تنفّس القادة الإسرائيليون من عسكريين وسياسيين، الصعداء بعدما أعلنت المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، بدء عطلتها الصيفية وعدم إصدارها قراراً في شأن طلب المدّعية العامة فاتو بنسودا، بالشروع في تحقيق حول جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في غزة والضفة، خصوصاً خلال الحملة العسكرية الإسرائيلية على غزة "الجرف الصامد" وبناء المستوطنات في الضفة والقدس.
هذا التأجيل يمنح إسرائيل مدة شهر ونصف الشهر لاستكمال حملتها، التي انطلقت بها منذ رفع دعاوى ضد قادتها في المحكمة وإعلان موقف بنسودا. وشملت الحملة الإسرائيلية تحريضاً على الفلسطينيين وعلى المحكمة ذاتها والسعي إلى نزع شرعيتها، في مقابل الحصول على دعم أميركي.
ووصلت ذروة الحملة، الجمعة 17 يوليو (تموز)، الموعد الذي كان مقرّراً لجلسة المحكمة وأعدّت إسرائيل قائمة سرّية تشمل 200- 300 من القادة الإسرائيليين وضباط وجنود في الجيش الإسرائيلي. وبموجب القائمة، يُمنع المشمولون فيها من السفر إلى الخارج خشية المصادقة على موقف المدّعية العامة وبدء التحقيق في الدعاوى المقدمة إلى المحكمة وإدانة القادة الذين وردت أسماؤهم أو بعضهم، بالتالي ملاحقتهم.
وسبقت إعداد القائمة سلسلة طويلة من التحرّكات، العلنية والخفية. فمع تشكيل الحكومة الجديدة، عُيّن الوزير زئيف إلكين مسؤولاً عن المحكمة الدولية. ويقود إلكين فريقاً من وزارات عدّة، يعمل منذ سنوات في مجالات مختلفة بتوجيه الأعمال الإسرائيلية تجاه المحكمة. ويضم الفريق مندوبين من وزارت الخارجية والعدل والشؤون الاستراتيجية وهيئة الأمن القومي وجهاز الأمن وغيرها.
ويولي رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، أهمّية لقرارات المحكمة. وقبل أزمة كورونا، بذل جهوداً لمنع أي خطوات منها ضد إسرائيل. وقد سبق وقال إنها "أصبحت سلاحاً في الحرب السياسية ضد إسرائيل، وأن قرار المدّعية العامة يتعارض والمبادئ الأساسية للمحكمة نفسها".
وعقد نتنياهو، في الأسابيع الماضية، مداولات استعداداً لقرار الهيئة القضائية الدولية، شارك فيها وزراء.
موقف المدّعية العامة
يأتي الاستعداد الإسرائيلي هذا، انطلاقاً من قناعة مسؤولين بأن قضاة المحكمة الدولية سيأخذون بموقف المدّعية بنسودا، التي تقول إن المحكمة ذات صلاحيات في التحقيق مع الإسرائيليين وتقديمهم إلى المحاكمة، على الرغم من عدم الاعتراف الإسرائيلي بحقّها في التدخل في النزاع مع الفلسطينيين لعدم اعترافها بالسلطة الفلسطينية كدولة، بالتالي يُحظّر على المحكمة ضمها إلى صفوفها.
وكانت بنسودا أعلنت في شأن عملية "الجرف الصامد" أن "هناك أساساً للاعتقاد بأن جهات في الجيش الإسرائيلي ارتكبت جرائم حرب لتنفيذها هجمات غير متوازنة على الأقل في ثلاث حالات، التي أدت بصورة متعمّدة إلى قتل وإصابة عدد كبير". وأضافت المدّعية العامة أنه "يوجد أساس للاعتقاد بأن إسرائيل ارتكبت جرائم حرب لنقل مواطنيها إلى الضفة الغربية"، قائلةً "على الرغم من المناشدات الواضحة والمستمرة لتل أبيب بالكف عن نشاطاتها في المناطق المحتلة خلافاً للقانون الدولي، لا يوجد أي مؤشر إلى أن هذه النشاطات يمكن أن تنتهي. بالعكس، هناك مؤشرات إلى أن إسرائيل تريد ضمّ هذه المناطق".
واعتبرت بنسودا وطاقمها أن هناك إمكانية للتحقيق في "جرائم يبدو أن جنوداً في الجيش الإسرائيلي قد ارتكبوها، مستخدمين أسلحة قاتلة وغير قاتلة ضد متظاهرين قرب حدود غزة بدءًا من مارس (آذار) 2018، وتسبّبوا بموت أكثر من 200 شخص، منهم 40 قاصراً وإصابة آلاف الأشخاص".
