Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الأصولية الإسلامية والغرب

حيرة تستولي على الكثير في المجتمعات الغربية لفهّم السبب الجوهري الذي يدفع بهؤلاء الأصوليين لقتل أنفسهم من أجل قتل الغربيين


أفراد من الشرطة البلغارية أمام أحد مساجد صوفيا. (أ.ب)

(الحلقة الأولى)

كانت الأصولية الإسلامية في العالم الغربي شبه معدومة الوجود والتأثير، نظراً إلى الغطاء العام الذي يشكله جماعة الإخوان المسلمين منذ خمسينيات القرن الماضي. ولكن بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001، وما واجهته بعض العواصم والمُدن الغربية بسلسلة من الهجمات والتفجيرات، في نيويورك وواشنطن ومدريد ولندن وغيرها. ومن بين الأسئلة التي طُرحت وقتها: كيف وصلت هذه المواجهة إلى داخل العالم الغربي؟ مَنْ أَذِنَ لتنظيم القاعدة بالتصرف باسم الإسلام؟ لماذا يتخذ الأصوليون الإسلاميون هذا المنظور الضيق لمفهوم الجهاد الذي يقتصر على القتال فقط؟ هل هو مجرد إحباط سببته السياسية الغربية في العالم الإسلامي؟ كيف يمكننا وضع حد لهذا الصراع؟ وفوق هذا وذاك، "مَنْ يقع عليه اللوم؟"، كما تساءلت "مجلة الاقتصادي" الأميركية في الأيام الأولى من الهجوم المشؤوم.

كانت وما زالت الحيرة والاستغراب تستولي على الكثير في المجتمعات الغربية لفهّم السبب الجوهري الذي يدفع بهؤلاء الأصوليين لقتل أنفسهم من أجل قتل الغربيين. وما بين البحث عن الأجوبة، والعوامل التي أدت بالمتشددين الإسلاميين لشن هجماتهم، علينا أولاً أن نستعرض جذور الفكر الإسلامي الأصولي.

وفقا للأصولية الإسلامية، هناك ثلاثة أصول أساسية وأربعة قواعد مهمة يجب أن يكون المسلمون على دراية بها. بالنسبة إلى الأصول الأساسية الثلاثة فهي شائعة لدى معظم المسلمين، بيد أن القواعد الأربع خاصة بمنهج الإسلاميين الأصوليين فقط، حيث تبدو بكل وضوح مغايرة عن المفهوم السائد بين المسلمين.

إن الأصول الثلاثة هي كما يلي:

الأصل الأول: معرفة الرب. الله هو الذي خلق كل شيء موجود في الكون. يجب على المسلمين أن يعبدوه، أما غير المسلمين فليس لهم من إلهٍ غير الله. كما في آياته تعالى "ومِن آياتهِ الليلُ والنهارُ والشمسُ والقمرُ لا تسجُدُوا للشمسِ ولا القمرِ واسجُدُوا لله الذي خلقُهن إن كُنُتم إياهُ تعبُدُون". (41:37). وكذلك "يا أيُها الناسُ اعبُدُوا ربَّكُمُ الذي خَلقكُم والذين من قَبلِكُم لعلكُم تتَّقُون". (21:1).

الأصل الثاني: معرفة الدين. فالإسلام هو التسليم إلى الله في وحدانيته، امتثالا وطاعةً إلى أوامره، وترك الشّرك وأتباعه. يقول تعالى "وَمَنْ أحسنُ ديناً مَمَّن أسلمَ وَجَههُ للهِ وهُو مُحسِنٌ". (4: 125). وفي آية أخرى "وَمَن يَبتغِ غَيرَ الإسلامِ ديناً فَلَن يُقبَلَ مِنهُ وَهُوَ في الآخرةِ مِنَ الخَاسِرينَ". (3: 85). أما أركان الإسلام الخمسة فهي: الشهادة والصلاة والصوم والزكاة والحج مع الاستطاعة.

