Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

صراع بين الصين والهند في ظل تحولات جيوسياسية

تواجه الدولتان محاولتهما كلٌّ على حدة تجاوز صعوبة التعامل مع نظام أحادي القطبية

تحول النزاع بين الصين والهند إلى حرب وصلت ذروتها عام 1962 (غيتي)

قبل أن تطل الذكرى الـ60 لتأسيس حركة عدم الانحياز في سبتمبر (أيلول) 1961، تجدّد الخلاف الأزلي والمتكرّر بين الصين والهند أكبر مؤيدتين للحركة التي جاءت عقب مؤتمر باندونغ الذي آلف بين الدول الآسيوية والأفريقية وفقاً لمبادئ التعايش السلمي وسط جوٍ مُلبَّد بالمنافسات والاضطرابات وعمليات الاستقطاب للدول حديثة الاستقلال.

وظهرت حركة عدم الانحياز التي ارتبطت جذور النزاع بين الدولتين بتاريخها، كإحدى أهم الظواهر السياسية في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية.

لا تخرج المخاوف من النزاع الحالي المتجدد على الحدود بين الدولتين مما يتوجّس منه العالم، من اتساع النزاع بينهما، وما قد يحدثه أي تصادم أو توتر لا يمكن تهدئته مما قد يوصل الدولتين النوويتين إلى صراعٍ غير مأمون العواقب.  

حركة عدم الانحياز

عندما تأسَّست الحركة من 29 دولة، في بلغراد عام 1961، بحضور 25 دولة مستقلة حديثاً، كان هدفها التخلُّص من تبعية إحدى الكتلتين العظميين: الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها، والاتحاد السوفياتي وحلفائه، بالابتعاد عن سياسات الحرب الباردة، وإحداث التنمية الاقتصادية، والتعاون الثقافي والالتزامات بمقررات مؤتمر باندونغ، ووضع حدٍّ للاستعمار ليس بالاستقلال الاسمي بحسب ما كثر الجدل آنذاك حول مفهوم الاستقلال الحقيقي.

ووصلت دول عدم الانحياز إلى ما يفيد بأنَّ الاستعمار الذي يتحتَّم مكافحته هو الاستعمار الغربي، أما ما يفرضه الاتحاد السوفياتي أو حلفاؤه عليها من محاولات الاستقطاب فلا يمكن اعتباره تحكُّم أو شيء شبيه بالاستعمار الغربي ولا يمكن مقارنته به.

جوهر الصراع

تعود أسباب النزاع الحدودي بين الهند والصين إلى تاريخٍ بعيدٍ ومتشابك بدأ منذ استقلال الهند عام 1947 وتطور إلى نزاعٍ عام 1960 بين جيش التحرير الشعبي والجيش الهندي احتلت على إثره الصين بعض المواقع المتنازع عليها، بعد أن آوت الهند الزعيم الروحي للتيبت الدالاي لاما عام 1959 بعد قمع الحكومة الصينية لمقاومة التيبت.  

ومن ثم تحول النزاع إلى حربٍ وصلت ذروتها عام 1962 واندلعت اشتباكات مسلحة بين قوات الطرفين، وتطورت إلى حرب شاملة بينهما في 10 أكتوبر (تشرين الأول) 1962.

وعلى الرغم من أن الصين حققت الانتصار على القوات الهندية، واستولت على مناطق تابعة للهند، إلا أنها لم تُفلح في حسم الخلاف الحدودي لصالحها، إذ ظلت مسألة رسم الحدود بين البلدين مختلفاً عليها، وموضع توتُّر بينهما.

 في هذه الحرب، وُضعت حركة عدم الانحياز في موقفٍ حُكم عليها بعدم مقدرتها على حل الأزمة، إذ لم تتحرك سوى ست دولٍ بمبادرة من مصر دعت فيه إلى انسحاب الصين غير المشروط  من الأراضي الهندية.

ولكن هذا الموقف لم يلزم الحركة بشيء، كما لم يؤثر تأثيراً مباشراً في سير النزاع. وفي أواسط التسعينيات اتفقت الدولتان على اتخاذ إجراءاتٍ لبناء الثقة.

