شهدت حكومة حزب العدالة والتنمية في أنقرة أزمات حادة في القضية السورية والليبية ومع الأكراد، ولم تصل في أي واحدة منها إلى حل مقبول ومعقول، بل زادت الطين بِلةً، وأضافت إلى الأزمة مزيداً من التعقيد، وجلبت على تركيا عزلة مريرة في المنطقة، والمسؤول عن ذلك في المقام الأول هو الرئيس رجب طيب أردوغان وفريقه.
وأخيراً، أقحم هذا الفريق تركيا في أزمة شديدة مع أثينا، واضطرت حكومة أنقرة إلى التراجع من الحلبة خالية الوفاض بعد أن دمرت ما تبقى لديها من المصداقية الضئيلة على المستوى الدولي.
لكن يبدو أن أردوغان سيواصل البحث عن عدو للتغطية على الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يعيشها في السياسة الداخلية، ولهذا، سيواصل الأسلوب الذي ظل يتبعه في السنوات الأخيرة؛ أسلوب المراهق العدواني، المتشاجر، المتنمر في الحي.
ومن المرجح أن يلجأ الرئيس التركي إلى خطاب يؤجج العواطف الدينية ويدغدغ المشاعر القومية مثل؛ "الخلافة، والاتحاد الإسلامي، وقضايا الأمة، وقضايا الشعوب التركية"، حتى يستطيع التلاعب بعقول الجماهير ورص الصفوف في الوسط السياسي الداخلي، ولكن لتحقيق ذلك لا بد له من عدو يمكن توظيفه في تمرير أجندته.
لا يبني أردوغان خطابه على مصطلحات المنافسة السياسية، بل يفضل استخدام مفردات الإقصاء والاستقطاب، التي طالما استفاد منها في لملمة جماهيره وجلب أصواتهم، على حساب المصالحة الداخلية والمصلحة الوطنية وبخاصة على الصعيد الدولي.
كما أنه من خلال مفردات مثل "عدو، والخائن للوطن، وغير وطني، وعميل القوى الخارجية" يحاول ممارسة الضغط على كل من يمارسون السياسة خارج خطه. ويبلغ به الحرص أحياناً على إنتاج أعداء مصطَنعين إلى أن يستخدم هذه اللغة السلبية حتى مع رفاق دربه السابقين الذين لم يعودوا يوافقونه على مغامراته.
ويتعمد أردوغان ذلك لأن مثل هذه الصراعات، بخاصة مع الغرب وقيمِه، تحافظ على تماسك القاعدة الشعبية لحزب العدالة والتنمية، وللأسف تكون المفردات الدينية هي المادة الرئيسة الفعالة في هذه الدعاية، لأن الفهم الإسلاموي (الإسلام السياسي) يشكل أساس الخط السياسي لأردوغان، ولذلك يتعمد الرئيس مَحوَرة كل قضية؛ من التعليم إلى الصحة ومن الطعام إلى الشراب، حول القيم الإسلامية. وبهذه اللعبة يحاول أن يقدم خصومه على أنهم ليسوا معارضين لحزبه، بل إنهم خصوم للإسلام وقيمه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
والحقيقة هي أن اللون الأساسي للنظام الذي يريد حزب العدالة والتنمية إقامته وترسيخه ليس الإسلام بالمعنى الصحيح بل الإسلام السياسي، ولكن المؤسف هو أن أردوغان وفريقه لا يتوانون عن الاستشهاد بالآيات القرآنية والنصوص الدينية كلما ضاق بهم الطريق.
وكان أردوغان يقوم بمثل هذه الخطوات من خلال تصريحات له أو لمسؤولين في حزبه، ثم تواصل المؤسسات الإعلامية الموالية له تشكيل الرأي العام. ولكن يبدو أنهم شعروا بالحاجة إلى مأسسة هذا العمل الذي يحتاج إلى دعاية منظمة وفعالة، ولتحقيق ذلك تم الإعلان يوم الجمعة الماضي، بعد يومين من توقف الأزمة مع أثينا، عن إنشاء قسم الاتصال الاستراتيجي وإدارة الأزمات، التابعة لمديرية الاتصالات في الرئاسة.
