كيف تتبدى مفاهيم كالبطولة والقيادة كفعل أدائي بين السياسيين والحكام؟ سؤالٌ يُطرح ويصل مدى الإجابة عليه الى أيام الرومان حيث يظهر حيز التداخل بين القادة السياسيين وسعيهم لمسرحة صورتهم القيادية وبين استخدام فنون الأداء كأداة بروباغندا تارةً أو كوسيلة ترهيب تارةً أخرى. تكثر الأسماء من نيرون - الذي كان يستدعي على سبيل المثال بعض الأفراد في منتصف الليل ليرقص لهم أو ليقوم بعرض إيمائي لا لشيء الا لترهيبهم - مروراً بزمن الفاشيين وهتلر الذي تمكن من خلق "جستوس" أدائي خاصٍ به وباتت حركة اليد وقسمات وجهه أيقونات حركية وصولاً عند السياسيين والقادة اليوم بحيث يتناسخ كل منهم أداء الآخر كنزع ال"جاكيت" أمام الجماهير المصفقة كما فعل أوباما، وغيرها من اللحظات التي يبدو فيها واضحاً أثر الأداء الذي يطغى على الخطاب السياسي الناجع. ولعل أكثر اللحظات الأدائية جماهيريةً في العالم العربي هي لحظات خطابات جمال عبد الناصر بحيث كان لتشكيل صورته أثر بارز في العروض المسرحية، وتحديداً في تلقي وفهم شخصية هاملت الشكسبيرية.
يلقي الكتاب المرجعي المهم والفريد في حقله "رحلة هاملت العربية أمير شكسبير وشبح ناصر" للباحثة مارغريت ليتفين (مؤرخة متخصصة في الأدب العربي المعاصر والمسرح، وأستاذة في جامعة بوسطن في الولايات المتحدة)، الضوء على 100 عام من حضور العمل المسرحي "هاملت" في العالم العربي، ويغوص في مآلاته التأويلية وعملية تلقيه مع التركيز على الحدث السياسي والأيديولوحيا من ناحية وعلى طيف جمال عبد الناصر من ناحية أخرى كشخصية تدور في مدار مسرحة هاملت على مر سنوات. تغطي الأجزاء الستة في الكتاب جوانب متعددة، منها أثر الهوية والقومية العربية في تأويل شخصية هاملت، هملتة البطل العربي، ناصر كشخصية درامية بالإضافة إلى الإضاءة على عروض هاملت التي بدأت منذ عام1901.
ترجمات متعددة
نظرت ليتفين الى ترجمة هاملت وتأويلاته الفنية من منظور شبّهته بالمشكال العالمي (Global Kaleidoscope) إذ بالنسبة إليها، ليس هنالك من أثر سابق أو لاحق إلا ويحمل في طياته ما سبقه من محاولات في الترجمة أو مشاهدات مسرحية. من هنا كان مهماً للباحثة أن تعود إلى الترجمات الأولى إذ اتضح أنه بعد عام 1890 دأب الصحافي اللبناني طانيوس عبدو على تقديم الترجمة الأولى لهاملت عام 1901 التي لم تخلُ من العديد من التعديلات الطريفة ومنها على سبيل المثال تغيير النهاية إلى نهاية سعيدة ويقال في هذا السياق إن الأمر يعود إلى النص الذي ترجم أساساً عن الفرنسية التي عمل عليها ألكسندر دوما.
