لم تعد القضية كيف وصلت إثيوبيا إلى المرحلة الأخيرة فى بناء السد، وأصبحت على مقربة من التشغيل التجريبي للسد فقط، وفي ظل حالة من التعنت والتحفظ على ما أبدته القاهرة من أفكار ورؤى وتوجهات طوال مسار التفاوض الذي استمر وما زال لسنوات طويلة، وصولاً إلى البحث عن الخيارات الأخرى في حال العودة لمجلس الأمن مجدداً بعد فشل وساطة الاتحاد الأفريقي، وعدم التوصل إلى حل حقيقي مرضي للأطراف المصرية والسودانية والإثيوبية.
بالبحث في تاريخ بداية أزمة سد النهضة يبرز سؤال هام عن الجذور الحقيقية وراء أزمة السد وما هي العوامل التي أدت إلى الوصول إلى نقطة اللاعودة لكل الأطراف، وهل كان الرؤساء المصريون السابقون وعلى رأسهم الرئيس المصري الراحل حسني مبارك أحد هذه العوامل الجذرية للأزمة الراهنة؟
وقائع مهمة
فتح الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر مجالات التبادل التجاري مع دول أفريقيا وأرسل العديد من البعثات الدينية والتعليمية والثقافية وخصص محطات إذاعية بلغات أفريقية مما جعل بناء السد العالي يسيراً ومطروحاً ومقبولاً لدى الجانب الأفريقي، ولم تستطع إثيوبيا التي كانت تعارضه أن تستمر في رفضها أمام دعم أفريقيا بأكملها للخطوة المصرية، على عكس خطوة الرئيس أنور السادات عندما دعم الجبهة الشعبية لتحرير إرتيريا في مسعاها للانفصال عن إثيوبيا.
إلا أنه منذ لحظة محاولة اغتيال الرئيس الأسبق حسني مبارك في إثيوبيا وتوتر العلاقات المصرية – الإثيوبية، بخاصة الأفريقية، أصبح هناك سبب مباشر في إهمال مصر للقارة الأفريقية بأكملها وليست فقط إثيوبيا، ومهدت الطريق أمام الإثيوبيين لبناء سد النهضة حيث بدأت إثيوبيا في الإعلان عن مخطط البناء ونيتها في الاتجاه لمسارات التنمية عبر خطاب إعلامي موجه لم يكن مطروحاً من قبل، وهو ما يشير بالفعل إلى أن إثيوبيا ودولاً أخرى داعمة منها ما هو دولي ومنها ما هو إقليمي قد استثمرت توتر العلاقات بين القاهرة وأديس أبابا واتجهت إلى الإعلان عن المشروع، ووضع مخططه التأسيسي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حسني مبارك وملف التوريث
وبصرف النظر عن الرد المصري ومواقف الرئيس الأسبق مبارك من الملف بأكمله، وما تم طرحه من خطاب إعلامي وسياسي، فإن الإشكالية الحقيقية تربط بين ما دار من رد الفعل المصري على الخطوة الإثيوبية، وانشغال تيار من داخل نظام الحكم بقضايا أخرى منها خلافة الرئيس مبارك وملف التوريث بعد مرضه ووفاة حفيده، وقد دفع النظام السياسي تكلفه عالية الثمن لهذا التوجه والانشغال عما كان يجري في الجنوب بالاهتمام بقضايا الداخل، الذي تمثل في صعود مثير لشخصيات من رجال المال والأعمال ورجال لجنة السياسات ومجلسها الأعلى حتى قبل الطامة الكبرى بإدارة عملية انتخابية في اتجاه واحد، واتباع مبدأ الاستبعاد، وهو ما أدى في النهاية إلى حالة التغيير السياسي العاصف في وقت كان من المهم فيه الفصل بين قضايا الداخل، وأولوياتها والقضايا الخارجية المثارة ومنها ما يمس الأمن القومي المصري في الأساس، وكان على رأسها موضوع بناء السد والتعامل معه بصورة حاسمة لا تحتمل نصف حل وشبه خيار، وهو ما لم يحدث.
وكانت بعض المصادر غير الموثقة (صفحة غير رسمية على الشبكة الدولية لللمعلومات) قد أكدت أن الرئيس الأسبق مبارك قد هدد بضرب السد وأنه لن يتوانى عن فعل ذلك، عبر تسجيل صوتي تم التشكيك في تفاصيله لاحقاً من حيث رسالته أو مغزى التوقيت، أما الأهم والجدير بالذكر ما نشره موقع "ويكيليكس"، والخاص بطلب مبارك من الرئيس السوداني المخلوع عمر البشير بإنشاء قاعدة عسكرية وتحديداً في مدينة "كوستي" التي تقع جنوب الخرطوم تستخدمها مصر في حال أصرت إثيوبيا في المضي قدماً في إنشاء سد النهضة. والحقيقة أن الروايتين غير صحيحتين شكلاً ومضموناً، وتأتيان في إطار تبني موقف داعم للرئيس الأسبق والدفاع عن دوره، وليس توثيقاً للتاريخ حيث تتضح الحقائق من دون مواربه.