وقال البيان الرئاسي المنشور في الجريدة الرسمية، "لقد تم اتخاذ القرار بمحاربة جميع الأنشطة الهادفة إلى إجراء عمليات نفسية ودعايات مضللة هادفة إلى التلاعب بالعقول"، وبتعبير أوضح، لقد تم إنشاء قسم رئاسة الدعاية! وأصبحت هذه الوحدة مؤسسة فوق كل الوزراء ومرتبطة بأردوغان بشكل مباشر.
ولعله تَبادر إلى أذهانكم ما تبادر إلى ذهني أيضاً. حيث إنه في عهود ألمانيا النازية وبعد أن تمكن أدولف هتلر عام 1933 من السلطة أسس وزارة الرايخ العام للتنوير والدعاية برئاسة جوزيف غوبلز. وكان هدف تلك الوزارة ضمان نشر الرسالة النازية بنجاح من خلال الفنون والموسيقى والمسرح والأفلام والكتب والإذاعة والمواد التعليمية والصحافة.
صحيح أن الدعاية ظاهرةٌ كان الناس منذ وجود البشرية على وجه المعمورة، يلجأون إليها من أجل تحقيق التفوق في صراعات القوى. ولكن غوبلز حاز قصب السبق في مجال الدعاية الكاذبة حتى اتحد اسمه بها وأصبح بمثابة الاسم الجامع المانع لمثل هذه العمليات.
وكان من ضمن أنشطة المؤسسة التي ترأسها غوبلز الأعمال التالية:
- العمل المستمر على ترويج الفكرة القائلة بأن هناك تطلعاً وشوقاً شديداً لدى الجماهير إلى القائد الكاريزمي.
- خلق صورة هتلر في أذهان الشعب وكأنه الأب القادر على فعل كل شيء، بالإضافة إلى نشر الاعتقاد بأنه هو القائد الشبيه بالمسيح، الذي سينقذ ألمانيا وأوروبا.
- تسهيل التواصل مع الجماهير من خلال إنتاج شعارات وخطابات بسيطة وملموسة وجذابة وعاطفية.
- شيطنة المعارضين في نظر الجمهور أولاً ثم تطبيع سجنهم وقتلهم.
وكانت هذه الوحدة تقوم بكل أشكال الدعايات بما فيها إعداد خطابات هتلر. وكان هدف هتلر هو تدمير النظام الدولي القائم آنذاك واستبداله بنظام يوائم عقليته وأهدافه الخاصة. ومن المؤسف أنه حقق نجاحاً ملموساً في إقناع مواطنيه بدعاياته الكاذبة لفترة طويلة، خصوصاً فيما يتعلق بالأوضاع في الدول التي قام باحتلالها، ومع ذلك، ظهر الوجه الحقيقي لهذه الأنشطة الدعائية عندما تراجعت هيمنته وتضاءل الدعم اللوجستي لهذه الوحدة، وكانت عملية انهيار نظام هتلر أسرع من المتوقع، والمحزن أنه نتيجة لهذه الدعاية القائمة على الأكاذيب، قُتِلَ ما يقرب من سبعة ملايين مواطن يهودي.
وبالنسبة لمهمات الوحدة الدعائية التي أنشأها أردوغان فإنها تكاد تكون في مواصفات وزارة الدعاية نفسها التي أنشأها هتلر. لذلك، من الواضح أنه لن يكون من الصعب على أردوغان بعد هذه المرحلة افتعال عدو لنفسه في الداخل أو الخارج، فليس من المهم بالنسبة له هوية هذا العدو، داخلياً كان أو خارجياً، ولا خلفيته السياسية أو الطائفية.
يذكر أن المبنى الذي تم تخصيصه لهذه المهمة عمارة كبيرة مكونة من 30 طابقاً في قلب أنقرة، تم إنشاؤها من قبل رجل أعمال لتكون سكناً للطلاب، ولكن حكومة أردوغان صادرت كل ممتلكات الرجل، بما فيها هذا المبنى بحجج واهية ثم حوّلته إلى مؤسسة للدعاية.
فهذه النقطة الأخيرة فقط تكشف لنا مدى قسوة أردوغان في شأن إنتاج الأعداء، حيث يقوم بشيطنة من يريد، ثم يتألب عليه؛ ليوظف عداوته فيما يراه مناسباً لمصالحه السياسية، حتى وإن كان على حساب مصلحة البلاد.