لم يعتبر أحد أن تلك الترجمة هي مادة أدبية. على العكس كان واضحاً أن عبدو ترجم نصاً يخلو من الدقة وتشوبه الكثير من السقطات ولكنه يستجيب لتوقعات ولذائقة الطبقة الحاكمة والبورجوازية آنذاك المتأثرة بالموروث الفني الفرنسي والإيطالي. أتى هذا التوجه نقيضاً لتوجه خليل مطران مثلاً الذي كان مشغولاً باللغة وبالعمل على ترجمة حرفية وبالبحث عن لب المعنى إلا إنه اعتمد أيضاً ترجمة وسيطة عن اللغة الفرنسية وكان سامي الجريديني أول من قام بترجمة نص هاملت عن لغته الأصلية الإنجليزية (1932) إلا أنه اتهم أيضاً بتسطيح النص وبتقديم لغة جامدة ما دفع الممثلة فاطمة رشدي التي لعبت دور هاملت إلى اللجوء إلى أحمد رامي للعمل على ترجمة خاصة بعرضها. وجب الانتظار حتى منتصف الخمسينيات لتقديم ترجمة جدية وشاملة لكل أعمال شكسبير وكانت بتكليف من مديرية الثقافة في جامعة الدول العربية (1955 – 1965) وبإشراف طه حسين. كانت هذه اللحظة نتيجة مناخ عام في مصر يسعى إلى إعادة تموضع ثقافي وسياسي في العالم يحاكي حقبة سياسية تحاول أن تثبت حضورها الإقليمي. تزامنت بداية هذه الترجمة مع السنوات الأولى لحكم جمال عبد الناصر وتوافقت السنة ماقبل الأخيرة لهذا المشروع مع الميلاد الأربعمئة لشكسبير.
عبد الناصر هاملت أم شبحه؟
المثير في كتاب ليتفين هو اشتغالها على حجم التداخل والتلاقح بين الحيز السياسي في شخصية هاملت كما اشتغلها المسرحيون العرب وجمال عبد الناصر كمؤدٍ في العمل السياسي وكمشغّل للمسرحة في المجال العام. لا يقتصر الحديث فقط هنا على تحويل المسرح إلى واجهة أيديولوجية فحسب. تشير ليتفين إلى أن المسرح تحوّل في عهد ناصر إلى "مهرجان وحدة وطنية حيث كانت منصات وقاعات الاحتفالات حية مثل خشبات العرض". إذ تتحول مثلاً مناسبة تأميم قناة السويس مناسبة أدائية تحيطها عروض مسرحية وطنية بإشراف ضابط من الضباط الأحرار. وبحسب الكاتبة، كان لعبد الناصر علاقة وثيقة بالمسرح منذ مراهقته إذ لعب دور يوليوس قيصر عام 1935 كما أنه استحضر في كتاب "فلسفة الثورة" الكاتب المسرحي لويجي بيرانديلو ومسرحيته "ست شخصيات تبحث عن ممثل" التي أورد عنوانها ناصر بشكل خاطئ ليشرح فكرة أن التاريخ مليء بأبطال خلقوا لأنفسهم أدواراً مجيدة لعبوها في لحظات مصيرية. بالنسبة إلى ناصر هنالك أيضاً صفحات في التاريخ تبحث عن أدوار بطولية وهذا مأزق المنطقة العربية: هنالك دور يبحث من دون هدى أن يملأه بطل ما. إن دلّ هذا الربط على شيء - وعلى الرغم أنه اتضح لاحقاً أن ناصر لم يقرأ نص بيرانديللو - إن الأخير يشخصن صورته كفعلٍ درامي يُبنى، يُتخيّل ويحتل مكانة البطولة. في هذا السياق، يلوم توفيق الحكيم ناصر مشيراً إلى أن ميوله الاستعراضية هي أحد أسباب فشل الثورة. ويضيف في كتابه "عودة الروح" أن ناصر تمكن من حكم شعبه عبر سحر الاستعراض إذ غلبت صنعة المسرح على صنعة السياسة، ويقول الحكيم إن ناصر كان مريداً للسلم ومخاتلاً في الحرب، وإسرائيل أرادت الحرب بينما كانت مخاتلة في السلم. الجانب الاستعراضي كان واضحاً أيضاً في أداء الضباط الأحرار حين حاكموا مؤيدي الملك فاروق في الخمسينيات، وفي أداء سياسيين آخرين عرب حيث حضرت جملة "أن نكون أو لا نكون" في الخطاب السياسي العربي وبصيغة الجماعة التي طغت أيضاً في ترجمات النص. ولهذا الشأن دلالاته في تلقف شخصية هاملت عند العرب كمستوعبٍ مجازي يمهد لكل حالات الحيرة والضياع والانهزامات والانكسارات ولاستحالة فصل الفرد عن جسد مدينته وجماعته.
