1-
حين بدأتُ أحبو في عالم الكلم كانت مفردة "غرناطة" الحلم العربي الذي أهدر الكثير من الحبر، فلا بد من غرناطة وإن طال الرحيل، مع الكبر لم يعد "نزار قباني" شاعري ولم تعد غرناطة لازمة الشعر العربي، لقد عاد العربي من ترحاله في الماضي البعيد إلى "القدس عروس عروبتنا"، ومن الحلم إلى الشتيمة حط العربي الشاعر رحاله.
عندئذ مع غروب عروبة الستينيات، وفي هوامش دفتر نكسة الخامس من يونيو (حزيران) قرأت مقالة بجريدة "الحقيقة" الليبية، المقالة الأسبوعية للصادق النيهوم التي لم تفارق القصة التي حوتها مخيالي ما جاء فيها: أنه لرجل زوجة، جعلت لها عشيقا فاح أمره حتى غص الرجل بالرائحة فلم يجد سبيلا للخلاص، وفي يوم كاتم للأنفاس اكتشفت الشرطة مقتل الزوجة، من قُتلتْ في وسط بيتها، ووجِدَ على جثثتها مسدسُ زوجها بل وبطاقته الشخصية وحتى بصماته، لذا قُبض على الزوج، من وكّد الشهودُ خلافه العنيف مع زوجته ومسألة العشيق. الزوج المستسلم للأمر في المحكمة رفض أن يوكل محامياً، ومن ثم طالب المحلفين أن ينصتوا لضميرهم، فكيف لرجل مثله أن يقتل امرأته بكل تلك الشواهد التي تغصّ بالتهم المؤكدة لارتكابه الجريمة؟، ثم تطرق إلى خلاف شهير بين زوجته وعشيقها، كان صارخا حتى أن أطفال الجيران شهوده. تأكد المحلفون من الأمر وأعيد التحقيق فأُعدم العشيق من وكّد ارتباكه براءة الزوج المحاصر بالأدلة.
كانت الجريمة هي عروس عروبتنا عند الصادق النيهوم.
لم يكن مكانُ الجريمة مؤكدا حتى بعد صدور وعد بلفور عقب الحرب الأوروبية الكبرى الأولى، ومنذ قرن من الزمان، وفي كتاب للباحث الليبي مصطفي بعيو- صدر منذ عقود- دراسة لوثائق تبين أن الصهاينة بحثوا مُكنة أن يكون الجبل الأخضر بليبيا أرض الميعاد، ثم بحثوا أيضا أن تكون أوغندا، فشبه صحراء سيناء، أي أن فلسطين رُجحت لأسباب أسطورية محض.
الأسطورة كانت الوسيلة الفُضلى لحلّ المسألة الأوروبية المتفاقمة، والطريقة الفضلى لنفي مواطنين أوروبيين، كما كانت أستراليا منفى المجرمين البريطانيين، هكذا نُزعت المواطنة عن مواطنين أوروبيين، جريمتهم الاختلاف الديني (يهود). وكما أن الحرب الكبرى الأولى الدافع الأكبر لإصدار الوعد بحل المسألة اليهودية من الدولة الأكبر حينها، فإن الحرب الكبرى الثانية كانت الدافع الأكبر لجعل فلسطين/ الأسطورة مكان الجريمة.
2-
خلال حربين وضعت خارطة طريق ونفذت الخارطة لدولة (إسبارطة)، الأسطورة الغربية الحديثة تجسدت كدولة حرب، ما سماها القوميون العرب (الخنجر المسموم) في ظهر بلاد العرب، وما مثلت للإسلاميين النموذج لاستعادة (الخلافة)، من هذا فإن منطقة الشرق الأوسط اتخذت كساحة للحرب، غطاؤها الدين فالقومية، الدين العصري.
إن ترمب، فاليمين الغربي جملة، يرى في إسرائيل الدولة النموذج : دولة الإنجيل المسلح، نموذجهم المتحقق في العالم القديم، واليمين دائما ما يتعايش على الأسطورة كسبيل للتحشيد، لهذا فإن القدس الأسطورة/العاصمة المثلى للشعبوية الترمبية، وأما الجولان فَتحقُق للوسيلة المثلى للحرب. وضم القدس فالجولان ليس كما دعم أكيد للشعبوية في إسرائيل فحسب، بل وأنها قبل، كما عامل قوي لحملة ترمب الانتخابية الشعبوية، وذلك ليس من أجل فترة رئاسية ثانية فقط، بل وفي الأساس، لتكريس هذه الشعبوية، ومن أجل سيطرتها في الغرب وفي أميركا طبعا القائدة الترمبية لهذا التيار، وبهذا عودة لهتلرية لكن في صيغـة ما بعد الحداثة وفي عصر العولمة والشبكة العنكبوتية.
مرة ثانية تطفو على السطح المسألة اليهودية، وتُستعاد في حرب مواجهة الإرهاب! كنتيجة صارخة لانتهاء الحرب الباردة، وفي هذه الحرب تنمو الشعبوية كقائدة للإمبريالية، وفي تغريده لترمب يصدح بوق عصر إمبريالي جديد في وسائله قديم الأهداف.
3-
في الحرب الناتجة عن انتهاء الحرب الباردة، والمسماة بحرب الإرهاب، تبدو إسرائيل خارج خارطة العالم، إسرائيل لا تَزرع لكنها تَحصد النتائج التي يتكفل بزرعها النظام السياسي العربي نتاج الحرب الكبرى الثانية، وفي عصر الإمبريالية الجديد القديم في آن، تظهر إسرائيل الكبرى على الخارطة الترمبية أو الإمبريالية الشعبوية.
الواقع أن الشرق الأوسط البطن الرخوة للعالم، الساعة ساحة الحرب المتبقية في حروب الغرب، التي كرست بالحرب الكبرى الأولى فالثانية، فالثالثة/ الباردة، ما شُطرتْ لحروب صغرى بالوكالة في دول ما بعد الاستعمار، حيث تتمظهر حاليا في حرب الإرهاب، ما يبدو لي أن من نتائجها تغريدات ترمب الشرق أوسطية المتتالية.
أما في الجانب العربي فلا يمكن الجزم بالنتائج رغم الحاصل، فالميديا الغربية الأقوى منذ مطلع العقد الثاني للألفية الثالثة، فصيحة في تسمية ما يحصل في هذا الجانب بالربيع العربي، الذي بغض النظر عن تسميته يعني أنه جانب في حال تغير جذري، وعن المستقبل هذا يقول الشاعر الفرنسي بول فاليري "الناس يدخلون المستقبل متقهقرين".