الأصل الثالث: معرفة النبي. وهو محمد (570-632 م)، ابن عبد الله (توفي 570)، ابن عبد المطلب (497-578)، من قبيلة قريش العربية. والعرب هم من أصل إسماعيل، الابن الأكبر لإبراهيم (1996-1821 ق.م)، الذي هو وابنه إسماعيل بنى الكعبة في مكة، قِبلة العبادة التوحيدية. وإن طاعة النبي واجبة بأمر إلهي "وَمَا آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهاكُم عَنهُ فأنتَهُوا". (15: 7). وأيضا "لَقَد كانَ لكُم في رَسُول اللهِ أُسَوةٌ حَسَنةٌ". (33: 21).

أما القواعد الأربعة المهمة لدى الإصوليين، فهي:

1- الإقرار بوجود موحديّن من غير المسلمين.

2- الإقرار بأن هناك مُشركين مسلمين وغير مسلمين.

3- يجب محاربة المشركين جميعاً دون تمييز بين مجموعة وأخرى.

4- المشركون اليوم هم أسوأ من تلك التي واجهها الإسلام في الأيام الأولى.

ولشرح القواعد الآنفة الذكر، فإن القاعدة الأولى تخص أهل الكتاب من اليهود والمسيحيين الذين حرّفوا كُتبهم. حيث حرّف اليهود التوراة، قال الله تعالى "مِنَ الذين هَادُوا يُحَرفُون الكلمَ عن مَّواضعهِ". (4: 46). وكذلك المسيحيون في تحريف الإنجيل، قال تعالى "وإن منُهم لفريقًا يلوُنَ ألسنتُهم بالكتاب لتَحسبُوهُ من الكتابِ ومَا هُوَ من الكتابِ ويَقُولُونَ من عندِ اللهِ ومَا هُوَ من عندِ اللهِ ويَقُولُونَ على اللهِ الكذبَ وهُم يعلمُونَ". (3: 78). وبذلك فإن التوراة والإنجيل ليستا كما هما في عهد موسى وعيسى عليهما السلام.

أما القاعدة الثانية تنص على أن المشركين لا يعرفون التوحيد. ومفهوم التوحيد هو إفراد الله بالربوبية والألوهية وكمال الأسماء والصفات. وأن الشرك ضد التوحيد، لذلك يعتبر الشرك من أكبر الذنوب وأعظمها. حتى أن النبي محمد- صلى الله عليه وسلم- قاتل مُشّركي العرب مع إقرارهم بربوبية الله، لأن الإقرار دون الإيمان ليس كافياً. فالإيمان هو التصديق الجازم بما جاء به النبي محمد دنيوياً وآخروياً.

والقاعدة الثالثة تتجلى في عهد النبي محمد- صلى الله عليه وسلم، حيث كان الناسُ منقسمين في دينهم، بعضهم يعبدون الأنبياء والرُسُل والقديسين، وبعضهم الآخر يعبدون الشجر والحجر والشمس والقمر، فحاربهم النبي محمد جميعاً، دون التمييز بين جماعة وأخرى. وهذا تطبيق لقوله تعالى "وقاتِلُوهُم حتَّى لا تكُونَ فِتنةٌ ويكُونَ الدينُ كُلُهُ لله". (9: 39).

بالنسبة إلى القاعدة الرابعة تتعلق بوقتنا الحاضر، فالمشركون اليوم هم أسوأ من أولئك في زمن النبي محمد- صلى الله عليه وسلم- لأنهم يعلمون بوجود الرسالة السماوية الحقة ولا يلتزمون بها؛ فالدول التي يسمونها دولاً متقدمة ومتحضرة فإنها تعاني أنواعاً من الاضطراب والهموم والشقاء والتفكك، وكل ذلك ناتج بسبب الإعراض عن رسالة الإسلام. يقول تعالى "قُل أفرأيتُم مَّا تدعُونَ من دُونِ الله إن أرادني اللهُ بضُرٍ هل هُنّ كاشفاتُ ضُرهِ أو أرادني برحمةٍ هُنَّ مُمسكاتُ رحمتهِ قل حسبي اللهُ". (39: 38).

