يمكن القول إن تأثيرات الحرب العراقية الإيرانية، التي امتدت لنحو ثماني سنوات، مثّلت نقطة تحول في مسارات إيران مع غيرها من دول الإقليم والعالم. فقبل الحرب اعتادت إيران استخدام لغة خطابية مليئة بالحماسة الثورية، لكن مع الحرب التي انتهت بعزلتها إقليمياً ودولياً، وتدهور الوضع الاقتصادي، وتزايد الاحتياجات الاقتصادية لإعادة بناء الدولة بعد الحرب، هنا بدأ الرئيس الإيراني الأسبق علي أكبر رفسنجاني في استخدام نبرة أكثر واقعية وبراغماتية، هدف منها إلى الخروج من العزلة الإقليمية والدولية والتقارب مع دول الخليج العربي، لا سيما السعودية، وذلك للحصول على دعمها داخل منظمة "أوبك" المصدِّرة للنفط، حتى يمكن لإيران استعادة عافيتها. ومنذ تلك اللحظة وإيران تسعى دائما خلف تعظيم مصالحها الاقتصادية في مواجهة عقبة سلوكها التدخلي في شؤون دول المنطقة. هذه اللمحة التاريخية توضح لنا كيف أن الاحتياجات الاقتصادية هي العامل الأساسي الذي يمكن من خلاله الضغط على إيران لتغيير سلوكها الإقليمي المثير للتوتر وعدم الاستقرار.
لذا حينما تجدّدت التوترات بين الولايات المتحدة وإيران، بعد أن سحب الرئيس دونالد ترمب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي لعام 2015 مع إيران، باعتبار أن الصفقة كانت معيبة لأنها لم تحدّ من برنامج الصواريخ الباليستية الإيراني أو دعم وكلائها في سوريا واليمن ولبنان والعراق، أعادت واشنطن فرض العقوبات على إيران التي رفعت عام 2016 بموجب ذلك الاتفاق.
وعلى الرغم من مكابرة إيران والتظاهر بقدرتها على عدم التأثر بالعقوبات الأميركية، ثمة العديد من المؤشرات التي توضح ضعف هذا الادّعاء. ومن ذلك، أولاً: استمرار الاحتجاجات الشعبية على مدار عامي 2017، 2018، رفع خلالها المتظاهرون شعارات في مواجهة المرشد الأعلى علي خامنئي، والرئيس حسن روحاني.
واندلعت الاحتجاجات، حيث تأثرت مستويات معيشة المواطنين سلباً بالعقوبات، فقد انخفض الدخل والقوة الشرائية وتدهورت الظروف الصحية والطبية، مقارنة بفترة ما قبل العقوبات. كما سبّب التراجع في اضطرابات سوق طهران، حيث أصبح التجار غير قادرين على استيراد البضائع.
ثاني المؤشرات فرار الاستثمارات الأجنبية وتراجع المؤشرات الاقتصادية، حيث ترتب على إعادة فرض العقوبات الأميركية، التي طالت التحويلات المالية والنفط والطاقة والسياحة والنقل الدولي، تردّد البنوك الدولية ووكالات ائتمان الصادرات الأوروبية والشركات في الاستثمار في إيران، فتم تقويض إمكانية التجارة بين إيران والاتحاد الأوروبي، وخير مثال انسحاب شركة "توتال" الفرنسية متعددة الجنسيات من العقد الموقع مع إيران وإلغاء الاتفاقية مع شركة "إيرباص". ونظراً لأن الاقتصاد الإيراني ما يزال يعتمد اعتماداً كبيراً على عائدات النفط، فالتأثير الأكثر للعقوبات الأميركية انعكس على انخفاض عائدات النفط وصادرات النفط.
