Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل هناك علاقة تبادلية بين الانكفاء الأميركي والتوسع التركي شرق المتوسط؟

ثمة طموح متزايد داخل أنقرة للقفز سريعاً نحو السيادة الإقليمية في ظل التراجع الأميركي ما ينبئ بميلاد دولة "مارقة" جديدة

مدرعات أميركية في شمال شرق سوريا (أ ف ب)

في منتصف أغسطس (آب) الماضي، غرّد جون بولتون، مستشار الأمن القومي الأميركي السابق، قائلاً "إن العدوان التركي على مصادر الغاز والنفط في شرق المتوسط هو نتيجة مباشرة للتراجع العالمي للولايات المتحدة". وأضاف "إن قيادتنا في حماية السيادة اليونانية والقبرصية ستمنع الأعمال العدائية لتركيا من زيادة التوترات". شكلت كلمات بولتون تفسيراً مختصراً للسلوك التركي ليس في شرق المتوسط فحسب، لكن في المنطقة الأوسع حيث الغزو العسكري لشمال شرقي سوريا والاعتداءات المتكررة على المناطق الكردية في العراق وإرسال العناصر الإرهابية إلى ليبيا. 

ويتحدث العديد من المراقبين الأميركيين عن استغلال روسيا للفراغ الذي خلفه الموقف الأميركي الضعيف والمربك في منطقة الشرق الأوسط في ظل إصرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب على الانسحاب بعيداً عن قضايا المنطقة، إذ ساعدت موسكو رئيس النظام السوري بشار الأسد على البقاء في الحكم بعد نحو 9 سنوات من الحرب الأهلية وأصبح أقرب حلفاء واشنطن مثل إسرائيل يتوددون إلى الكرملين باعتباره جهة فاعلة إقليمية، فضلاً عن التواجد الروسي في ليبيا وتعاونها العسكري مع إيران. 

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لكن لا يبدو أن روسيا وحدها التي استغلت التراجع الأميركي، فثمة طموح متزايد داخل أنقرة للقفز سريعاً نحو السيادة الإقليمية في مشهد ينبئ بميلاد دولة "مارقة" جديدة، وهو المصطلح الذي دخل قاموس السياسة الخارجية للولايات المتحدة بعد الحرب الباردة لتحديد الأنظمة التي تستخدم الإرهاب كأداة لسياسة الدولة، ولطالما استخدمه الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن في وصف إيران وكوريا الشمالية. 

الأراضي العربية 

بدأت العلاقة بين التراجع الأميركي والتوسع التركي تتبلور بشكل فعلي على الأرض في 9 أكتوبر (تشرين الأول) 2019 عندما قامت تركيا بغزو شمال سوريا مما أسفر عن نزوح أكثر من 300ألف مدني وسط وضع إنساني صعب ومقتل العشرات، بحسب إحصاءات الأمم المتحدة. وقع التوغل العسكري التركي وقتها بناء على تفاهمات مع الإدارة الأميركية وعقب سحب القوات الأميركية من المنطقة الحدودية بين سوريا وتركيا، مما جرّأ النظام التركي على شن هجمات ضد الأكراد، الذين تعتبرهم أنقرة عدواً لها، وهو ما عده الأكراد خيانة من واشنطن نظراً للدور الذي لعبته قوات وحدات حماية الشعب الكردية في القضاء على عناصر داعش. 

بعد نحو شهر من الغزو العسكري التركي لسوريا وارتكاب جرائم حرب وثقتها منظمة العفو الدولية في تقرير مطول صدر في 18 أكتوبر الماضي، وقّع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان اتفاقيتين مثيرتين للجدل مع فائز السراج رئيس حكومة الوفاق الوطني في ليبيا، إحداهما نصت على تعيين الحدود البحرية بين تركيا وليبيا، وهو اتفاق غير قانوني انطوى على انتهاك مناطق السيادة البحرية لليونان في جزيرة كريت، والثانية تعلّقت بالتعاون الأمني والتي أعقبها نقل مجموعات من المتطرفين الموالين لتركيا من سوريا إلى ليبيا للقتال في صفوف الميليشيات الموالية لحكومة السراج في مواجهة الجيش الوطني الليبي بقيادة اللواء خليفة حفتر. ومع مطلع عام 2020 تزايدت عمليات نقل هذه المجموعات الإرهابية وتسليحها من قبل النظام التركي، بحسب تقرير للبنتاغون صدر في يوليو (تموز) الماضي.

وفي يونيو (حزيران) الماضي، أطلقت أنقرة عملية عسكرية موسعة استهدفت المناطق الكردية شمال العراق، شملت عملية جوية باسم "المخلب- النسر" وتوغلاً عسكرياً على الأرض مما أسفر عن تهجير المدنيين في العديد من القرى الكردية وحرق الأراضي الزراعية، وأثارت العمليات احتجاج العراق الذي اعتبرها خرقاً لسيادته، واستدعى السفير التركي لديه لإبلاغه الاحتجاج. 