الاختلافات في التفسير

على مدى تاريخ الإسلام تجد أن الحركات الدينية السياسية أو المدارس الفكرية تستخدم النصوص القرآنية لدعم أفكارها ومواقفها. وهكذا الحال مع الإسلاميين الأصوليين، وبغض النظر إن كانوا على صواب أو خطأ في فهم كلمة "قتال" على النحو الوارد في الآية الكريمة "واقتلوهم حيث ثقفتموهم". (2: 191). فإن المشكلة الرئيسة هي في زج القرآن واستخدامه وفق ما تفهمه كل مجموعة من المجاميع الإسلامية لتبرير مفاهيمها وأفعالها. على سبيل المثال، كان أبو العلاء أو أبو الأعلى المودودي (1903-1970) يميل إلى أخذ نصوص القرآن ظاهرياً وتطبيقها حرفياً. والمودودي مؤسس "الجماعة الإسلامية" في لاهور عام 1941، وفي كلمته أمام مؤتمر "الجماعة الإسلامية" في 30 ديسمبر (كانون الأول) 1948، أشار إلى أن "القرآن لا ينص على مبادئ أخلاقية فقط، بل توجيه في الجوانب السياسية والاجتماعية والاقتصادية أيضاً. فالقرآن وضع القصاص لجرائم معينة وقواعد في النظام النقدي والسياسة المالية، وهذه لا يمكن تطبيقها إلا إذا كانت هناك دولة تفرضها؛ ومن هنا تبرز ضرورة قيام دولة الإسلام". وانطلاقاً من هذا المبدأ، دعا المودودي إلى الجهاد العالمي من أجل تشيد دولة الإسلام، وفسر النص القرآني وفقاً لظاهره فحسب.

بعبارة أخرى، إن "الجماعة الإسلامية" التي يرأسها المودودي، لها غاية عالمية في إزاحة جميع أنظمة الحياة التقليدية التي ابتعدت كثيراً في نهجها عن عبودية الله. وهذه الجماعة لها مميزات خاصة، سواء بالصدق الخالص في نهجها الدعوي، أو بتحمل جميع الأخطار الجسدية من سجن وتعذيب واتهامات وتشريد وحرمان وحتى القتل والإعدام. وكذلك تضحي بالغالي والنفيس وتبذل الأرواح رخيصةً. فالمجتمع الإسلامي، كما يعتقد المودودي، لا يتحقق بالمعنى الصحيح والواجب له إلا إذا قامت حركة جماهيرية على أساس المفاهيم والأحكام القرآنية والسيرة النبوية، ويكون جهادها بطريقة عنيفة ومتواصلة بغية تغيير أُسس الجاهلية الفكرية والثقافية والنفسية السائدة في الحياة الاجتماعية.

وهذا الموقف المتشدد أدى إلى تعارض ما بين "الجماعة الإسلامية" التي تريد أن تكون باكستان دولة إسلامية وفق التصور الذي طرحه المودودي، وبين "حزب الرابطة الإسلامية" الذي يريد لباكستان أن تكون دولة للمسلمين. كما رفض المودودي الفكرة الشائعة في تقسيم الجهاد إلى نوعين: الأول قتالي هجومي، والثاني سلمي دفاعي. فالجهاد الإسلامي برأيه يجمع بين الاثنين في آن واحد. فالجماعة أو الحزب الديني السياسي هو هجومي يروم تحطيم الأنظمة القائمة على المبادئ المناقضة للإسلام، وهو دفاعي لأنه مضطر لتأسيس بنيان دولة الإسلام بالعمل على تجذير دعائمها. كما وأن فكرته في "تكفير الدولة" أدت به إلى السجن، ثم الحُكم عليه بالإعدام؛ ونتيجة لضغط بعض الدول العربية الخليجية تم إلغاء الإعدام في العام 1955. وكان تأثير المودودوي واضحاً وجلياً على جماعة الإخوان المسلمين، خصوصاً على فكر سيد قطب (1906-1966)، وكذلك على أفكار بعض الجماعات الجهادية الأخرى، سيما المتفرعة من الأصل الإخواني.      

