واجهات المحال دائماً ما تمثل حلقة وصل بين البائع والمشتري، فهي لا تعرض الجديد والمثير فقط، لكنها تغازل أهواء المارة وتدغدغ رغباتهم الشرائية، لكن تظل محتويات الواجهة تجسيدا لما يحبه المجتمع، ورامزة فعلية للذوق السائد والثقافة المهيمنة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الأزياء والمجتمع
هيمنة الألوان، وسيطرة الموديلات، وبسط نفوذ الموضات الموجودة في واجهات المحال الملابس النسائية أمور أعمق بكثير من مجرد مصمم أزياء يجلس في مكان ما في العاصمة الفرنسية، أو دار أزياء عالمية تبتكر وتخترع في بقعة ما في ميلانو الإيطالية. إنها هيمنة ذات أبعاد اجتماعية، وسيطرة لا تخلو من إسقاطات دينية. ملابس النساء في مصر، ممثلة عبر واجهات محال وسط القاهرة وفي عهود لاحقة، تقول الكثير عما جرى لنساء مصر على مدار ما يزيد على نصف قرن.
هذه المجريات لا تتعلق بالانتقال المؤسف من الملابس القطنية إلى الألياف الصناعية، أو بالتحول من خطوط بالغة الأنوثة إلى أخرى غارقة في الرجولة، أو حتى بالانجراف وراء ملابس أكثر عملية ومواءمة لروح العصر، لكن جانباً منها يتعلق برياح التأثير، وقوى التغيير، وأيادي التحويل.
فوضى الأزياء المعاصرة
مصطفى فهيم، البالغ من 82 عاماً، كان يمتلك محلاً صغيراً لبيع الملابس النسائية في منطقة العتبة بوسط القاهرة، يقول: "إنه أحياناً يجد صعوبة في تصديق ما ترتديه نساء وفتيات هذه الأيام. كانت محتويات المحل في الخمسينيات مبهجة تدعو إلى الفرح والتفاؤل؛ الألوان متنوعة، الموديلات ناعمة، التصميمات مميزة ذات طابع أنثوي. اليوم أنظر من شرفتي لأجد سمك لبن تمر هندي".
الفوضى التي وصفها البائع كبير السن بـ" سمك لبن تمر هندي" تشير إلى المد الثقافي المصحوب بأثر اجتماعي مغلفين بهوية تبحث عن نفسها. يقول فهيم إن الطفرة الكبيرة التي طرأت على ملابس النساء في خمسينيات القرن الماضي لم تكن مصرية، لكنها كانت عصرية تناسب التغيرات التي بدأت تطرأ على المجتمع في عهد الرئيس الراجل جمال عبد الناصر.
المرأة كيان كامل
أضاف: "عهد عبد الناصر دفع المرأة المصرية لتصبح كيانًا كاملاً وغير تابع. فبدءاً بالتعليم المدرسي والجامعي المجاني، مروراً بالحقوق السياسية، وانتهاءً بمظهر المرأة الذي تحول ليعكس ثقة في النفس بعيداً عن فكرة الحريم والتوابع".
يرى فهيم أن "الفساتين المزركشة، والتصميمات التي لا تخجل من كون المرأة امرأة، كانت تزين واجهات المحل، وتشبه المزاج العام في المجتمع الذي بدأ يتقبل المرأة كواحد صحيح لا يضطر إلى الحجب والمنع والتقبيح لحماية الرجل من جمال المرأة".
ثورة 23 يوليو بالفعل أكسبت نساء مصر مكاسب انعكست إيجاباً على التعليم والصحة والعمل والمجتمع. تقول الحقوقية ورئيس المركز المصري لحقوق المرأة المحامية نهاد أبو القمصان: "إن ثورة يوليو أحدثت نقلة كبرى في حياة نساء مصر. فمن حق المرأة في التعليم الذي فتحت الثورة أبوابه أمام النساء، والتعليم المجاني الذي مكن شابات مصر من الالتحاق بالجامعة، إلى حقوق المرأة السياسية، إلى نزول المرأة سوق العمل وتقلدها مناصب شأنها شأن الرجل، هو ما أفاد الطبقة المتوسطة التي بزغت وانتعشت في هذا الزمن".