عمليات الاحتلال التركي للأراضي العربية، تزامنت معها عمليات استفزازية ضد دول أوروبية في شرق المتوسط حيث واصلت أنقرة التنقيب عن الغاز في المياه الاقتصادية التابعة لقبرص واليونان ضاربة عرض الحائط بالقانون الدولي، وهو ما استدعى تدخل فرنسا بإرسال فرقاطات عسكرية، لكن على مدار الأشهر القليلة الماضية تصاعدت حدة التوترات في المنطقة، لاسيما بين اليونان وتركيا حيث تصر الأخيرة على التنقيب عن الطاقة في مناطق واقعة داخل الجرف القاري لليونان مما ينبئ بوقوع مواجهات عسكرية لا تحمد عقباها. 

وبالعودة قليلاً للوراء، يظهر أن طموح أردوغان يذهب إلى ما هو أكثر من السيطرة على الأراضي العربية. ففي سبتمبر (أيلول) 2019، قال خلال اجتماع لحزبه الحاكم "بعض الدول لديها صواريخ برؤوس نووية. لكن الغرب يصر على أنه لا يمكننا الحصول عليها، لا يمكنني قبول هذا". لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يتحدث فيها أردوغان عن التحرر من القيود المفروضة على الدول التي وقّعت على معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية. 

باكس أميركانا

ويقول جيرارد أرود، السفير الفرنسي السابق لدى الولايات المتحدة، إن تركيا مثل روسيا والصين هي قوى استرجاعية لا تقبل بالوضع الراهن القائم على النظام العالمي الذي حدّده الغرب بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945 والحرب الباردة 1991. وأضاف أن الأنظمة في هذه الدول تجرأت بفعل توازن القوى العالمي الجديد وسياسة الولايات المتحدة. 

ويتفق مراقبون دوليون على أن أنقرة تبحث عن دور في حقبة ما بعد السلام الأميركي "باكس أميركانا" الذي عمل على ضمان الاستقرار الإقليمي لسنوات. لكن مع دخول تركيا الآن في مواجهة مفتوحة مع حلفائها في الناتو، بعدما ربحت رهاناً على أنه بإمكانها التوغل العسكري في سوريا والعراق وإرسال الإرهابيين إلى ليبيا مع الإفلات من العقاب، يأخذ تهديد أردوغان في شرق المتوسط معنى جديداً، يدفع بالتساؤل عن المشهد الآخذ في الغليان في المنطقة لاسيما بالنسبة إلى الأوروبيين وعما إذا كان بإمكان أردوغان بناء سلاح نووي واتّباع النهج الإيراني؟

انقسام أوروبي

كشفت تصرفات أنقرة عن انقسامات داخل الاتحاد الأوروبي، إذ تتفق الدول الأعضاء على أنه يجب على تركيا وقف استكشافها للطاقة والدخول في مفاوضات لتسوية نزاعاتها مع اليونان وقبرص. لكنهم يختلفون حول أفضل السبل لتحقيق ذلك؛ تريد فرنسا واليونان وقبرص اتخاذ موقف متشدد، بينما تفضل ألمانيا وإسبانيا وإيطاليا نهجاً أكثر تصالحية، بحسب وصف لويجي سكاتيري الزميل لدى مركز الإصلاح الأوروبي. 

أصبحت باريس تنظر إلى تركيا على أنها تهديد رئيسي ليس فقط لمصالحها في المنطقة ولكن أيضاً للأمن الأوروبي بشكل عام. ويشير سكاتيري إلى أنه يمكن تفسير ذلك جزئياً من خلال الخلاف بين فرنسا وتركيا في جميع أنحاء المنطقة. فباريس تتمتع بعلاقات وثيقة مع خصمَي أنقرة الإقليميين، مصر والإمارات، وبالتعاون معهما، دعمت فرنسا قائد الجيش الوطني الليبي، على أمل أن يتمكن من تحقيق الاستقرار في البلاد ومحاربة التطرف. كما تعتقد فرنسا أن الطريقة الوحيدة لدفع تركيا إلى اعتدال سياستها هي ردعها، وقد أرسلت قوات عسكرية إلى شرق البحر المتوسط ​​للقيام بذلك. وإلى جانب اليونان وقبرص، دعت فرنسا أيضاً الاتحاد الأوروبي إلى فرض عقوبات اقتصادية على تركيا.

مع ذلك، فإن الدول الأعضاء الأخرى أكثر حذراً. قدمت ألمانيا نفسها كوسيط محايد بين اليونان وتركيا، وجنباً إلى جنب مع روما ومدريد، ترى برلين أن تصرفات تركيا إشكالية، لكنها تفضل نهجاً أكثر ليونة تجاه أنقرة. ويجادل المشككون في النهج الأكثر صرامة بأن العقوبات قد لا تحقق الهدف المنشود المتمثل في دفع تركيا إلى وقف استكشاف الطاقة بالقرب من اليونان وقبرص أو تغيير سياستها في ليبيا حيث ترى أنقرة أن هذه مصالح أساسية. علاوة على ذلك، يمكن لأردوغان أن ينتقم من خلال تشجيع المهاجرين على دخول أوروبا، بما في ذلك من المناطق الواقعة تحت نفوذها في ليبيا. 

