الرئيس رجب طيب أردوغان هائج براً وجواً وبحراً، يحتل أجزاء من الشمال السوري بحجة "الخطر" الكردي على الأمن القومي التركي ضمن تفاهم مع الرئيس فلاديمير بوتين والرئيس دونالد ترمب، يقصف من الجو مواقع في العراق ويرسل قوات عسكرية في مهمات قتالية ويقيم قواعد عسكرية مؤقتة بالحجة "الكردية" نفسها، يتحدى اليونان وقبرص ومصر وفرنسا وكل الحلف الأطلسي في البحر المتوسط ويرسل إلى ليبيا بموافقة أميركية وخلاف مع روسيا قوات عسكرية وأعداداً كبيرة من المرتزقة الذين قاتلوا في سوريا تحت رايات "داعش" و"النصرة" و"حماة الدين" وسواها من التنظيمات الإرهابية، والحجة الإضافية هي الحصول على حصة في غاز شرق المتوسط.
زمان السلطنة العثمانية
لا أحد "يربط زند" الرئيس التركي الذي يحوّل كنيسة أخرى بعد آيا صوفيا إلى مسجد، ويتصور، لا فقط إنه يستعيد زمان السلطنة العثمانية بل أيضاً أن ثياب السلطان صغيرة عليه، ولا شيء يوقفه إلا مؤقتاً، كما تحاول ألمانيا، ما دامت أوروبا التي يبتزها باللاجئين السوريين حريصة على موقع تركيا ودورها في حلف "الناتو" وإن كانت ترفض إدخالها إلى الاتحاد الأوروبي.
ذلك أن أردوغان يصف الشرق الأوسط بأنه "جغرافيتنا القديمة"، ويدعي أن من حق تركيا "الوجود العسكري" في دول منها، وبينها قطر وليبيا وسوريا والعراق، وهذا "المنطق" التركي هو "المنطق" الإسرائيلي و"المنطق" الإيراني.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إسرائيل تحتل الأرض العربية وتقوم بغارات جوية في سوريا ولبنان بداعي الأمن، إذ تعتدي على سيادة الدول لضمان سيادتها، إيران ترسل الحرس الثوري وتنشئ وتمول وتسلح ميليشيات في العراق وسوريا ولبنان واليمن وتتدخل في الشؤون الداخلية، حيث القاعدة هي ضمان السيادة الإيرانية على حساب سيادة الدول العربية، وتركيا تعتدي على حقوق قبرص واليونان ومصر في المتوسط وتتحكم عسكرياً ومن خلال الاتفاقات الاقتصادية بليبيا وسوريا وإلى حد ما بالعراق، لتضمن سيادتها وأمنها القومي وما تدعي أنها "حقوقها" التي يرفض أردوغان "التنازل عنها".
ولا أحد يعرف كيف تنتهي اللعبة في ليبيا التي قال أردوغان إن الاتفاق مع "حكومة الوفاق" فيها "صحّح شيئاً من معاهدة سيفر" التي رسمت حدود تركيا قبل أن تعدلها "معاهدة لوزان"، لكن الواضح أن النفط والغاز هما أساس اللعبة، ومن أجل ذلك فعل أردوغان أي شيء.
"صفر مشاكل"
انتقل مما سماه أحمد داوود أوغلو سياسة "صفر مشاكل" مع الجيران إلى سياسة "مشاكل مع الجميع"، حاول نقل تركيا من "جسر" بين الشرق والغرب إلى "مركز جيوسياسي"، وأخيراً جاء دور التحول من جغرافيا تمرّ عبرها خطوط نقل النفط والغاز من روسيا وإيران والعراق وأذربيجان إلى أوروبا، بكل ما في ذلك من مدخول، إلى مركز لتصدير الغاز بعد إعلانه عن اكتشاف كميات كبيرة من الغاز في البحر الأسود، بموازاة التنقيب عن الغاز في المتوسط ضد حقوق اليونان وقبرص ومصر، ما أثار حقده هو إبقاء تركيا خارج "نادي غاز شرق المتوسط" الذي يضم قبرص واليونان ومصر وإسرائيل والسلطة الفلسطينية وإيطاليا، ولا يزال لبنان خارجه، وما أعطاه ورقة للاقتراب من النادي هو الاتفاق على المناطق البحرية الخالصة بين تركيا وليبيا مع أنه لا حدود بينهما، ومع أن الاتفاق يتجاهل وجود جزيرة كريت على خط التحديد.
وإذا كانت تركيا تتحكم بالمياه عبر نهري دجلة والفرات، فإنها تريد الآن التحكم بما تسميه "الوطن الأزرق" أي البحر المتوسط والبحر الأسود وبحر إيجه، ومن هنا قول ديبلوماسي أوروبي كما نقلته "نيويورك تايمز" أن تركيا بالنسبة إلى الناتو صارت "الفيل في الغرفة"، ومن يدفع ثمن سياسات أردوغان هو الشعب التركي والعالم العربي، فالوضع الاقتصادي في تركيا مأزوم، إذ إن ديون البلد وصلت إلى 328 مليار دولار وقيمة الليرة التركية تخسر يومياً أمام الدولار، والديمقراطية في خطر، وأحدث ما فعله أردوغان هو إنشاء "قوة أمنية خاصة" في إسطنبول وصفتها أحزاب المعارضة بأنها سير على خطى هتلر، والعالم العربي الذي يواجه الخطر الصهيوني منذ ثلاثينيات القرن الماضي يواجه معه الخطر الإيراني والخطر التركي.
حين وصل حزب "العدالة والتنمية" إلى السلطة في أوائل القرن الـ21 كان السؤال هو: إلى أي حد يمكن أن يدير حزب إسلامي دولة ديمقراطية في نظام علماني؟ وما أكثر الذين راهنوا على "النموذج التركي"، لكن أردوغان تخلى عن معظم رفاقه في الحزب، وعمل على تقليص الديمقراطية والعلمانية وإنهاء الكمالية، والحلم هو قيام "عثمانية جديدة" تتزعم مشروع "الإخوان المسلمين" في المنطقة، ألم يقل أردوغان إن "الديمقراطية مثل قطار تنزل منه عندما تصل إلى محطتك"؟