بات الوضع في مالي ضبابياً بعد تصاعد الاحتجاجات وتوسع التظاهرات المطالبة بتنحي الرئيس إبراهيم أبو بكر كيتا، ورحيل القوات الفرنسية من البلاد.
وتتجه الأمور إلى التعقيد بعد سقوط قتلى وجرحى على الرغم من تقديم الرئيس بعض التنازلات ودعوة الزعيم محمود ديكو إلى التهدئة.
ومما لا شك فيه، فإن الأزمة السياسية في مالي التي قد تتحول إلى أمنية في أي وقت، تُقلق الجزائر وفرنسا بشكل كبير، الأولى بسبب الحدود المشتركة والحضور الدائم سياسياً واجتماعياً وعائلياً وتاريخياً، بينما الثانية بسبب مصالحها الكبيرة ووجود قواتها العسكرية في المنطقة، واعتبارها إحدى مستعمراتها السابقة، بخاصة أن الوضعية تتمحور بين بروز توجه سياسي يضمن الخروج الآمن للرئيس كيتا، وتحقيق بعض مطالب المعارضة، أو انفلات الأمور وعندها تكون باماكو على موعد مع أصحاب القبعات الحمر والدبابات.
الجزائر تتحاشى "إغضاب" فرنسا في مالي؟
في المقابل، يرى إدريس آيات الكاتب المتخصص في الأمن الأفريقي، أن الاحتجاجات في جمهورية مالي التي يقودها حراك 5 يونيو، أتت عكس التوقعات الفرنسية في المنطقة، وقال إنه "للمرة الأولى يمكن القول إن الحراك شعبي كلياً، كما أنه ليس ربيعاً أفريقياً متأخراً، بل إمتداد للربيع الأفريقي الذي أطاح بالرئيس البوركينابي بليز كومباوري في الساحل 2014، فما حدث هناك قد يحدث هنا".
ويعتبر آيات في تصريح لـ"اندبندنت عربية"، أن الحراك المالي يعاني شحّاً في التغطية الإقليمية والدولية، فالأطراف الإقليمية من جنوب الصحراء تخاف عدوى الانتفاضة إلى أراضيها، بينما دول الشمال بخاصة الجزائر وثقلها الإقليمي تتوخى الحذر، مبرزاً أن الحكومة الجزائرية لم تستقر سياسياً في الداخل.
ويضيف "ثمة شريحة غير يسيرة لا تزال تصف النظام بغير الشرعي، فأي تصريح داعم للحراك المالي قد يوصف بالتناقض، فضلاً عن تحاشي الجزائر "إغضاب" فرنسا نتيجة التقارب الذي لاح في الأفق أخيراً بين البلدين، ما يعني أن الصمت ما هو إلا اللعب على التناقضات".
ويوضح آيات أن الأطراف الدولية المنافسة لفرنسا "يبدو أنها لم تتخذ قرارها بعد"، وإظهار أي نوع من الرعاية للحراك في الوقت الحالي من تركيا أو روسيا أو حتى الولايات المتحدة التي تحاول تقويض هيمنة فرنسا في الساحل بالتعاون مع الأتراك أحياناً، قد يقابل بالرفض من قادة الحراك الذين يرون رأسمال قوتهم الشعب، وعدم ارتباطه بالخارج.
ويضيف أنه في حال استمرار الحراك، ستبدي القوى الإقليمية تعاطفاً بدعم معنوي، وأي "موقف داعم سيأتي فقط بعد نجاح الحركة في حصولها على تنحي الرئيس، وهو سيناريو ليس بمستحيلٍ لكن يبدو قليل الاحتمال".
فرنسا ترفع حجم الوجود العسكري الأوروبي
وفي وقت انتظرت باماكو مبادرات من الأصدقاء، أعلنت وزيرة الدفاع الفرنسية، فلورانس بارلي، عن نشر قوات خاصة مشتركة تابعة للاتحاد الأوروبي في مالي، لمحاربة التنظيمات الإرهابية وبسط الأمن والاستقرار في المنطقة، موضحة أن المجموعة الأولى تضم نحو مئة جندي فرنسي وإستوني، في حين ستنشر كتيبة ثانية تضم نحو 60 جندياً من التشيك خلال الأشهر المقبلة.
كما سينضم إلى تلك القوات نحو 150 جندياً سويدياً في يناير (كانون الثاني) 2021. وشددت بارلي على أن إيطاليا أعربت عن رغبتها بالانضمام، بينما تواصل الجزائر التزام الصمت إزاء ما يحدث من اضطرابات على حدودها الجنوبية "تحت ذريعة عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول".
تحالف جزائري فرنسي لكبح جماح تركيا
وفي السياق ذاته، يوضح المحلل السياسي سليمان شرقي، في حديث لـ"اندبندنت عربية"، أن الساحل عموماً ومالي خصوصاً هي منطقة نفوذ تاريخي قديم لفرنسا وأميركا حديثاً، غير أنه في السنوات الأخيرة عرفت صراعاً معلناً وخفياً بفعل الحاجة لثرواتها الطبيعية، لا سيما الصين وحتى تركيا التي أضحت تشكل لاعباً دولياً فاعلاً في المنطقة. ويرى أن ما يحدث من حراك في مالي وإن كان طبيعياً بالنظر الى المطالب المشروعة المرفوعة، إلا أنه أقل خطورة على ما كان يمثله الإرهاب في المنطقة الذي يبدو أن التلاعب بورقته قد خفت، وما عاد مبرراً وكافياً للوجود العسكري الأجنبي عموماً والفرنسي خصوصاً.
ويعتقد شرقي، أن فرنسا استبقت الأحداث بإعلانها القضاء على عبد المالك دروكدال زعيم تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، ومن ثم إعلانها عن بدء انتشار قوة أوروبية، "وهي بذلك تحاول منع المنطقة من الخروج عن دائرة النفوذ والسيطرة الأوروبية"، في ظل استراتيجية ناعمة تمارسها كل من الصين وتركيا عبر التمدد الاقتصادي بالاستثمارات في مجالات المنشآت القاعدية الكبرى والنقل. وختم أن الاتصالات المكثفة وتسارع الأحداث للفصل في قضايا كانت عالقة بين الجزائر وفرنسا، هي مؤشر على اتفاق بين البلدين للمزيد من تنسيق الجهود لوضع حد للطموح التركي على الأقل الذي أضحى لافت الوجود وبصبغة مسلحة.
رسالة إلى فرنسا
ترى المعارضة المالية في رحيل كايتا، رسالة إلى فرنسا التي تقدم له الدعم، بخاصة أن الإمام محمود ديكو من المطالبين بتحرير البلاد من الوصاية، وهي المطالب التي دفعت إلى تظاهرات سابقة ضد "الوجود العسكري في مالي الذي ينحصر دوره في حماية المصالح الاقتصادية لفرنسا وليس من أجل تأمين بلدانهم من الخطر الإرهابي الذي لم تفلح القوات الفرنسية في القضاء عليه أو حتى كبحه".