القومية التركية 

ويتعلق جانب آخر بالأزمات الداخلية لنظام أردوغان، إذ يجادل المشككون في العقوبات بأن التوازن السياسي في تركيا آخذ في التغير، حيث أصبحت أحزاب المعارضة أقوى بينما تفقد الحكومة الدعم. ومن ثم يخشى البعض أن تأتي العقوبات بنتائج عكسية من خلال دفع الرأي العام التركي باتجاه أكثر قومية ومعادية للغرب.

 وبالفعل يحظى سلوك أردوغان في شرق المتوسط بدعم محلي، إذ أعرب حزب الشعب الجمهوري المعارض الرئيسي في تركيا عن دعمه برنامج التنقيب في البحر المتوسط. ويلفت الخبراء إلى أن تأمين موارد الطاقة المربحة في منطقة تجد فيها تركيا نفسها معزولة بشكل متزايد يحظى أيضاً بدعم اجتماعي شعبي. ويقول إميل حكيم، خبير أمن الشرق الأوسط في المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية: "ربما تحظى مغامرة أردوغان في شرق البحر المتوسط بدعم أكثر من أي مغامرات إقليمية أخرى".

لا مفر من الردع

مع ذلك يلفت سكاتيري إلى أن الدول الأوروبية تتحول ببطء نحو موقف أكثر صرامة تجاه تركيا. فالمزاج السائد في الجدل حول كيفية التعامل مع أنقرة أشبه بمناقشات عام 2014 حول ما إذا كان ينبغي معاقبة روسيا بسبب تدخلها في أوكرانيا، حيث انقسم الأوروبيون وقتها، لكن بعدما أسقطت القوات الموالية لروسيا طائرة تابعة للخطوط الجوية الماليزية، تحولت الموازين بشكل حاسم لصالح العقوبات. ومن ثم فكلما زادت تركيا من حدة التوتر في شرق البحر الأبيض المتوسط، زادت احتمالية أن تدفع الاتحاد الأوروبي إلى تبني نهج أكثر صرامة.

يقول المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية إنه من خلال استخدام المهاجرين كأداة ابتزاز وإطلاق مغامرات خارجية جديدة، يتصرف الرئيس التركي بشكل متزايد مثل نظيره الروسي. وعلى الرغم من أن مثل هذا السلوك يتحدث عن تدهور الوضع السياسي في الداخل، إلا أن الأوروبيين لم يعد بإمكانهم افتراض أن تركيا ستبقى بقوة في الحظيرة الغربية. ويضيف في تقرير بعنوان "بوتين آخر على أعتاب أوروبا"، إنه في مواجهة المعارضة المتزايدة في الداخل، تبنى أردوغان كتاب قواعد اللعبة لبوتين. فمع عدم رغبة الغرب في التدخل عسكرياً في ليبيا (مرة أخرى)، رأى أردوغان فرصة لتركيا للتوسع. ومرة أخرى، ستحدد روسيا وتركيا مستقبل بلد ضروري للمصالح الأوروبية. 

ويشير المجلس الأوروبي إلى أن معظم الأوروبيين يعتبرون تركيا شريكاً معقداً وليس "خصماً منهجياً". لكن يجب على الأوروبيين أن ينتبهوا إلى الدروس المكتسبة في التعامل مع روسيا على مدى السنوات الخمس عشرة الماضية. إذ تحتاج العلاقة بين الاتحاد الأوروبي وتركيا إلى مجموعة مبادئ جديدة متفق عليها بشكل متبادل، فضلاً عن خطوط حمر واضحة لردع المزيد من زعزعة الاستقرار في المنطقة. ولتحقيق هذه الغاية، يجب على الأوروبيين أن يوضحوا أن عملية الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي يمكن إما التراجع عنها أو دفعها إلى الأمام، وأن العلاقات الأكثر تبادلية ستشمل استخدام الجزرة والعصا. 

ويرى سيمون سكوفيلد زميل أول في مركز الأمن البشري، في المملكة المتحدة، أن دول حلف شمال الأطلسي (الناتو) يقع عليها دور مهم في هذا الوقت الحرج من تاريخ المنطقة. ففي حين يسعى أردوغان إلى نثر رماد الماضي العثماني واستعادته، آملاً في تقديم نفسه على أنه سلطان العصر الحديث، الطاغوت الذي يقف على البوابة بين أوروبا وآسيا والذي يسيطر على البحر الأبيض المتوسط ​​ويظهر القوة السياسية والثقافية والدينية والعسكرية، هناك خيار يتعين على الناتو الإقدام عليه؛ إما أن يدعم أردوغان الذي يسعى بشكل استباقي لزرع الفوضى والخلاف، أو يدعم دول المنطقة التي تسعى إلى التعاون والاستقرار. وبصفتها زعيمة العالم الحر، فإن الولايات المتحدة وحدها هي التي يمكنها حشد هذا الخيار، بينما المماطلة لن تؤدي إلا إلى تعجيل زوال التحالف الأمني ​​للناتو.

 

اقرأ المزيد

المزيد من تحلیل