الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يحمل قضية لبنان مثل أسلافه أيام الجمهورية كما أيام الإمبراطورية والملكية. ومن حيث، لا يُقدم الآخرون، جاء إلى بيروت في حرارة الكارثة التي أحدثها انفجار رهيب أحرق المرفأ والعاصمة. هو يحاول أن يعمل ما كان يجب أن يفعله الحاكمون: إنقاذ لبنان. وهم شاركوا في جعل الوطن الصغير الذي أفلسوه "رهينة" محور إقليمي تقوده إيران. هو رسم خريطة طريق لعودة لبنان إلى نفسه وإلى أشقائه العرب وأصدقائه في العالم عبر خطوات محددة: مكافحة الفساد لإجراء الإصلاح الهيكلي الذي يقود إلى المساعدات الضرورية في مناخ "التغيير السياسي". وهم عملوا كل ما يستطيعون لتدمير علاقات لبنان العربية والدولية. هو سيعود إلى بيروت في الأول من سبتمبر (أيلول)، موعد الذكرى المئة لإعلان لبنان الكبير على يد الجنرال غورو لتقييم ما وعدوا بفعله. وهم هربوا على مدى عقود من الإصلاحات، وصار لبنان الكبير في مئويته مجرد ذكرى على أرض يراد تركيب تاريخ آخر لها، بحيث يكون التغيير الوحيد هو تغيير موقعه في الصراع الجيوسياسي.
ذلك أن ما اصطدم به وزير الخارجية المستقيل ناصيف حتي الذي حاول إصلاح ما يمكن من علاقات لبنان العربية والدولية هو الإصرار على أمرين: أولهما، الارتباط الوثيق بالمحور الإيراني مع كل ما يرتبه من عزلة للبنان. وثانيهما، رفض الإصلاح، حيث اكتشف "أن الرؤية الإصلاحية غير موجودة والعزم مفقود"، كما قال في حديث نشرته صحيفة "الشرق الأوسط". حتى عندما جاء وزير الخارجية الفرنسي المحب للبنان جان إيف لودريان وقال للمسؤولين بصراحة "لا إصلاحات، لا مساعدات" و"ساعدونا لنساعدكم"، فإن رئيس الحكومة حسان دياب اتهمه بأن "معلوماته ناقصة" وبالعجز عن إدراك ما يتخيل أنه "أنجزه" خلال أول 100 يوم من عمر الحكومة بمعدل 97 في المئة من البيان الوزاري. لا بل اكتشف نظرية لم يسبقه إليها أحد، وهي أن ربط المساعدات بالإصلاحات يؤكد أن المجتمع الدولي قرر عدم مساعدة لبنان، بدل أن يعترف بأن الفشل في القيام بأي إصلاح هو المانع للمساعدات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وما سيكتشفه ماكرون بعد شهر هو على الأرجح أن الإصلاحات التي هي قضية حياة بالنسبة إلى اللبنانيين هي قضية موت بالنسبة إلى التركيبة الحاكمة. حتى التحقيق الذي بدأ لكشف ملابسات الانفجار، فإنه بدأ بالخطأ: الذين يحققون هم الذين يجب أن يستقيلوا لأنهم يتحملون مع كل السلطة المسؤولية السياسية عما يسمى من باب التخفيف "الإهمال". فضلاً عن وجود "قطبة مخفية" في القضية قبل الانفجار، وهي أن يكون هناك طرف يحتاج إلى نيترات الأمونيوم ويستطيع الوصول إليها واستعمال ما يريده منها. وهذه لن يقترب منها التحقيق لأنها تكشف مشكلة لا تستطيع أو لا تريد السلطة الاقتراب منها على الرغم من مطالبة المجتمع الدولي، وهي ما يحدث في المطار والمرفأ والمعابر الشرعية وغير الشرعية.
ومن الوهم الحفاظ على الوضع الحالي بقوة السلاح في بلد مفلس وسط منطقة رمال متحركة. والأخطر من محاولات الحفاظ على الستاتيكو المهتز هو تصوير الاندفاع في طريق انحداري بأنه شق طريق إلى "شرق" يغني عن العرب والغرب، فنحن أسرى سلطة حاكمة وصلت إلى الانقطاع الكامل عن الواقع. وهي أسيرة سلطة متحكمة تعيش في عالم خاص يسوده الرهان المزدوج على السلاح والأحلام. والنتيجة هي الانهيار النقدي والمالي والاقتصادي والاجتماعي وتحويل لبنان إلى مجرد "وظيفة" في صراع المحاور، بدل أن يكون صاحب دور في الحوار. وما كان يدور من خارج السلطة صار يحدث داخلها، بحيث أمسك "محور الممانعة" بكل قرار في أي مجال، لا فقط بما سمي "قرار الحرب والسلم".
وليس لنا سوى الرهان على معجزة، أو أقله على الأمل الذي هو "فطور جيد لكنه عشاء فقير"، كما يقول مثل أميركي.