اتفاقية عنتيبي
وبالحديث عن اتفاقية عنتيبي، نجد أن تلك الاتفاقية التي تم توقيعها في عام 2010 لإعادة توزيع حصص مياه النيل بين الدول من دون النظر إلى أي حصة تاريخية، هي أخطر الضربات التي تلقتها مصر في عهد الرئيس الأسبق مبارك ومنذ توقيع اتفاقية المياه التي منحت مصر 51 في المئة من حصة نهر النيل في عام 1959 وحتى 2010، استطاعت القاهرة الحفاظ على نصيبها في المياه، وعلى رغم توتر العلاقات في بعض الأحيان بين القاهرة وأديس أبابا في عصر السادات إلا أنها لم تستطع القيام بتلك الخطوة إلا في نهاية عصر مبارك.
ويمكن القول إن أصل الأزمة بدأ بالفعل باتفاق "عنتيبي" في عهد مبارك الذي وقعت عليه 6 دول في عام 2010، بإلغاء نصيب مصر الحالي من مياه النيل وفرض التقسيم العادل للمياه بين جميع الدول التي يمر بها، ثم جاءت التطورات تباعاً عام 2011، التي اعتبرتها إثيوبيا فرصة وبدأت في إنشاء السد بالفعل.
عهد الإخوان
عندما بدأت مصر مرحلة جديدة من عمرها السياسي بعد سقوط الرئيس مبارك وحالة السيولة السياسية التي شهدتها مصر كانت الخطوة الثانية لإثيوبيا هي العمل على تدشين العمل بالسد، والإعلان مجدداً عن مخططها في وقت كانت مصر تُحكم من الشارع نتيجة حالة الحراك السياسي الكبير، الذي أدخل مصر في سيناريوهات متعددة، في وقت ظلت إثيوبيا تعمل من خلال التأكيد على الهدف الإثيوبي في البدء فعلياً في بناء السد وأسهمت الحركة الدولية الداعمة لأديس أبابا في الاستمرار في هذا الخيار بل ودعمه، وكان دخول بعض الشخصيات المصرية البرلمانية وبعض الشخصيات العامة الداعمة للحوار مع إثيوبيا على الخط، بل وتأكيد حقها في البناء باعتباره عملاً تنموياً لدولة فقيرة، وهو ما مثل نقطة فاصلة في الملف.
لم تتوانَ جماعة الإخوان في الاستمرار في إدارة المشهد مع إثيوبيا بطريقة بدت عبثية، وهو ما أدى لتحرك الجانب الإثيوبي لتأكيد حقه في العمل في مشروع السد لاعتبارات تتعلق بمصالحه، واكتفى الجانب المصري ممثلاً في الإخوان في ذلك الوقت بعد وصولهم لسدة الحكم بخطاب إعلامي وسياسي عابر وغير واضح. وأذكر أن إثيوبيا صدقت في برلمانها على اتفاق عنتيبي عام 2013 من دون أي ردّ من جماعة الإخوان، وهو ما مكن الحكومة الإثيوبية لاحقاً من المضي في أهدافها تباعاً. وكان خطأ الإخوان الفادح في نقل الرسالة المصرية على الهواء مباشرة، وهو ما استثمرته إثيوبيا بعد ذلك بصورة جيدة ومهمة في التأكيد على أن مصر لا تريد تنمية إثيوبيا، وأنها تجور ليس على حقوق الجانب الإثيوبي فقط بل وأيضاً على حقوق دول حوض النيل بأكملها، وقد بدأت إثيوبيا في التحدث باسم الشعوب الأفريقية في دول الحوض، وليس بمفردها.
تتابع الأخطاء بسرعة
تتالت الأخطاء تباعاً من تبعات الرد المصري والتعامل مع تطورات الموقف الإثيوبي ومسعاه للتعجيل بإتمام بناء السد وتحويله لمشروع قومي، وقامت دول كبرى منها الصين وروسيا وإيطاليا وإسرائيل بدعم التحركات الإثيوبية والإعلان عن خطوات داعمة حقيقية بدأت تطرح خيارات في التعامل السياسي والاستراتيجي في ظل إدراك بعض أجهزة المعلومات الدولية بأن مصر لا تزال تشهد حالة الحراك السياسي وبناء مؤسسات سياسية وإعادة تفعيل دور النظام السياسي بأكمله جنباً إلى جنب لاستمرار القوات المسلحة في أداء دورها في الحفاظ على استقرار الدولة المصرية، وبنيانها في مواجهة ملف الإرهاب ومسعى أجهزة معلومات دول كبرى لتفتيت الجيش المصري وإفشال مهامه.