زمن انتعاش الطبقة المتوسطة انعكس على واجهات محال ملابس النساء في وسط القاهرة انعكاساً واضحاً منذ منتصف الخمسينيات مروراً بالستينيات وجانب من السبعينيات. لكن بقاء الحال من المحال، وبقاء واجهات المحال على حالها تحول إلى هباء.
السبعينيات ورياح التغيير
معالم عدة من الثقافة والهوية المصرية ذهبت هباءً بدءاً من سبعينيات القرن الماضي. سياسة الانفتاح التي انتهجها الرئيس الراحل أنور السادات ألقت بظلال التغيير والتغريب في المجتمع المصري برمته، وواجهات محال ملابس النساء خير ما يمثل التغيير.
الكاتب المصري ياسر حماية يقول في مقال له منشور في جريدة الأهرام: "بحلول السبعينيات، ومع "انفتاح" المجتمع المصري على ثقافات أخرى، وملامح ثورة المجتمع على قيم مجتمعية موروثة، ظهرت أزياء منقولة حرفياً من الغرب".
الراصد لواجهات محال وسط القاهرة في السبعينيات ومن ثم أزياء النساء والفتيات، يلاحظ أن تغيرات عديدة طرأت، فاتسعت بنطلونات عرفت في حينها باسم "شرلستون" أو "رجل الفيل"، وقصرت فساتين، واتسعت فتحات الصدر، لكنه كان انفتاحاً هشاً قصيراً فتح الباب أمام مقايضة قصيرة المدى لم تدم إلا قليلاً.
قلة الثقة في معنى الملابس، ورمزية الأزياء، وفرط التمسك بالاستهلاك، والانجراف وراء الثقافات العابرة للحدود والناقلة لعادات وتقاليد لا علاقة لها بالمكان والزمان، فهي عوامل تسللت آثارها إلى واجهات محال الملابس منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي.
سباق الثمانينيات
بداية ثمانينيات القرن الماضي أدت إلى تيارين يقفان على طرفي نقيض لملابس النساء. موجات الهجرة الاقتصادية إلى دول الخليج بحثاً عن رواتب مجزية، وفرص حياة أفضل، وعودة المهاجرين في إجازات أو بعد انتهاء التعاقدات حاملين أموالاً وفيرة وأجهزة كهربائية كبيرة وثقافة وتقاليد دخيلة.
دخلت واجهات محال ملابس النساء في وسط القاهرة مرحلة متفردة في الثمانينيات. يقول صاحب محل الملابس المتقاعد مصطفى فهيم: "في منتصف الثمانينيات وجدت نفسي مضطراً لقسم المحل إلى قسمين: الأول ملابس محافظة من فساتين طويلة وفضفاضة وبنطلونات أشبه بالملابس الشعبية الباكستانية، والثاني ملابس نسائية عادية وإن استشعرت إنها النهاية. الواجهة على اليمين حملت معالم وملامح الثقافة والأفكار الواردة من الخليج، والواجهة على اليسار حملت أطلال الثقافة والأفكار التي هي خليط من مكتسبات سياسية واجتماعية مضافاً إليها بعضا من الثقافات الغربية".
وبين العربية والغربية، تأرجحت واجهات محال الملابس النسائية. يقول الكاتب والسينمائي والمهتم برصد التحولات المجتمعية عن طريق الملابس والأثاث حسام علوان: "فكرة الهجرة الاقتصادية غيرت مفاهيم المجتمع عن نفسه اقتصادياً واجتماعياً. هذه التحولات انعكست بشكل واضح على ملابس النساء التي كانت تباع في المحال، حيث ظهرت خطوط الأزياء المنتشرة في دول الخليج، وهي أزياء تعكس الثقافة والعادات والتقاليد هناك. وتحولت الملابس ذات الطابع الخليجي إلى تريند في مصر".
ترند ملابس النساء في الثمانينيات والتسعينيات لم يكتف بالتأثر بملابس الخليجيات فقط، لكنه تواكب كذلك وبزوغ نجم جماعات الإسلام السياسي في داخل الجامعات، وعدد كبير من الأحياء لاسيما في القاهرة والمدن الكبرى.
