Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

 الموزامبيقي ميا كوتو يسترجع رمز السندباد الأفريقي

"ارض تسير نائمة" رواية عن الحروب الأهلية والتواطؤ بين الاستعمار والسلطات الحاكمة

الروائي ميا كوتو (اندبندنت عربية)

 من حوار بين الابن وأبيه يركّز على أهميّة الأحلام للتحرّر من الوقائع القاسية، نطلُّ على رواية "أرض تسير نائمة" للروائي الموزمبيقي باللغة البرتغالية ميا كوتو، الصادرة حديثاً في ترجمة متقنة إلى العربية، أنجزها مارك جمال، بحيث تبدو معها الرواية عربية وليست معرّبة (دار الآداب). والرواية عنواناً ومتناً تحملنا إلى فضاءاتٍ فوق واقعية، تفسح للشعري والغرائبي حيّزاً واسعاً فيها، وتتّخذ من اللاواقعي إطاراً للتعبير عن الواقعي، فيأتي الإطار للتخفيف من قساوة المحتوى.

لعلّ أوّل ما يستوقفنا، في هذا السياق، شعرية العنوان الناجمة عن إسناد فعل السير المعبَّر عنه بكلمة "تسير" إلى الأرض، ويضاعف من هذه الشعرية تبيين حالة السير بكلمة "نائمة"، ما يحوّل الجامد إلى حي، وينسب إليه ما هو من متعلّقات الأحياء. الأمر نفسه سنقع عليه في متن الرواية حين ينسب الكاتب إلى البشر قدرات خارقة، وحين ينسب إلى الطبيعة أفعالاً غريبة عجيبة.

 يتناول كوتو في روايته الحروب الأهلية وما تتمخّض عنه من نتائج وخيمة على البشر والحجر، والتواطؤ بين الاستعمار والسلطات الحاكمة وما يرتّبه من مضاعفات خطيرة على الشعوب المستعمَرة، والآليات المستخدَمة في مواجهة النتائج والمضاعفات، والمآلات التي تؤول إليها. وهو يفعل ذلك، من خلال سلكين روائيين اثنين، يُشكّل الأوّل منهما إطاراً للثاني. يتناوبان على روي الأحداث، يفترقان في البداية، يتعاقبان ويتقاطعان في الفصول المختلفة، ويتّحدان في النهاية. ولكلٍّ من السلكين مساره ومصيره المستقلان عن الآخر، ولكلٍّ منهما شخوصه وأحداثه وفضاؤه الروائي الخاص به،.

العجوز والصبي

يبدأ السلك الأوّل برصد عجوز وصبي هاربين من الحرب بحثاً عن مكانٍ آمن، يفيئان إلى حافلة محترقة على الطريق يتخذانها مكاناً لإقامة مؤقّتة بعد تنظيفها من الجثث المتفحّمة. وينتهي بوضع الصبيِّ العجوزَ على متن قارب ودفعه للتحرّر من حضن الأرض، والإبحار في بحر زاخرٍ بالحكايات. وبين البداية والنهاية سلسلة من الوقائع، الواقعية والواقعية السحرية، التي تعكس حركة بطلي السلك في المكان والزمان. فالعجوز تواهير الذي ينقذ الصبي، ذات يوم، من الموت، يمارس نوعاً من الأبوّة عليه رغم أنّه لا تربطه به أيُّ صلة قرابة، والصبي مويدينغا الذي لا يتذكّر شيئاً عن ماضيه وأسرته، يمارس نوعاً من البنوّة إزاءه. ويجد كلٌّ منهما في الآخر تعويضاً عن شيء ينقصه. يتكاملان، ويتفاعلان في إطار خوضهما صراع البقاء. ويلجآن إلى حركة مزدوجة، مكانية وزمانية، للبقاء على قيد الحياة. 