في كتاب "أوهام النصر" اعتقد محمد حسنين هيكل (1923-2018) أن المسلمين الآسيويين يفسرون القرآن حرفياً، "بينما كان العرب أكثر ميلاً إلى تأويله". وحسب تصوري، المشكلة ليست في فهم اللغة سواء بالنسبة إلى المودودي أو غيره، بل مع الأفكار المكمونة لِما وراء التأويل؛ وإلا ماذا نقول عن الإمام ابن حزم (994-1062 م) زعيم المدرسة الظاهرية التي فسرت القرآن حرفياً؟ إذ أنهم يرون أن النص القرآني في: "يد الله" و"عرش الله"، تعني حرفياً أن الله له جسد ومكان للجلوس. وفي أمثلة أخرى، فإن المعتزلة والأشعرية يأوّلون بعض النصوص القرآنية مجازياً، في حين يأخذها الحنابلة حرفياً. ومعظم الفلاسفة المسلمين، خصوصاً القاضي والفيلسوف ابن رشد (1126-1198)، قد اتبعوا مبدأ التوفيق بين الدين والفلسفة من خلال النصوص الدينية، سواء حرفياً أو تأويلاً.   

ولقد قسّم ابن رشد الشريعة إلى نوعين: ظاهر يخص الجمهور، ومؤوَّل يخص العلماء. بالنسبة إلى الجمهور فيجب عليهم حمل النص على ظاهره وترك تأويله. وأما العلماء فيجب عليهم تأويله إذا كانت تنطبق عليه شروط التأويل، ولكن لا يُحل لهم أن يُفصحوا للجمهور بتأويله، كما قال علي رضي الله عنه "حدّثوا الناس بما يفهمون، أتريدون أن يكذَّب الله ورسوله؟" وقد كان المسلمون الأولون يفرقون حقيقةً بين الظاهر والباطن في الشرع، ويقررون أنه لا يجوز أن يصرَّح بالتأويل إلا لمن هو أهل له.

وحسب رأي ابن رشد، فإن التباين بين هذين النوعين في الشريعة يعود إلى اختلاف الناس في الفِطَر والعقول وتباين قرائحهم في التصديق. وبذلك يجب أن نحافظ على أن يكون كل نوع من هذين الضربين محصوراً في طائفته الخاصة وعلى ألا يختلط أحدهما بالآخر، لأن جعل الناس شرعاً واحداً في التعليم خلاف المحسوس والمعقول. إذ أن خوض الجمهور في دقائق الشرع لا يستطيع فهمها مما يثير الشكوك والشبهات ويؤدي إلى الكفر.

وهكذا، ما بين التأويل والتفسير، الخفي أو الحرفي، توجد هناك العديد من الحقائق المتعلقة بالقرآن. عندما أرسل الخليفة علي بن أبي طالب (600-661) ابن عمه عبد الله بن العباس (619-687) لمناظرة الخوارج، قال له "لا تجادلهم بالقرآن فإنه حمّال أوجه وخذهم بالسّنة". وفي رواية أخرى "القرآن حمّال ذو وجوه يقول ويقولون ولكن حاججهم بالسنن فإنهم لن يجدوا عنها محيصاً". وهذه هي النقطة الرئيسة أيضاً في هدف الإسلاميين الأصوليين لإحياء فترة النبي محمد وخلفائه، باعتبارها أنقى حقبة في تاريخ الإسلام على الإطلاق. إلى جانب ذلك، كانت تلك الفترة هي الوحيدة التي أنشأت فيها السلطة الإسلامية بالتشاور.

المزيد من آراء