رواية "النوم في حقل الكرز" للكاتب أزهر جرجيس (دار الرافدين- بيروت)، هي عن شاب عراقي اضطر للهجرة إلى بلد أوروبي في شكل غير شرعي، فراراً من دموية صدام حسين تجاه معارضيه، لكنه بعد أن تتاح له فرصة "العودة الآمنة" إلى وطنه، يفضل البقاء حيث هو؛ ليضمن أن يكون له قبر معروف بعد موته. فالقتل على الهوية بات أمراً سائداً هناك، والقتلى يُدفنون في مقابر جماعية، تماماً كما كانت الحال أيام صدام حسين.
"النوم في حقل الكرز" دخلت القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية لعام 2020، بطلها وكاتبها المفترض هو "سعيد ينسين"؛ يضطر بسبب وشاية زميل له أثناء دراسته الأدب العربي في جامعة بغداد، إلى الفرار من البلد المحكوم بالحديد والنار، ليصل في نهاية رحلة شاقة إلى النرويج وهناك يعمل ساعي بريد ويكتب في الوقت نفسه قصصاً تنشرها صحيفة نرويجية مقابل أجر زهيد.
وفي أحداث الرواية، التي كتبها ينسين بالنرويجية ليتولى بعد ذلك شخص ما نقلها إلى العربية، يتعر ف عبر الإنترنت إلى صحافية عراقية تدعى "عبير"، ويحكي لها حكاية أبيه الذي اعتقله نظام صدام حسين، ولم يفلته أبدا. وبعد فترة تخبره "عبير" أن عليه العودة فوراً إلى العراق، لأن السلطات اكتشفت مقبرة جماعية لمعارضين يساريين، يرجح أن يكون أبوه ضمنهم. وسيتبين لاحقاً من شرح "المترجم" في هامش ختامي أن أمر تلك الصحافية وما سيترتب عليه، لا وجود له سوى في مخيلة ينسن الذي كان يتابع عن كثب تطورات الوضع في بلده الأم، فباتت المسافة بين ما يتخيله وما يحدث بالفعل تكاد تكون منتفية. يحدث ذلك في بداية صيف عام 2005 وكان سعيد قد بلغ السابعة والثلاثين من عمره، علماً أنه ولد بعد اعتقال أبيه وقيام أمه في ظل شعور عارم بالرعب، بمحو كل أثر مادي يدل على الوالد بما في ذلك صوره الشخصية. رسالة "عبير" التي تبدأ بها الرواية تدفع "سعيد" إلى استرجاع أبرز محطات حياته عبر كتابة مذكراته باللغة النرويجية وتركها لدى رئيسة تحرير الصحيفة التي كانت تنشر قصصه، حتى تقودها المصادفة إلى لقاء كاتب عراقي يعيش في النرويج وتعهد إليه بترجمتها إلى اللغة العربية، فتكون النتيجة هي رواية "النوم في حقل الكرز" التي تبدأ باقتباس من سركون بولص: "لا أعرف بأن عليَّ أن أموت حيث ولدت، لكن قبل ذلك، دعوني أكمل ولادتي"، أما العمل ككل فيسبق استهلاله اقتباسٌ من جاك بريفير: "الحياة حبة كرز نواتُها الموت". ولا يخفى المشترك الفلسفي بين الاقتباسين، وموضوعهما الموت، الذي هو أيضاً موضوع هذه الرواية المنشغلة أساساً بهيمنة طيف الأب الميت على صحو الراوي ومنامه، كما في "هاملت" لوليم شكسبير.
طيف الأب
ويكاد العراق يتحول معادلاً موضوعياً لذلك الأب الذي لا يطلب طيفه أكثر من قبر يخصه، يعرف مكانه الابن فترتاح نفسه المعذَّبة. عندما كبر الابن سأل أمه عن أبيه الذي يسمع من الجيران أنه "مات تحت التعذيب، أو أُطعم حياً للكلاب، أو قُتِل ورُمي في نهر دجلة الكتوم، وقالوا بأنه دُفِن سراً في مقبرة ما"، فقالت له وهو في الخامسة من عمره: "أبوك عند واحد كريم"، فهي كانت تتناقض مع الأب اليساري إلى حد الإلحاد، بإيمانها المطلق بأن الله قد احتوى ذلك المقتول غيلة بكرمه حتى ولو أنه كان أبعد ما يكون عن التدين.
في غربته حاول "سعيد" كثيراً طرد شبح أبيه من رأسه، وذات ليلة؛ "درتُ بين أزقة الإنترنت يميناً وشمالاً. عثرتُ في النهاية على قصيدة بصوت السيَّاب: يمدون أعناقهم من ألوف القبور يصيحون بي أن تعال/ نداءٌ يشقُ العروق يهز المشاش/ يبعثر قلبي رماداً...". وما أن انتقل إلى خانة "الرسائل الواردة"، حتى وجد رسالة من "عبير"؛ "مرحبا سعيد. هنالك أمر مهم وغير قابل للتأجيل. عليك أن تعود فوراً إلى بغداد" (الرواية ص17).
