يمثل فائض الحجوزات المكتملة، إن جرى التعامل معها على نحو صحيح، ظاهرة ممتازة. إذ طالما أخفقت شركات الطيران في عملية بيع عدد بطاقات سفر يفوق عدد المقاعد المتوفّرة على متن طائراتها – خصوصاً مع فشلها في السخاء على الزبائن حين تخفق في حساب نسبة المتخلفين والغائبين عن الرحلات، وحين تعلن عن حاجتها إلى متطوّعين (لملىء المقاعد الشاغرة قبل الإقلاع). لكن مهما يكن رأيكم في هذا الجانب المظلم، فن أسود، حين إدارة شؤون العائدات والأرباح، فقد أسعدني أخيراً خبر محوره تقرير (غير مؤكد) يشير إلى حجوزات مكتملة على رحلة لندن – فارو، صباح الثلاثاء الماضي.
خمسة أشهر من الرغبات المكبوتة للسفر إلى البرتغال، يوازيها ضمّ فرنسا وكرواتيا وإسبانيا إلى لائحة الدول التي "لا ينبغي السفر إليها" بسبب ارتفاع معدلات الإصابة بفيروس كورونا، أدّت إلى ارتفاع حاد في مبيعات بطاقات السفر من بريطانيا إلى منطقة فارو، غرب منطقة ألغارف Algarve البرتغالية. آلاف من البريطانيين يسافرون كلّ يوم، تواقين لقضاء آخر أيام الصيف على واحد من السواحل الواقعة في طرف أوروبا القاريّة. فيحتشد الزوار كلّ مساء على شاطئ المنتجع البرتغالي الخلّاب، لاغوس، لمشاهدة غروب الشمس. وقد أظهر البريطانيون مرّة تلو الأخرى، وخلال العديد من الأزمات، إصرارهم العنيد على عدم التخلي عن إجازاتهم إذا تسنى لهم ذلك.
لكن المؤسف أن ذاك الإصرار البريطانيّ المثير للإعجاب لن ينقذ الموسم الصيفي لشركات الطيران. ففي ختام ذروة الموسم الأكثر حلكة منذ بداية عصر السفر الجوي، يتلاشى بصيص الأمل في أن تحقق شركات السفر تعافياً (نمواً) يعتد به. ويبدو أن ما سيحل بعد أشهر من السبات (الركود)، ليس سوى أشهر سبات أخرى.
وعلى الرغم من نجاة شركة "فيرجين أتلانتيك"Virgin Atlantic مؤخرا من ناحية ضمان الحجوزات داخل بريطانيا وخارجها، فإن الرحلات الطويلة بكل اتجاهاتها ومسافاتها تبقى بعيدة المنال. أوروبا القارية ما زالت تبدو حتى الآن... نائية جداً.
وتحقق شركة "يوروكونترول" Eurocontrol من جهتها نجاحاً من ناحية واحدة، تتمثّل بتمكّن طائراتها من السفر باتجاه واحد بسبب الغياب الكامل لحالات الازدحام، كما تصل طائراتها بمواعيد تسبق المواعيد المحددة في البرامج الموضوعة مسبقاً، وذاك يشير إلى قضائها مدة أقصر في الجو وإلحاقها أذى أقل بالكوكب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكانت التوقعات العامة قد رأت أنّه مع تخفيف القيود على السفر وعودة الثقة للمسافرين، فإن الطلب على بطاقات السفر سيشهد ارتفاعاً مضطرداً. بيد أن ما تظهره أرقام "وكالة الأنشطة الجويّة"، ومركزها بروكسل، تشير إلى بلوغها مستويات ثابتة (من دون تحسن) تبعث على القلق. إذ تبدو أعداد الرحلات حتى الآن أعلى بقليل من معدّل 50 في المئة لرحلات صيف 2019.
وتقوم شركات الطيران أمام هذا التراجع المربك بوضع مخطط لجدول رحلات موسم الخريف، مع الانتباه التام إلى أن الأزمة الوجودية التي تعيشها الآن قد تسوء أكثر إن أظهرت المزيد من الالتزام. وأنّه من الأفضل، بحسب ما يرى القيّمون عليها، ولإبقاء تحكمها من ناحية العرض والإمداد، أن تقوم الشركات بين الحين والآخر ببيع بطاقات سفر أكثر ممّا يتوفّر لديها، وأن تحافظ على الرسوم والأسعار المرتفعة، بدل إتاحة آلاف المقاعد وتيسيرها أمام الطلب غير الموجود أصلاً.
فالحجوزات المكتملة قد تعود إلى سابق عهدها، إلّا أن المشكلة الحقيقية تكمن الآن بنقص الحجوزات. والقطاع الذي حقق المعجزات في ربط العالم بعضه ببعض، يشهد انكماشاً سريعاً ومؤلماً. وذاك للمسافرين يعني رحلات ووجهات أقل. وقد قامت شركة "إيزي جيت" easyJet في هذا الإطار، مثلاً، بإغلاق قاعدتها في نيوكاسل، وهي سوف تُقصر عملياتها على رحلات محلية داخلية، إلى بريستول ومطار بلفاست الدولي.
وتقوم شركة "ريان إير" Ryanair في الأثناء بتقليص رحلاتها المقررة لشهري سبتمبر (أيلول) وأكتوبر (تشرين الأول). وعلى الرغم من وعدها السابق بمحاولة خفض وتيرة رحلاتها وعددها بدل مساسها بالوجهات، فإن رحلات مثل تلك الذاهبة من إدنبره إلى مدينة ديري (في إيرلندا) Derry جرى تعليقها حتى الخريف – كما أنّه من غير المنطقي بعد الآن تخصيص المال اللازم لإعادة إحياء هذه الوجهة من العاصمة الأسكتلندية إلى شمال غربي إيرلندا في منتصف فصل الشتاء. إذ لا تبدو نهاية تلك الوجهة جذابة للمسافرين في شهر ديسمبر (كانون الأول)، مقارنة بمنطقة "الغرب" (البرتغال).
كما أنّه تزامناً، ومع تضرر ثقة المسافرين بلعبة "روليت الحَجْر (الصحي)" التي تمارسها الحكومة البريطانية، فإن الالتزام الطويل الأمد بحجوزات رحلات الإجازات، بات غير وارد كثيراً بالنسبة للمسافرين.
السفر الجوي قطاع يعتمد على خطط تجارية طويلة الأمد، وقد قامت شركات الطيران والمطارات، وبغضّ النظر عن بعض الأزمات القصيرة، بالتوسّع الجامح والمستمر على مدى عقود. بيد أن السؤال المطروح اليوم في أوساط القطاع هو "متى ستعود الأنشطة إلى مستويات عام 2019؟" للأسف، بالنسبة لعشرات آلاف المحترفين في قطاع الطيران فإن السؤال المناسب مفاده "هل ستعود" الأنشطة إلى مستويات 2019؟ عوض "متى تعود؟". أرجو أن أكون مخطئاً تماماً في هذا الحسبان!
© The Independent