يمتلئ التاريخ بحكايات المثقفين والمبدعين الذي سعوا ليكونوا مقربين من أصحاب السلطة، بحيث لا يمكن بالتالي حصرهم في مقال أو حتى في كتاب، بيد أن الحالتين الأشهر تبقيان حالتا أفلاطون وابن خلدون اللتين تتشاركان في كونهما فاشلتين، وهو أمر كتبت عنه مئات النصوص والدراسات التي غاص معظمها في تحليل أسباب الفشل. أما من الناحية المقابلة، فربما تكون لدينا حالة نجاح لافتة هي حالة المفكر والكاتب الفرنسي أندريه مالرو الذي ارتبط بالجنرال ديغول مضحياً في النهاية، حتى بمكانته في الأوساط الثقافية، وخدمته وزيراً للثقافة طوال سنوات عديدة. ولقد انتهت حياة مالرو السياسية مع رحيل ديغول مما جعله يضع عنه واحداً من كتبه الأخيرة وهو "السنديانات التي تُقتلع" الذي صدر بعد شهور قليلة من رحيل الزعيم الفرنسي قبل خمسين عاماً من الآن، وسنوات قليلة قبل رحيل مالرو نفسه.
ليس الكتاب الذي تعتقدون
والحقيقة أن هذا الكتاب، وعلى عكس ما يمكن أن نتوقع، ليس كتاب تأبين للجنرال، بل هو عبارة عن حوارات طويلة جرت بين الكاتب والجنرال، تغوص في السياسة والفكر والإبداع لكنها تكاد تكون مونولوغاً بصوتين، على اعتبار أن مالرو يبدو في الكتاب وكأنه ينهل من الذاكرة لا من أي مراجع أخرى، نوع من "دردشة" بين فكرين وعقلين ونظرتين إلى الثقافة والمجتمع. ولعل الجانب الأهم في الكتاب هو أن المثقف يبدو فيه أكثر اهتماماً بسبر أعماق السياسي في لعبة تكاد تكون سيكولوجية، أكثر مما يبدو تواقاً إلى عرض أفكار زعيمه وتصحيح بعض الرائج منها. باختصار يعيد مالرو في نصوص هذا الكتاب، الاعتبار لفكر صديقه وقائده، وربما في نوع من تبرير لاحق لوقوفه الدائم إلى جانبه وقوفاً كلفه الكثير. ومن هنا ما قاله بعض النقاد عن الكتاب بأنه تبرير لمواقف مالرو بقدر ما هو سبر لأفكار ديغول.
مهما يكن من أمر، لا بد أن نذكر هنا بأن مالرو نفسه عرف حيوات عدة، كما سوف نرى بعد سطور. فلئن كانت الأخيرة بين تلك الحيوات قد ارتبطت بالجنرال ديغول وسياساته وجرت على الكاتب عداوات كانت تريد النيل من الجنرال، فإن أولاها، والتي صنعت أصلاً مكانة مالرو الأساسية، كانت تقف في صف أولئك الذين ناوؤوه في نهاية حياته.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
النضال السياسي لبدء حياة
ولد مالرو بباريس في عام 1901... وبدأ دراساته العليا باتباع صفوف اللغات الشرقية، في المدرسة المخصصة لذلك، إذ من الواضح أنه كان مغرماً، منذ صباه بالشرق الأقصى جمالياً واتخذ باكراً قراره بأن يسافر إلى أقصى شرق آسيا، ليعيش هناك دارساً الحضارات الآسيوية وآثارها، أما أولى كتاباته فقد ظهرت وهو بالكاد تجاوز العشرين من عمره على شكل نصين لم يخليا من طرافة وغرابة أولهما، "كتب من أجل وقت خادع"، والثاني، "أقمار من ورق"، صحيح أن النصين جميلان، ولكن من الصعب القول إنهما كانا يتنبآن حقاً بما سوف يكون عليه أدب أندريه مالرو لاحقاً.
المهم أن مالرو، بعد تخرجه في مدرسة اللغات الشرقية، وبعد أن حقق شهرة أولى بذينك النصين، سافر في عام 1923 إلى الشرق الأقصى، حيث سيعيش بصورة متواصلة حتى عام 1927. وهناك سوف يشارك أول الأمر في بعض البعثات الجيولوجية، لكنه بعد ذلك سنجده مشاركاً، وبشكل فعال، في الثورة الشيوعية تحت زعامة صن بات صن، قبل مجيء ماوتسي تونغ. ولسوف يكتب مالرو، في الأعوام 1928 و1930 و1933 على التوالي، ثلاث روايات تعتبر شهادة حية وأدبية فائقة القوة، على تلك المرحلة من حياته، وبشكل أكثر تحديداً، على الثورة الصينية نفسها: "الغزاة" التي يرسم فيها صورة مدهشة لعدة أنماط من الثوريين، ثم "الدرب الملكية" التي تصور وبشكل غريب، استحواذ فكرة الموت على الإنسان وسط أحداث تقع في قلب غابات کمبوديا، وأخيراً - وخاصة – "الشرط الإنساني"، الذي يعتبر عادةً من بين أروع ما كتبه مالرو، هو الذي جمع في هذا الكاتب وقد أضحى في أعلى درجات نضجه، جملة مواضيع آلف بينها، ولكن دائماً عن أجواء الصين، ليركز أخيراً على بضعة أفكار يهجس بها: مثل الثورة والأخوة والموت والخيانة...