لا اعتراف
ويقدّر خبراء في القانون الدولي تركيز المحكمة على تصرّفات المسؤولين السياسيين والعسكريين في فترة تنفيذ عملية "الجرف الصامد" وعمليات أخرى ارتُكبت بعد ذلك، ما يعني أن المتّهمين هم بنيامين نتنياهو ووزراء الأمن السابقين موشيه يعلون وأفيغدور ليبرمان ونفتالي بنيت ورئيسا الأركان السابقان بيني غانتس وغادي آيزنكوت ورئيس الأركان الحالي افيف كوخافي، إضافةً إلى رئيسَيْ الشاباك السابق والحالي يورام كوهين ونداف ارغمان.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومِمّا سُرّب في شأن القائمة السرية التي أعدتها إسرائيل، أنها تشمل مسؤولين في مستويات أدنى، منهم ضباط برتب مختلفة في الجيش ومسؤولون صادقوا على بناء المستوطنات والبؤر الاستيطانية في الضفة والقدس.
ولأن تل أبيب ترفض الاعتراف بصلاحية المحكمة، لا تنوي تمثيل نفسها بصورة رسمية في المداولات بعد عودة القضاة من العطلة الصيفية. في المقابل، في التحقيق الأوّلي، جرت اتصالات هادئة بين المدّعية العامة والسلطات في إسرائيل، التي تدرس الآن إمكانية القيام سراً بتمويل أحد "أصدقاء المحكمة" الذي تمت المصادقة على مشاركته في المداولات كـ"محامٍ خفي".
وتتوقّع شخصيات رفيعة في إسرائيل أن يُحسَم القرار في شأن المحكمة في أي وقت، وأن إعلاناً رسمياً من قبل تل أبيب عن ضمّ مناطق في الضفة الغربية يمكن أن يضرّ أكثر بوضعها في المداولات.
الدعم الأميركي
بذلت إسرائيل خلال الأشهر الماضية، جهوداً كبيرة لضمان الدعم الأميركي، وحضّت واشنطن على اتّخاذ خطوات متشدّدة ضد المحكمة على أمل ردعها عن بدء التحقيق.
وقد تجاوب الرئيس دونالد ترمب، مع نتنياهو وأمر بالتنسيق مع تل أبيب بفرض عقوبات على الجهات المشاركة في تحقيقات المحكمة بسبب الاشتباه في ارتكاب الجيش الأميركي جرائم حرب في أفغانستان. شخصيات رفيعة في الإدارة الأميركية اعتبرت مرات عدّة أن قرار التحقيق مع إسرائيل خطوة "سياسية" يمكن أن تؤدي إلى ردود أخرى من جانبهم.
وقد أثار الموقف الأميركي هذا ردود فعل معارضة من عشرات الدول التي أكدت دعمها المحكمة.
المقاطعة الإسرائيلية
عشية كل بحث في المحكمة الدولية ضدّ إسرائيل بتهم جرائم الحرب، تمتنع تل أبيب عن تقديم ردها، وهكذا فعلت هذه المرة، إذ أعادت الكرّة بشأن التحقيق في جرائم الحرب التي ارتكبتها، معتبرةً أنها بذلك لا تمنح شرعية للمحكمة.
لكن، وبحسب ما نُقل عن الرئيسة السابقة لدائرة القانون الدولي في النيابة العسكرية الإسرائيلية بنينا شرفيط، إذا امتنعت إسرائيل عن تقديم ردّها، يمكن إصدار أوامر اعتقال بشكل سري ومن دون علم الشخص الذي يصدر أمر الاعتقال بحقّه. وبعد صدور أمر الاعتقال، ستلتزم أي دولة عضو في المحكمة تنفيذه ونقل المعتقل إلى المحكمة في لاهاي. وهناك 122 دولة عضو في المحكمة، وتضمّ جميع دول أوروبا الغربية والقارة الأميركية تقريباً، باستثناء الولايات المتحدة وبعض الدول الأفريقية وأستراليا واليابان ودولاً في آسيا".
وشدّدت شرفيط على أنه لا توجد حصانة أمام المحكمة لوزراء وقادة دول، ومن ضمنهم من يتبوّأون مناصب، ما يعني أنه "في حال صدرت أوامر اعتقال ضد مسؤولين إسرائيليين، فإنه ستُقيّد عملياً إمكانية سفرهم إلى دول كثيرة".