في المكان، يتحرّكان يومياًّ بين الحافلة والأدغال المحيطة بها اكتشافاً للمحيط، وبحثاً عن الطعام والشراب. ويصطدمان بثلاث وقائع غريبة، على الأقل: الأولى تتمثّل في سقوطهما، ذات جولة، في فخّ حفرة كبيرة حفرها سيكيليتو، الشيخ العملاق الأعور، الذي يصطادهما كما الأسماك، ويجرّهما إلى بيته، ويقرّر غرسهما في الأرض، حتى إذا ما اكتشف أنّ الصبي يعرف الكتابة، يقتادهما إلى ما وراء البعيد، ويطلب إليه حفر اسمه على جذع شجرة ضخمة، وعندها يوقن أنّ القرية ستستمر، فيطلق سراحهما، ويذوي حتى يصير في حجم البذرة، ويختفي. والواقعة الثانية تتمثّل في مشاهدتهما نياماتاكا، الرجل المجهول، يحفر حفرة هائلة ليصنع منها نهراً. والثالثة تتمثّل في قيام مجموعة من العجائز بضرب مويدينغا واغتصابه لانتهاكه طقوسهن في طرد الجراد. وهكذا، تنطوي الحركة في المكان على مغامرات سندبادية يعيشها بطلا السلك.

في الزمان، يُشكّل عثورهما على مجموعة من الدفاتر على مقربة من الحافلة المحترقة فرصة لهما للتحرّك زمنياًّ، من خلال القراءة. فيوزّعان الوقت بين التحرّك في المكان نهاراً،  والسفر في الزمان ليلاً، من خلال قراءة دفاتر كيندزو الأحد عشر، التي تمثّل السلك الثاني في الرواية. وإذا كان التحرّك في المكان يؤدي إلى اكتشاف الحاضر بوقائعه الغريبة، فإنّ السفر في الدفاتر يؤدّي إلى اكتشاف الماضي بوقائعه الأكثر غرابة. على أنّ السلكين اللذين يبدآن من نقطتين مختلفتين يتقاطعان في نقاط عدة، ويتّحدان في نهاية الرواية.  يحصل التقاطع بينهما، بشكل مباشر، من خلال: تماهي مودينغا القارئ بكيندزو كاتب الدفاتر. مقارنة نفسه بجونييتو الصبي الذي تحوّل إلى ديك، مرّةً، وبفريدا، مرّةً أخرى. قيام العجوز تواهير والصبي مويدينغا بتمثيل فصلٍ من العلاقة بين كيندزو وأبيه تايمو العجوز. ويحصل، بشكل غير مباشر، من خلال: مفردات الحرب، والجوع، والضحايا، والرحيل، والمغامرة، والغرابة في فضاء كلٍّ من السلكين.

حكايات واحلام

 يبدأ السلك الثاني في الرواية بكلام كيندزو عن نشأته في أسرة فقيرة لأبٍ مدمنٍ على شراب السورا ومُولَعٍ بالحكايات والأحلام، وأمٍّ غريبة الأطوار تغرق في الماضي وتتوجّس من الحاضر وتخشى المستقبل، وإخوةٍ يموتون تباعاً، ويتحوّل أحدهم إلى ديك كي يبقى بمنأى عن عيون القتلة، ويختفي لاحقًا ولا يُعثَر له على اثر. وينتهي بعثور كيندزو على ما كان يبحث عنه، ولو في الحلم. وبين البداية والنهاية سلسلة من الوقائع التي تحدث في اليقظة أو في الكوابيس والأحلام، ويتّسم قسم كبير منها بالغرابة ما يجعل الواقعية السحرية تطغى على الفضاء الروائي، في هذا السلك، فيتحوّل البطل إلى سندباد برّي– بحري، وتصبح الأحداث التي يخوضها مجموعة من المغامرات السندبادية.