دفاعاً عن التقدميين الإسبان
بشكل عام كان النصف الأول من ثلاثينيات القرن العشرين - في حياة أندريه مالرو- حقبة النضال إلى جانب الشيوعيين، ضد الفاشية والنازية الهتلرية. حيث كانت هناك بالنسبة إليه أولويات، والنضال الثوري في إسبانيا كان أولوية حقيقية. ومن هنا ما إن اندلعت الحرب الأهلية الإسبانية، حتى رأيناه يحذو حذو عدد من كبار الكتاب والمبدعين (مثل همنغواي وجورج أورويل وجون دوس باسوس...) منخرطاً في القتال فعلاً.. إذ ها هو وقد تطوع في عام 1936 طياراً حربياً في القوات الجمهورية.. وهو سيطلع من تلك التجربة، الأساسية في حياته، بكتابه "الأمل"، الذي سيحقق هو نفسه انطلاقاً منه فيلمه الوحيد كمخرج سينمائي.. لكنه أتی فيلماً كبيراً يعد من علامات الفن السابع. ولقد وصفت الرواية (والفيلم بالتالي) بأنهما أفضل صورة "شاعرية رسمت لإسبانيا الممزقة في ذلك الحين، إضافة إلى أنهما أتيا تحليلاً سابقاً له لما كان يسمى "التكتيك الثوري" - الذي كانت كل الأخطاء والخطايا تبرر انطلاقاً منه.. ولقد أتت الرواية، ثم الفيلم في نهاية الأمر نشيداً للحب والأخوة.
نهاية زمن الروايات
ولكن سرعان ما أتت كتبه التالية عن الفن وقضايا الأدب والفكر وعلم النفس والاجتماع، لتظهر وكأن مالرو، الذي بدأ مصيره السياسي يتبدل ويتحول منذ وضعت الحرب أوزارها، وصار صديقه شارل ديغول في معترك السياسة السياسية، مهيئاً بعد أن حرر فرنسا عسكرياً، إلى تحريرها سياسياً وإدارياً، أدرك أن زمنه لم يعد زمناً روائياً بل زمناً دراسياً، بيد أن دراساته لم تقل أبداً قوة وجمالاً وعمقاً عن رواياته، ناهيك عن أن روایات مالرو نفسها، وحسب العديد من الباحثين والنقاد لاحقاً، يمكن أن تُقرأ أيضاً على شكل مواقف تحليلية. بل هي أشبه بالدمى الروسية التي تحمل جوهراً داخل جوهر.. إلى ما لا نهاية.
بین 1951 و1974، وبعد أن كان أندريه مالرو، أصدر في عام 1941 دراسة شديدة الأهمية هي عبارة عن "مخطط لدراسة سيكولوجيا السينما"، أصدر تباعاً الدراسات الفكرية - الجمالية التالية: "أصوات الصمت" (1951)، "المتحف المتخيل للنحت في العالم" (1952 - 1954)، "آمساخ الآلهة" (1957).. ثم سلسلة من الدراسات المتتابعة حول "المثلث الأسود: لاكلو، غويا، وسان جوست" (1970)، قبل أن يصدر الجزء الثاني من ذكرياته بعنوان "مذكرات مضادة" (1974)، وكان أصدر الجزء الأول من هذه المذكرات في العام السابق.
وفي معترك السياسة
لقد اختار شارل ديغول، بعد عودته إلى الحكم في عام 1950، صديقه وكاتبه المفضل أندريه مالرو، وزیراً مكلفاً بشؤون الثقافة، ليبقيه في ذلك المنصب طوال فترة حكمه، حيث إن مالرو لم يترك الوزارة إلا بعد ما يقارب العقدين، في عام 1969. أي في العام الذي تنحى فيه ديغول عن الحكم إثر أحداث 1968 الصاخبة والتي تحمل مالرو في خضمها جزءاً من الحرب التي كانت تخاض ضد شارل ديغول. وسوف يقال لاحقاً إن ديغول (ومعه مالرو) إنما دفعا في تلك المواجهة أثماناً عدة، منها ثمن مساهمة ديغول في استقلال الجزائر، وثمن وقوفه ضد الحلف الأطلسي الذي تتزعمه الولايات المتحدة وتريده سلاحاً في يدها في حرب باردة تخوضها ضد المعسكر الاشتراكي، ثم ثمن انتقاده اللاذع لعدوانية إسرائيل أواسط الستينيات. ومن البديهي القول إن مالرو كان يشارك ديغول تخطيطه في كل تلك المواقف. ويمكن لمن يقرأ كتب مالرو كلها، أن يفهم ذلك بالطبع.
وفي هذا الإطار كان مالرو يرى أنه انطلاقاً من ارتباط الفن والإبداع عموماً، بذلك الشرط الإنساني، تصبح الوسيلة الفنية غير محصورة في نوع معين. ومن هنا نراه يدعو إلى وحدة الفنون، باعتبارها جميعاً "وسيلة" الإنسان للتغلب على مصيره وعلى شرط وجوده. إن مالرو، وقبل هربرت مارکوز بزمن، كان يرى أن الحرية شرط وجود الإنسان، وإن الفن - كل فن - هو الطريق الملكي إلى الحرية لذا، في إطار اهتمامه بوحدة الفنون، وفي إطار عصريته وحداثته، كان من الطبيعي لمالرو أن يهتم بفن السينما باكراً، وقبل سنوات طويلة من تسلمه منصبه الوزاري الثقافي الذي جعل منه طوال عشر سنوات، الراعي الأول للإنتاج السينمائي الفرنسي هذا الإنتاج الذي ازدهر خلال تلك الحقبة (سنوات الستين) تحت رعاية مالرو، أو حتى على الضد منه.