقاقات المصالحة المعطلة، والاتجاه مباشرة لدعم خطوة إجراء الانتخابات تباعاً، وهو ما سيكون على رأس الأولويات، مع نقل رسالة بأن مصر هي المدخل لحصول حركة حماس على تسهيلات على الجانب الآخر، وهو ما نقل بصورة كبيرة وواضحة لقيادات الحركة أخيراً، حين سمحت القاهرة بخروج إسماعيل هنية للتنقل في العواصم الأخرى، وأنها لا تضغط على الحركة في ملفات محددة مثلما تفعل باقي الأطراف الإقليمية ومنها إيران أو تركيا، وحتى قطر التي تواجه اتهامات بتحويل لجنة إعمار القطاع من دورها التطوعي إلى دور استثماري، كما نُقل للحركة بأن مصر ستظل تشارك في بناء الاستحقاقات باعتبارها شريكاً لا وسيطاً، وأنها ستسهم في تصويب مسار النظام السياسي الفلسطيني الجديد، وستشارك في متابعة سير العملية الانتخابية، كما ستستجيب لبعض المطالب المتاحة للحركة، وهو ما تم بالفعل أخيراً في إطار تشجيع الحركة على الاستمرار في خطها التصالحي.
خلاصات أخيرة
إن ما جرى في القاهرة هو جوهر ما سيحدد مسار التحركات الفلسطينية - الفلسطينية بين حركتي فتح وحماس من جانب، وسائر الفصائل الفلسطينية من جانب آخر، بخاصة وأن كل ما سيتم الاتفاق في شأنه سيكون مرتبطاً بما ستتم مناقشته في مؤتمر الأمناء العامين للفصائل الفلسطينية مطلع أكتوبر (تشرين الأول) المقبل.
وتبقى أن نشير إلى أن الفترة المقبلة ستشهد صعود نجم قيادات فلسطينية مثل جبريل الرجوب وخالد مشعل، والذي كان محوراً لاتصالات تمت في قطر بين الجانبين، مما يعطي دلالات لاحتمال عودته رئيساً للمكتب السياسي، مع التوقع بأن انتخابات حركة حماس لن تتم خلال الفترة المقبلة.