الراوي اسمه "سعيد ناصر مردان"، واكتسب لقب "ينسين"، من عائلة فتاة نرويجية تزوَّجها، لكن سرعان ما ماتت وهي في ريعان شبابها متأثرة بورم خبيث في الكلى. وكان يقطن في بناية غالبية سكانها من المسنين، وقد ارتبط روحياً بجار له أوصاه بأن يدفنه عند موته في حقل كرز قريب من تلك البناية، وفي الأخير سيوصي هو نفسه بأن يدفن في الحقل ذاته بعدما تيقَّن مِن أنه لا يرغب في العودة إلى العراق حتى لا يلقى مصيراً مشابهاً للذي لاقاه أبوه لجهة عدم التمكن من معرفة مكان قبره.
وكان "سعيد" قد تمكَّن من الفرار أولاً إلى الأردن، وبعد مدة ليست طويلة وجد نفسه في رحلة خطرة ضمن مهاجرين لا شرعيين، "كما يحلو للعالم المسترخي أن يسمّيهم"، وهم بحسب وصفه "بشر هاربون من الظلم، والاضطهاد، والجوع، والحروب العبثية" ص84. هنا يتذكر أنه ترك والدته المريضة بالسرطان وحيدة في بغداد، وأن عليه أن يجد أي عمل في مهجره ليعينه على إرسال المال لها لتتمكن من تدبير سبل العيش والعلاج في حدوده الدنيا. بعد أن يستقر في ذلك المنفى الاضطراري، سيعمل ساعي بريد؛ "لولا أمي وحاجتها إلى المال، لاستغنيتُ عن الوظيفة، وعدتُ إلى دراسة الأدب من جديد"، ويضيف مناجياً نفسه: "كيف قضت نكتةٌ تافهةٌ على حياتي وجعلت أيامي مظلمة مثل قبر مهجور؟"، وهو هنا يتذكر النكتة التي تسخر من صدام حسين وقد حكاها لزميل له من دون أن يتوقع الغدر به، إلا أن الأخير سجَّل له ما قاله وسلمه لأجهزة الأمن فبات "سعيد" مطلوباً، وما كان من سبيل لينجو بحياته ومن الدفن في قبر جماعي، سوى أن يفر تاركاً أمه ووطنه ودراسته وأحلامه.
الوطن البديل
ارتبط "سعيد بـ"تونا ينسين"، التي كانت تعلمه ومعه آخرون من جنسيات مختلفة، اللغة النرويجية، ليتأهل للاندماج في وطنه البديل، ثم تزوَّجا، قبل أن تكتشف أنها مريضة بسرطان الكلى ولا أمل في أن تنجو من ذلك المرض. بعد ذلك ينطوي "سعيد" على نفسه، ويكتب أحداثاً تخيَّلها، ملخصها أنه استقال من وظيفته وعاد إلى بغداد لينقل رفات أبيه من مقبرة جماعية أكتشفت بعد 37 عاماً على حفرها، إلى مقبرة العائلة، لكنه يجد أنه غير قادر على تحديد أي الرفات تعود إلى والده فيلتقط جمجمة وبضعة عظام يخمن أنها تخص أبيه وأنه دُفِن حياً، وفي طريق عودته من جنوب بغداد حيث جرى العثور على المقبرة الجماعية، إلى بغداد الجديدة حيث يعيش خاله، تخطفه ميليشيات شيعية لأن الهوية المزورة التي أبرزها لهم تشير إلى أنه سُني، بما أن اسمه المكتوب فيها هو "عمر"، علماً أنه كان يخبئ هوية مزورة أخرى اسمه فيها "علي"، لكنها لم تشفع له عند هؤلاء الذين قرروا قتله بعد تعذيبه ودفنه في قبر جماعي. يتعاطف أحد أفراد الميليشيات مع "سعيد"، ويساعده على الهرب، لكنه كان قد فقد رفات أبيه، وبمجرد أن يشعر أنه بات في مأمن يتواصل هاتفياً مع "عبير" ويطلب منها أن تأتي لمقابلته في محل عصير، لكنها بمجرد أن تصل إلى المكان يقع تفجير انتحاري يودي بها مع عشرات من المارة. يقرر "سعيد" العودة إلى النرويج، بعدما وجد أن خاله الذي كان يسميه بابا عفلق سخرية من انتمائه المبالغ فيه إلى حزب "البعث"، قد تحول إلى مرجع ديني؛ "تحول كالحرباء من حضرة الرفيق إبراهيم إلى سماحة السيد إبراهيم" ص165. سيعود "سعيد" إلى النرويج، بعدما وجد أن مَن جوَّع العراق بالأمس (يقصد الأميركيين عبر حصارهم للبلد في زمن صدام حسين) "جاء اليوم مدعياً خلاصها، فأفقدها الأمان وحوَّلها إلى ساحة فرق شعبية. ساحة بلا أسوار، يلعب فيها مَن يشاء ومتى يشاء وكيف يشاء". أما برواز صورة الأب فبقيَّ خالياً منها، فيما سعيد يقرر: "سأعود إلى النرويج من أجل النوم في حقل الكرز" ص211.
وعبر تقنية الرواية داخل الرواية يحكي لنا "المترجم" بتاريخ 2010 أن "سعيد ينسين" مات فجأة في شقته في أوسلو، بعد أن انتهى من كتابة روايته، وتولت رئيسة تحرير صحيفة "داغ بوستن"، "هيلينا يورستاد" أمر دفنه في مقبرة جاره "ياكوب بوندال"، تحت ظلال الكرز وكتبت على شاهد قبره: "هنا ينام سعيد ينسين... المجد لمن نام في حقل الكرز".