كان لصورة جمال عبد الناصر حضورها في تشكيل شخصية هاملت على الخشبة العربية. من البحث عن مكانة عالمية من خلال الترجمة في الخمسينيات إلى شريط التحولات الإقليمية، كانت تتبدل تشخيصات هاملت وروابطها بناصر. لا تدعي ليتفين، من خلال مراجعاتها لعدد كبير من العروض أن هاملت هو ناصر أو مناقض له ولكنه لا يمكن فهم مسرحة هاملت في العالم العربي خارج سياق آمال القومية العربية التي أرساها ناصر، ومن دون التنبه إلى خذلان هذه الآمال لاحقاً. رصدت ليتفين خطاً زمنياً لتبيان أثر تلك الحقبة السياسية وقسمتها الى مراحل، فكان الفخر والابتهاج بعد عام 1952، البحث عن الذات ثم نفاد الصبر بحثاً عن التقدم في منتصف الستينيات، الغضب والتحدي بعد هزيمة 1967، موت ناصر عام 1970 ومزيج من السخرية والنوستالجيا منذ منتصف السبعينيات.
من هاملت الشكسبيري إلى "هاملتات" التيه
لا تشير ليتفين إلى أي عرض لهاملت في ما سمته "مرحلة الفخر في الخمسينيات". في الفصل الثاني من الكتاب، كان جل تركيز الكاتبة على ناصر كشخصية أدائية. لم يتم ذكر أي عروض محترفة لهاملت قبل عام 1964. أبرزها عرض السيد بدير الذي تظلّل بحضور عروض سينمائية كان لها أثرها في تلقي هاملت بدير للفيلم الروسي "هاملت" لغريغوري كوزينتسيف، الأثر الأكبر في مخرجي هاملت اللاحقين (من ضمنهم بدير) والذين انتموا إلى أجيال مختلفة. تراوح تأثر العروض المصرية المسرحية الأولى لهاملت بين سنداني كوزينتسيف ولورانس أوليفييه حيث قدم الأول رؤيا لا تخلو من السياسة بينما دأب الثاني على تقديم رؤيا تنأى بالبعد السياسي عن شخصية هاملت وتكتفي بالتركيز على صراعه الفردي الداخلي. لم يستطع بدير أن يقدم تصوّراً ثالثاً لهاملت وفضّل أن يقدم شخصية محايدة لا تشبه هاملت الإنجليزي العاطفي من ناحية، وليست بهاملت الروسي الفاعل والمصمّم. كان عام 1964 حافلاً بـ"هاملتات" تساقطت من كل حدب وصوب، ولم يقتصر الأمر على تجسيد أو تعريب شخصية شكسبير.
خصصت ليتفين مساحة من كتابها لعملي ألفرد فرج وصلاح عبد الصبور اللذين خلقا شخصيتين عربيتين كان واضحاً أثر هاملت فيهما، إذ تسربت خصال الشخصية الشكسبيرية إلى كل من سليمان الحلبي (فرج) ومأساة الحلاج (عبد الصبور) بحيث يصح القول إنه تم "هملتتهما". ووفقاً لليتفين استعار كلا الكاتبين العمق النفسي المنبعث من الصراع الداخلي بين الفعل وعدمه، البحث عن العدالة على الأرض، العيش في عالم مضطرب، تآكل الذات، البطولة المترددة، الوحدة والبراعة التي يعبر فيها عن حالته الأخلاقية. نقاط التشابه طاولت أيضاً أدوات شكسبير اللغوية: تجاور الأضداد، كثرة الألغاز، المناجاة. لم يغب طيف ناصر عن شخصيتي فرج وعبد الصبور إذ وجد البعض أن عمل عبد الصبور يشكل صرخة ترجو نظام ناصر بمنح المثقفين هامشاً من الحرية، كما ذُكر أن إغفال البعد الديني لدى الشخصيتين كان بسبب الخوف من بناء أي رابط مع الإخوان المسلمين، بخاصة أن عرض فرج أتى سنوات بعد محاولة اغتيال ناصر (1954) وبعد أشهر قليلة من سجن سيد قطب.