وللتذكرة سعت القوى الدولية عبر سنوات طويلة من عمر الدولة المصرية لتحجيم قدرات الجيش وتقليص قواته وإخضاعه للسيطرة الإدارية والتنظيمية، ولعل معاهدة لندن 1840 دليل على هذا الأمر، وهو ما تكرر بصورة أو بأخرى في حظر السلاح وتصديره لمصر من بريطانيا وأميركا، وبرز في معاهدة سيفر التي خططت للعدوان الثلاثي على مصر ثم في مرحلة يونيو (حزيران) 1967 وامتدت المحاولات الداخلية في المقابل بمحاولة اختراق الجيش المصري عبر تنظيمي الجماعة الإسلامية والجهاد ثم اغتيال الرئيس الأسبق أنور السادات، كما امتد في الوقت الراهن لضرب استقرار الأوضاع في الجيش، كما سعت أجهزة المعلومات الدولية لتوظيف حروب الأجيال الرابعة والخامسة، وركزت المواجهة على محاولة نشر الأكاذيب والفوضى وإتباع خطاب إعلامي مزيف وغير صحيح في انشغال الجيش المصري في أعمال مدنية على حساب أعمال التدريب والقتال ومواجهة الخطر الحقيقي الذي يواجه مصر من كل حدودها وللمرة الأولى في تاريخها السياسي والاستراتيجي. وهو ما سبق حالة الحراك الشعبي في المنطقة بأكملها واستهدف أيضاً مصر بعد سقوط نظام حكم الرئيس الأسبق مبارك، وكان ذلك في إطار ما عرف باسم تطبيق نظرية الفوضي الخلاقة وتوريط الجيش المصري في مواجهة شعبية، كما جاءت فترة حكم جماعة الإخوان الإرهابية في هذا الإطار حيث سعيت الجماعة لتفكيك الجيش المصري وتهميش دور المؤسسة العسكرية ومحاولة استبدالها بكيانات موازية.
عامل التوقيت
من الواضح أن هناك مخططاً يستهدف تسخين الجبهات في التوقيت نفسه ودفع مصر إلى حشد قواتها العسكرية في محاور متعددة بهدف إرباك صانع القرار الاستراتيجي، ونقل رسالة إعلامية وعسكرية للرأي العام المصري داخلياً بضرورة اتباع خيار المواجهة سواء في ليبيا أو مع إثيوبيا، وهو ما يؤكد أن التزامن مهم وقائم مع التحريض على ضرورة العمل العسكري المصري، كما لوحظ ابتعاد القوى الرئيسية الدولية عن التواجد في الأزمتين بصورة مباشرة، ومن ذلك عدم وجود دور أميركي لافت في ما يجري بعد مبادرات واشنطن وتباين التصريحات الأميركية على لسان وزيري الخارجية والخزانة حول حق كل طرف في طرح موقفه من دون ضغوطات من أي طرف، كما اكتفي الجانب الروسي في متابعة ما يجري من الخارج سواء في ملف ليبيا أو مسار مفاوضات سد النهضة على رغم أن موضوع السد بات شأناً دولياً وليس ثنائياً أو ثلاثياً، إضافة إلى استمرار الحشد الإعلامي الدولي تجاه مصر ودفع الإعلام الأفريقي إلى مهاجمة مصر على اعتبار أنها تسعى لإبقاء الشعوب الأفريقية على ما هي عليه، بهدف إحداث نوع من الوقيعة بين مصر والدول الأفريقية وتحريض دولها وأنظمة الحكم على القيام بتنمية بلادها وإقامة سدود جديدة في أراضيها.
الخلاصات
إن المسؤول عما جرى ويجري في مشروع سد النهضة بدأ في فترة حكم الرئيس الأسبق مبارك، وأن مصر في عهد الإخوان أسهمت بقوة في ترك الأمر للحكومة الإثيوبية للتحرك والعمل والبدء في مشوار البناء، بل وكانت الدبلوماسية الشعبية التي تم إطلاقها سبباً في تدعيم وجهة النظر الإثيوبية في البناء والانجاز وأن اتفاقية عنتيبي كانت السبب الأول في إطلاق الجانب الإثيوبي لمخططه في الإنجاز لبناء السد بقوة.
إن الأمر مرتبط بمنظومة معقدة من الحسابات الدولية والإقليمية، والتي تتفاعل مع ما يجري بل وفي ظل موقف أميركي غير واضح يدفع بالعمل في جانب واحد بصرف النظر عن دعمه للخيار التفاوضي، والضغط على الجانب الإثيوبي، وهو ما لم يتم فعلياً وبصورة جدية وهو ما ينطبق على الجانب الصيني والإيطالي أيضاً.
تبقى إسرائيل الدولة الأهم والأخطر في ظل مسعاها للاستفادة مما يجري في الوقت الراهن حول مصر وتركيزها على إقامة بنك للمياه في الشرق الأوسط تكون جزءاً منه على رغم أنها لم تعد بحاجة إلى المياه عكس ما هو شائع، بالتالي فإن سد النهضة والانفتاح الإسرائيلي الجديد في أفريقيا مدخل مهم لتركيز المصالح الأفريقية المستجدة في مواجهة مصر والمنطقة العربية.