 في ضوء الوقائع الناجمة عن الحرب ومتفرّعاتها، يترجّح كيندزو بين هدفين اثنين؛ الأوّل هو  الانضمام إلى مقاتلي الناباراما  لرفع الظلم عن قومه، والثاني هو البحث عن مكان صغير يجد فيه السكينة. وغنيٌّ عن التعبير أنّهما هدفان متناقضان. وعلى الرّغم من أنّ أباه المتوفّى والعرّاف وشيوخ البلدة الأحياء يشيرون عليه بتجنّب الأوّل والسعي إلى الثاني، فإنّه لا يعمل بإشارتهم، وينطلق في رحلة البحث عن الناباراما بحراً وبراًّ، خائضاً المغامرات، معرّضاً نفسه للمخاطر، مصادفاً الكثير من الخوارق التي تجري في إطارٍ حُلًمي، كابوسي؛ تطارده روح أبيه خلال الإبحار، يتحوّل الريش إلى نوارس، تغدو مِزَق الأشرعة أسْماكاً، تخرج الأيدي من رمال تانديسّيكو للقبض عليه، يقوم الغرقى من البحر، وبينهم والده الذي ينخرط في حوار معه. وتقوده الرحلة إلى سفينة إغاثة محطّمة على خليج ماتيماتي، ليجد على متنها فريدا الجميلة التي تخبره حكايتها، وتطلب مساعدته للعثور على ابنها المفقود غاسبار، فيعدها بذلك لا سيّما أنّهما يتشابهان في التشتّت بين عالمين، وفي التباس الهوية، وفي التعلّق بين ماضٍ مضى ولم يمضِ ومستقبلٍ منتَظَر لا يجيء، وأنّه يطارحها الغرام ويقع في حبّها. وهنا، تتغيّر أولويّة أهدافه، ويتقدّم البحث عن الولد المفقود على  الانضمام إلى الناباراما.

خلال البحث،  يكون عليه أن يذهب إلى بلدة ماتيماتي، حيث يتعرّف إلى سورينديرا التاجر الهندي الذي يعاني الاستغلال والتمييز العنصري، وأسّانيه سكرتير المحافظ المختلس، وأنطونينو مساعده،  وكينتينو المرشد المخمور، وإستيفاو جوناس المحافظ الفاسد،  وكاروليندا زوجة المحافظ وتوأم فريدا المفقود، ودونا فيرجينيا بينتو زوجة البرتغالي الراحل التي عثرت على غاسبار طفلاً صغيراً في باحة منزلها، وآوته لبعض الوقت.  ويكون عليه، في إطار بحثه، أن يذهب عبر الأدغال إلى مخيّم النازحين، بمساعدة كينتينو، فيلتقي بأوزينيا خالة فريدا، ويعاين الجوع والهزال والتشرّد والبؤس بأمّ العين. ويعود من البحث إلى مايتماتي بوفاضٍ خاو.

ليُفاجأ بموت فريدا خلال إضاءتها فنار الجزيرة، حتى إذا ما قرّر العودة إلى قريته، واستغرق في حلمٍ أخير، يرى نفسه وقد تحوّل إلى ناباراما، ويعود أخوه جونييتو إلى بشريّته، ويكتشف أنّ غاسبار هو نفسه مويدينغا بطل السلك الأول. وبذلك، يتّحد السلكان في نهاية المطاف، وتتحقّق بالحلم الأهداف التي لم تتحقّق بالواقع. ويقوم الكاتب من خلال هذه الوقائع بتعرية التمييز العنصري، والتواطؤ بين المستعمِر وأدواته المحلّية، والفساد، وسوء استخدام السلطة، والمآسي التي تنجم عن الحروب، على أنواعها. وإذ يفشل الاستعماري روماو بينتو، والمحافظ إستيفاو، وأسّانيه، وأنطونينو، وعناصر الميليشيا في قطع رأس الديك / الإنسان جونييتو حين ينبري لهم كيندزو بهيئة الناباراما، في نهاية الرواية، يأتي هذا الفشل ليشي بانتصار الخير على الشر، وبحتمية أن تضع الحروب أوزارها، فتصدّر الرواية عن نظرة إيجابية إلى المستقبل.

"أرضٌ تسير نائمة" نوع من "ألف ليلة وليلة" أفريقية مصغّرة. ومويدينغا وكيندزو نوعان من سندبادين برّيّين – بحريّين، والأحداث الروائية هي مغامراتهما التي تحمل القارئ إلى مواطن الدهشة والغرابة. 

         

المزيد من ثقافة