تغيَّر الأمر في عام 2003 بقيام الهند بالاعتراف رسمياً بمنطقة الحكم الذاتي في التيبت كجزءٍ من الدولة الصينية، وفي عام 2005 وقع اتفاق تسوية الخلاف الحدودي.

وفي هذا الاتفاق لم تغب نظرة كل بلدٍ إلى نفسه باعتباره المركز الحضاري لمنطقة شرق آسيا، ما يبيّن أن جوهر الصراع مبنيٌّ على استراتيجية تتجاوز حدودهما إلى أهداف وطموحات تمتد إلى ما وراء ذلك.

مناخ النزاع

لا ينفصل الاشتباك الذي حدث في يونيو (حزيران) الماضي في المنطقة الحدودية المتنازع عليها أصلاً في جبال الهيمالايا عن كل ذلك، فعندما وجَّهت الصين إلى الهند باسم وزارة خارجيتها اتهاماً بالقيام بـما سُميَّ بالاستفزاز المُتعمَّد، لم يكن ذلك هو الأول من نوعه.

وعندما قال رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي "إن الحدود الهندية مؤمَّنة ولم تعبرها أي قواتٍ أجنبية، ولم يحصل أي اختراق للحدود أو ضياع للأراضي".

ومن ثم عادت وألقت باللوم على الصين في الاشتباك، فهو يضع في الاعتبار أنه على الرغم من بعض ما تتساوى فيه الدولتان من مصادر القوة إلا أن تفوُّق الصين يضع الهند في موقع المتردد في الدفاع عن سيادتها التي تحدَّث عنها مودي، إلا باستنفار دولي مشكوك في تحققه في مثل هذه الظروف. وتبدو الاشتباكات مقلقةً بالنظر إلى التغيُّر في حسابات هذه الدول بناءً على ما حولها من تغيرات.

 يبدو النزاع الحدودي بين الصين والهند نموذجاً من نماذج النزاعات في ظل تحولات يمكن ترجمتها بأنها نابعة من أن الدولتين جابهتا عدداً من التحولات في الأحلاف وأهدافها.

علاوة على أن المناخ الدولي الذي حدث فيه النزاع، لم يتح المجال للتنبؤ بمدى مقدرة القوى الدولية على احتوائه في إطاره الآسيوي، والحد من تبعاته وعدم تصعيده على الصعيد الأمني الاستراتيجي لأن الدولتين بسباقهما التسليحي يمكن أن تساهما في اشتعال المنطقة وتضرر هذه القوى.

من هذا المنظور، تتمحور الإشكالية الرئيسة حول الكيفية التي تمكنت بها الدولتان من زيادة التسليح وتهديد دول الجوار والمصالح الدولية وتحويل مواردهما الاقتصادية على الانفاق العسكري وإفقار شعوبهما، مما يعني بوادر ثورات داخلية.

وهذا ما أضعف فاعلية الحلول المطروحة على استحياء ومحاولات بعض الدول تخفيف حدة الصراع. وتبدو النوايا غير ملائمة لمقتضيات المرحلة بفعل التحولات التى تشهدها البيئة الدولية والإقليمية بما يحول دون تفعيل حلول حقيقية أو مدى فاعليتها لهذه الإشكاليات، وفق الصيغ المعروفة دولياً بالوساطات وغيرها.

تحديات محيطة

مهما بلغ حجم المخاوف الدولية من هذا النزاع الذي ينصب على كون الصين والهند قوتين نوويتين، وتضمان أكبر عدد سكان، وكونهما من أكبر اقتصادات العالم، فإن المخاوف المتبادلة بينهما تجعلهما يعملان على احتواء كل مواطن التوتر والنزاع، خصوصاً أن البلدين أصبحا الأقرب إلى تحقيق توازن متكافئ. فلم تعد كفة الصين مرجحة تماماً – على رغم التفوق الملحوظ - مثلما كانت في الستينيات من القرن الماضي، فقد عملت الهند على تطوير البنية التحتية على الحدود، كما قامت بتحالفات إقليمية ودولية. وهذا الأمر تتشكَّل من خلاله مناوشات الدولتين على تخوم حدودهما أو في بؤر تابعة لهما، الصين في هونغ كونغ وتايوان والتيبت وشينغيانغ، والهند مع باكستان ونيبال.