هاملت الهزيمة
المفارقة أنه وجب انتظار وفاة عبد الناصر (1970) كي يعود هاملت مجدداً إلى الخشبة المصرية مثقلاً بعبء هزيمة 67 وبانكسار حلم القومية العربية. وجب على الفنانين المصريين انتظار وفاة حبيب الملايين كي يجعلوا من هاملت وسيلةً من وسائل عدة للاعتراف بوطأة الوهم الذي كان. تطغى في البداية أحاسيس النكران ثم يسقط الفنانون الأقنعة، وبدل أن تحضر جملة "نكون أو لا نكون" بصيغة الجمع أو بصيغتها المفردة تبدو جملة "هنالك شيء متعفن في مملكة الدنمارك" أكثر حضوراً ويتحول هاملت إلى شخصية تخلو من أي بلاغة تعينه على توضيح رسالة سياسية حول العفن المحيط، ولن يبقى إلا "هاملتات" ترتق العبث وتتشظى كأنها لا تنشد شيئاً إلا الدموع واللاتماسك. المخرج محمود أبو دومة مثلاً في مسرحيته "رقصة العقارب" (1988) جعل هاملت يشكك في والده في المشهد الأخير بحيث يتضح أن شبح هاملت كان طاغية ومنتفعاً، بينما اشتغل جواد الأسدي في "إنسَ هاملت" على تفتيت كلي لبطولة هاملت حين يصرخ هوراشيو "أنت لست هاملت الذي أعرفه" وحين يجيب الأخير "حسناً لربما عليّ أن أغير اسمي".
قد يكون من المفيد التوقف عند "هاملت" الذي أخرجه ومثلّه محمد صبحي. لا لشيء إلا للتأمل في حجم النكران الذي يمارسه أولئك الذين ما زالوا حتى اليوم يقدسون صورة قائدهم السياسي. حصد هذا العرض الذي قدم بين عامي 1971 و1977 نجاحاً جماهيرياً. ركز صبحي على الطقس الجنائزي إذ بدأ عرضه بمأتم هاملت وحوّل هوراشيو إلى راوٍ بغية إضفاء مزيد من القدسية على قدر الرجل جاعلاً من مشهد المبارزة يمتد عشرين دقيقة لإبراز قدراته كممثل من ناحية، ولإضفاء المزيد من معالم البطولة والشرف من ناحية أخرى. هذا وقد ألغى صبحي مقاطع وأحداثاً وأضاف أخرى في العرض بهدف التماهي الكلي مع صورة القائد الضحية الشهيد. كما حذف المشهد حيث كان كلاوديوس يصلي مدفوعاً بالشعور بالذنب تجاه هاملت الذي امتنع عن قتله حين رآه في هذه الحالة وأضاف مبارزة لهما لم تكن موجودة في نص شكسبير، وألغى كذلك فورتينبراس وبالتالي ألغى أي تهديد خارجي للدنمارك مملكة هاملت، وألغى جزءاً من المشهد الأخير حيث يدخل فورتينبراس ويأخذ العرش. حين سئل صبحي عن أمر إلغاء شخصية فورتينبراس عام 2007 أجاب بما يلي: "لا أقبل أن يترك هاملت المملكة للعدو... الأمر كما لو أن حسني مبارك على وشك الموت وإذ به يقول، حسناً، تستطيع إسرائيل أن تحتل وتحكم بلدي الآن. لا أقبل هذا. من غير الممكن لهاملت أن يقبل بهذا الأمر!".