على مدى العقدين الماضيين، اتّبع النظام الإيراني سياسة حصر التعامل والتعاطي مع الملفات التي تمثل امتداده في منطقة غرب آسيا وتحديداً في الشرق الأوسط، بدائرة واحدة، هي قيادة فيلق القدس في قوات حرس الثورة الإسلامية وتحديداً بشخص الجنرال قاسم سليماني الذي تولى المهمة منذ عام 1997، من دون أن يكون للدوائر الأخرى أي معرفة تفصيلية بما يخطط له وما يرسم من أدوار ومهمات للقوى المتحالفة أو التي أنشأتها هذه القوة (قوة القدس) في أي من الدول التي تدخل في إطار نشاطها، وتشكل عمقاً إستراتيجياً في محيط إيران الحيوي.
وكانت الإدارة السياسية والدبلوماسية شبه مكلّفة بأن تبني سياساتها ومواقفها بناء على ما تقدمه قيادة العمليات الخارجية في قوة القدس لها وأن تعمل على ترجمة ما يجري في الإقليم في التعامل الإيراني مع المجتمع الدولي، وقد حرص المرشد الأعلى للنظام وقيادة هذه القوة بشخص سليماني على أن تقدّم الحد الأدنى من المعلومات والمعطيات للإدارة السياسية، بغضّ النظر عن الشخص الذي يكون على رأسها، بما لا يتعارض مع الخطوط العامة للإستراتيجية الإيرانية في الإقليم، بحيث لا يجعل منها شريكة حقيقية في رسم المواقف والسياسات الإقليمية، وما عليها سوى توظيف ما يقدّم لها من معطيات وتطورات في إطار تعزيز موقع طهران على خريطة السياسات الدولية وتحسين الشروط التي تسمح بالحد من الضغوط الدولية في ملفات أخرى، خصوصاً الملف النووي الذي يحتل الأهمية الأعلى في سلم المصالح القومية للنظام.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في المقابل، وانطلاقاً من الخصم الأساس، وبحسب قراءة القيادة الإيرانية، الذي تواجهه في منطقة غرب آسيا، ليس سوى الولايات المتحدة الأميركية ومخططاتها التي تريد إخراج طهران من المعادلة الإقليمية، من هنا، وأمام تضييق الدائرة المعنية بالمواجهة الإيرانية الأميركية الإقليمية داخل النظام، واقتصارها على دوائر محددة لا تشمل الحكومة وإداراتها، فإن الإدارة الأميركية تبدو بكل دوائرها ومؤسساتها معنية في وضع الإستراتيجيات التطبيقية والتفصيلية للخطوط العامة التي تبنتها أو يتبناها البيت الأبيض والرئيس كإستراتيجية لمواجهة النظام الإيراني وامتداداته الإقليمية ومخططاته والحد من نفوذه وإمساكه بقرار المنطقة.
وعليه، فمن الطبيعي أن تشترك وزارت الخزانة والتجارة والخارجية والدفاع والأمن القومي ومختلف إدارات الدولة في وضع الخطط والتفتيش عن أبواب تسمح بتطبيق إستراتيجية الحصار الاقتصادي وخنق النظام، بحيث يكون مجبراً على العودة إلى طاولة المفاوضات من دون شروط مسبقة من الطرفين، لكن من دون التخلي عن الخطوات التي سبق أن اتّخذت في فرض العقوبات.
ولا شكّ في أن قرار دونالد ترمب إعطاء الضوء الأخضر لتنفيذ عملية اغتيال قائد قوة القدس سليماني لحظة إلى دخوله الأراضي العراقية، شكل استهدافاً مباشراً وقاسياً لرأس المشروع الإيراني في الإقليم، وإخراجاً للحلقة الأساس في رسم السياسات الإيرانية في المنطقة، وهو قرار جاء في اللحظة التي وصلت فيها الأمور بين واشنطن وطهران إلى مستويات غير مسبوقة من الصراع واللعب خارج قواعد الاشتباك التي كانت قائمة بين الطرفين في طول الإقليم، والتي كانت تشكل مظلة تحمي سليماني وحركته بين عواصم النفوذ الإيراني، وتضمن بالمقابل المصالح الأميركية منذ عام 2003 وما بعد خصوصاً، بعد عام 2011 وقرار الانسحاب الأميركي من العراق وصولاً حتى عام 2018 والاستفراد الإيراني في تركيب الحكومة العراقية وتنصيب عادل عبد المهدي رئيساً للوزراء ضمن معادلة ثلاثية الانتصار الإيراني على حساب الخسارة الأميركية في تركيب ترويكا الرئاسات في هذا البلد.
وشكل تعاطي طهران مع الساحة العراقية ومحاولة الاستفراد بهذه الساحة من دون الأخذ في الاعتبار مصالح ودور القوى الأخرى المعنية بما يحدث من تطورات تمسّ مصالحها الإستراتيجية، إذ سعت بعد تنصيب عبد المهدي على رأس السلطة التنفيذية إلى فرض معادلة جديدة تقوم على غلبة إيرانية على حساب الدور والشراكة الأميركية بعدما كانت تتأرجح بين "عراق إيراني بشراكة أميركية" أو "عراق أميركي بشراكة إيرانية"، هذا الانتقال لتكريس معادلة "العراق الإيراني" بالتزامن مع الاستخفاف بالتحوّل الحاصل في مواقف واشنطن مع إدارة ترمب، شكّل استفزازاً مباشراً للإدارة الأميركية التي تعاملت مع الدور الإيراني على مبدأ "المساكنة" خلال السنوات الماضية، وأن المرحلة لا بدّ أن تنتقل إلى استثمار التراكم الذي قامت به هذه الإدارة على مدى السنوات الماضية من إدارة ترمب، وتوظيفه في فرض معادلات جديدة وعدم الاكتفاء بالعودة إلى المعادلات والتوازنات السابقة، وبالتالي فإن حجم الضغوط التي تمارسها الإدارة الأميركية على إيران وشركائها في العراق والمنطقة، لن يتراجع أو يتقلص ما لم تتمّ ترجمتها بخطوات عملية في إطار الإستراتيجية والأهداف التي وضعتها هذه الإدارة نتيجة كل السياسات التي اتخذتها، من ضمنها سياسة الخروج من الاتفاق النووي والعودة إلى فرض العقوبات القاسية والخانقة، وصولاً إلى محاصرة "رأس الجسر" في المحور الإيراني في المنطقة بعد دخول قانون "قيصر" على النظام السوري حيّز التنفيذي، والذي تطال تداعياته الحليف اللبناني للنظامين السوري والإيراني "حزب الله".
من هنا قد تستدعي المرحلة المقبلة من القيادة الإيرانية الذهاب إلى خيار التعامل مع ملفات الإقليم بواقعية سياسية من أجل الحدّ من خسائرها، وأن تذهب إلى مزيد من التشاركية بين مؤسسات الدولة والنظام، وأن تعيد النظر في أسلوب تعاطيها مع ساحات نفوذها، خصوصاً الساحة العراقية التي أجبرتها التطورات التي شهدتها بغداد على أن تتعايش مع خيار وصول رئيس الوزراء الجديد مصطفى الكاظمي، وتتساكن معه بما يعنيه ذلك من تراجع تأثيرها في مسار الأحداث وتساقط الأطراف التي كانت تراهن عليها في الدفع بسياساتها على هذه الساحة، حيث بات من الصعب الحديث عن وجود حلفاء مخلصين لها.