كما نتجت عن القيود المفروضة على البنوك في جميع أنحاء العالم أزمة عملة وارتفاع تكاليف المعاملات، مما ضاعف من مخاطر الاستثمار، وأثار القلق بشأن مستقبل الاقتصاد الإيراني واحتمال حدوث أزمات حادة، وبالتالي إعاقة مسارات التجارة الخارجية، مما تسبب في ارتفاع التضخم إلى نحو 15 ٪ بحلول أواخر يونيو (حزيران) 2018 الماضي، وزادت بشكل كبير إلى ما يقرب من 40 ٪، بحلول نهاية عام 2018، وتتوقع بعض التقديرات أن يتراجع الاقتصاد الإيراني ليصل إلى نحو 5 ٪ خلال الفترة من مارس (آذار) 2019 إلى مارس 2020.
مؤشر آخر يعكس الضائقة الإيرانية، هو زيارة الرئيس الإيراني الأخيرة للعراق خلال شهر مارس الحالي، والتي مثلت محاولة للالتفاف على العقوبات الأميركية بتوسيع التعاون التجاري مع العراق وإيجاد صيغة لتوسيع المبادلات التجارية بالعملة المحلية. أي أن إيران تسعى إلى إيجاد بدائل في جوارها القريب، وفي آسيا كذلك، من أجل تفادى الضرر المتزايد، فضلا عن أن الآلية الأوروبية التي استحدثتها بعض الدول الأوروبية لإقناع طهران بعدم الخروج من الاتفاق النووي وتعويضها بعض الشيء عن بعض المنافع الاقتصادية التي كان يجب جنيها من الاتفاق النووي، لم تدخل حيز التنفيذ بعد، بجانب ما يكتنفها من غموض، لذا سافر بير فيشر، الرئيس التنفيذي الألماني لشركة "INSTEX" إلى طهران في 12 مارس (آذار) للقاء قادة أعمال وسياسيين من أجل "توضيح الغموض" حول آلية الدفع، فما يزال هناك الكثير من الأسئلة حول كيفية عمل تلك الآلية، والتي صُمّمت لتكون بمثابة أداة مسؤولة عن الأموال المتعلقة بالصادرات الإيرانية التي ستستخدم في المشتريات الإيرانية للسلع والخدمات في أوروبا. وينتظر جميع الأطراف، لا سيما الإيرانيون، تفعيل هذه الآلية حتى يمكن تقييم تأثيرها، لكن بشكل عام هي لم ترقَ إلى مستوى التوقعات الإيرانية.
أما أهم تداعيات العقوبات الاقتصادية، تلك التوترات الواضحة بين تياري النظام السياسي الإيراني، أي المتشددين والإصلاحيين، فقد أدى انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق وعودة العقوبات إلى توتر العلاقات وتزايد الاتهامات بين الطرفين، فضلاً عن تصلب موقف المتشددين تجاه انضمام إيران إلى اتفاق "فاتف"، والخاص بمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، ومن ثم فشل حكومة الرئيس روحاني في تمرير الاتفاق للالتزام باتفاقه مع أوروبا. هذا التصلب في المواقف نتج عنه استقالة وزير الخارجية جواد ظريف، والتي عدل عنها، لكن في ظل تلك الأزمة صرح ظريف تصريحات عدة تنمّ عن توتر الموقف بين التيارين على خلفية الضائقة الاقتصادية، ومن ذلك قوله "إن غسل الأموال حقيقة في بلادنا، وهناك أشخاص حققوا ربحا بقيمة 30 تريليون تومان". وقبل ذلك أثيرت أخبار حول تنصّت الحرس الثوري على هاتف روحاني.
ما نود أن نؤكده هنا أنه رغم محاولات النظام التحايل على العقوبات لكن يظل العامل الاقتصادي هو الأكثر تأثيرا في توجيه سياسة إيران الخارجية، كما أن أي محاولة للنظام لاحتواء الاحتجاجات والمظاهرات- وإن نجحت- لكنها لن تنجح في إخفاء التوترات بين جناحيه والتي ظهرت، على غرار أزمة ظريف الأخيرة. كما أن المشاكل الاقتصادية الإيرانية ليست فقط نتيجة العقوبات الأميركية، بل إن بعض تلك المشكلات التي واجهتها في السنوات الأخيرة هي نتيجة للعقوبات الدولية، ومعظمها سببها القضايا المحلية وسوء الإدارة.