تغيير المسار
تقول أستاذة الأمراض الباطنة الدكتور هالة كامل: "وقتما بدأت عملي كمعيدة في كلية طب جامعة عين شمس لم أكن أرتدي الحجاب. ولاحظتُ أن عددًا من زميلاتي يتقربن إلي، وبدأت عمليه النصح الممنهج والمنظم لأغطي شعري. وبالفعل اقتنعت وارتدين غطاءً للرأس، لكنه لم يكن كافياً بالنسبة لهن".
تضيف: "دعتني زميلة للتسوق معها بحجة شراء بعض الملابس لها، وبالفعل ذهبنا معاً لمحل تعجبت من واجهاته ومحتوياته في البداية. وعرفت فيما بعد إنه لا يبيع إلا ملابس المحجبات. أعجبتني عباءات في الواجهة، ولاحظت أن أسعارها رخيصة جداً، فتشجعت على الشراء. وكم كانت فرحتي حين فوجئت أن المحل يقدم عرضاً سخياً، حيث الحصول على عباءة إضافية مع كل عباءتين ومعها خمار".
تتابع كامل: "إنها وضعت الخمار في الكيس البلاستيكي مع العباءات لمجرد أنها كانت هدية مجانية، لكن ما هي إلا أسابيع قليلة، حتى وجدت نفسي أرتدي الخمار بني اللون بدلاً من غطاء الرأس البسيط المزركش الذي كنت أرتديه. وامتلأت خزانة ملابسي بكم هائل من الخمار والعباءات بعدها".
خطب دينية بالمجان
يقول علوان: "إن فترة الثمانينيات والتسعينيات شهدت ظاهرة توزيع شرائط الكاسيت بالمجان على سائقي سيارات الميكروباص والمواصلات العامة، والتي كان جانب كبير منها ينذر بالتهديد والوعيد للجميع في حال لم تلتزم النساء والفتيات بتغيير نمط ملابسهن، بل تطور الأمر وتسلل من بين صفوف المواطنين مواطنات يأخذن بيد "الأخوات" إلى محال ملابس بعينها تبيع ملابس النساء، وهي الملابس التي تحولت إلى صناعة منتعشة وتجارة رائجة".
يتابع علوان: "رواج تجارة ملابس المحجبات ثم المنتقبات عكست تغيير نمط المجتمع برمته، والذي ظهر بشكل واضح وصريح وسريع في ملابس النساء. المسألة لم تتوقف فقط عند حدود اقتباس ثقافات وخطوط أزياء فقط، لكن التغيرات الاقتصادية وزيادة نسب الفقراء ساعدت على تجذير وترسيخ منمط جديد في ملابس النساء. فمن جهة هناك من أذعن لأفكار دينية بعينها فارتدين العباءات ومستلزماتها من خمار ونقاب، وهناك من أذعن لضغوط الفقر، فاخترن العباءات للتخلص من دواعي تنويع الملابس اليومية التي تستلزم استنزافاً لجيوب مستنزفة أصلاً".
الجيوب المستنزفة لا تعني التوقف عن الشراء. كما أن محال ملابس النساء وجدت نفسها تسير تدريجياً نحو هاوية الكساد، إن لم تغير نمط الواجهات ونوعية الملابس المعروضة. يقول علوان: "المجتمع أصبح مختلطاً جداً في التسعينيات ومطلع الألفينيات بدرجة مبالغ فيها. لم تعد هناك مرجعية بعينها، أو خطاً ملحوظاً في الأزياء، بل باتت المسألة سمك لبن تمر هندي".
عباءات، بدل رقص، خمار، ملابس نوم، أزياء محجبات، أقمشة كاشفة فاضحة مع غطاء رأس لزوم القبول المجتمعي، جينز مقطوع وتحته بطانة، تي شيرت مكتوب عليها "آي آم سكسي" وتحتها ملابس أشبه ببدل الغطس مع إيشارب كاشف لنصف الشعر، فساتين سواريه موديلاتها الأصلية تكشف الكثير مع تي شيرت ضاغط على الحجاب الحاجز والقفص الصدري بلون الجسم لتبدو وكأنها غير موجودة، كل ذلك وأكثر موزع بالحق والمستحق على واجهات ملابس النساء في محال وسط القاهرة في العام الـ19 من الألفية الثالثة، لتكشف عن نمط التغيير الذي أصاب المجتمع.