يمثّل التحدي الأكبر الذي تواجهه الصين والهند في نزاعهما سيادة بعض المخاوف المتعلِّقة بالناحية الاستراتيجية، إذ تتبارى الدولتان في تطوير قدرات سلاح البحرية حتى تبوأ سلاح البحرية الصيني، المرتبة الثالثة من بين الأسلحة البحرية في العالم.

أما التحدي الآخر هو مواجهة قضية إزالة خطر التهديد النووي، إذ يمثِّل وضع حد للتسابق النووي، قضية مركزية عالمية لما تشكله من تهديدٍ للسلم العالمي.

وزاد من خطر المواجهات الأمنية سعي بعض الدول النامية للحصول على هذه الأسلحة، لكثرة خلافاتها ونزاعاتها، التي قد تؤدي إلى استخدام هذه الأسلحة في الصراع المسلح.

ونجد التحدي المحيط بالدولتين هو محاولتهما كلٌّ على حدة تجاوز صعوبة التعامل مع نظام أحادي القطبية، وقد تعودتا في ما سبق على الصراع في ظل نظامٍ ثنائي القطبية حتى وجدتا نفسيهما جزءاً من الحرب الباردة التي كانت محصورة بين القوتين العظميين مع أوروبا وأجزاء من شرق آسيا والتي كانت المسارح الرئيسة لصراعهما، قبل أن تتمدَّد إلى العالم الثالث في السبعينيات.

فقد تمتعت الهند بدعم أميركا باعتبارها دولة ديمقراطية ومهمة للاستراتيجية الأميركية ضد الصين، ويمكن أن تحدث توازناً مع الصين في شرق آسيا، فضلاً عن التقارب الحديث بين ترمب ومودي.

لكن هذا الدعم يثير من ناحيةٍ أخرى باكستان حليفة الولايات المتحدة التي تحاول أن تخلق منها توازناً مع إيران. ومن ثم أيدت الهند رؤية أميركا في بحر الصين للحركة الملاحية التي تقف الصين في وجهها، فضلاً عن حرص أميركا على عزل الصين وتحجيم توسعها التجاري والاقتصادي.

اعتبارات إقليمية

ربما تذهب الهند وفقاً للموقف الأميركي في ما اعتزمت عليه بمنع الشركات الصينية من سوقها الواسعة، وبدأت ذلك بحظر تطبيقات لأسباب عزتها لأمن البيانات.

ولكن ربما لن يكون ذلك مفيداً على المدى الطويل نظراً إلى موقف الهند الضعيف إزاء الصين، إذ تبلغ ميزانية الصين العسكرية ثلاثة أضعاف ميزانية الهند، في حين أن ناتجها المحلي الإجمالي أكبر من الهند بما يقرب خمسة أضعاف.

وهذا ما يمكن وصفه بأنه على الرغم من سعي الهند بتعزيز قوتها الاقتصادية، إلا أنها تظل أقل مقارنةً بالصين. ويعود ذلك إلى أن السياسة الأميركية ظلت متبنية الأهداف ذاتها التي كانت تسير عليها إبان الحرب الباردة على الرغم من زوال الخطر السوفياتي. لكن في الوقت ذاته اضطرت لأن تضع الاعتبارات الإقليمية الأمنية في موضع الاهتمام بفتح ممرات بحرية آمنة لأساطيلها بمشاركة دول المنطقة في العبء الاقتصادي واللوجيستي، وهذا يجعلها تحافظ على نفوذها ومصالحها من دون خسارة ومن دون التدخل المباشر ما لم تُسفر النزاعات عن ضرر مباشر لمصالحها.

المزيد من تحلیل