كان من المفترض، وفقاً لإعلان القاهرة، أن تكون الساعة السادسة صباح الإثنين 8 يونيو(حزيران) هي ساعة بدء وقف إطلاق النار بين الأطراف المتصارعة في ليبيا، وهو ما لم يحدث. استمرت حكومة الوفاق في التقدم العسكري غرباً، وتحديداً نحو مدينة سرت، وقام الجيش الوطني الليبي بتدمير سرية مدفعية تابعة لحكومة الوفاق وهي في طريقها إلى المدينة. وبالتالي، لم تتمكن المبادرة المصرية من فرض وقف إطلاق النار نظراً للانتقادات التي طالتها من الغرب الليبي، سواء من حكومة الوفاق، التي أعلن وزير داخليتها إنها عازمة على التقدم لتحرير كل مدن المنطقة الغربية، أو من الإعلام الذي لم يكن داعماً فكرة التدخل المصري في المقام الأول، على الرغم من أنه تدخل سياسي وليس عسكرياً.
الغالبية ممن يتابعون الشأن الليبي عن كثب توقعوا عدم نجاح المبادرة المصرية في إرساء حالة من الهدنة بين الأطراف في الداخل الليبي، بخاصة أن الحيز الزمني بين إعلان القاهرة وموعد تطبيق وقف إطلاق النار لم يتعدَّ الـ 48 ساعة. ولكن بعيداً من الوقت المتاح، المشكلة الحقيقية تكمن في الرفض الصريح من قبل حكومة الوفاق الوطني بقيادة فايز السراج، ورفض حليفها الأكبر، تركيا، توقيت ومحتوى المبادرة المصرية، وهو ما انعكس في الإصرار على استمرار العمل العسكري في الداخل الليبي. وبات التساؤل الآن مطروحاً حول إمكانية نجاح المبادرة لحل الصراع في ليبيا بعد الفشل في تطبيق أول مطالبها وهو وقف إطلاق النار؟
عامل التوقيت
لم تكن مصر موفقة في اختيار توقيت فرض وقف إطلاق النار عندما أعلنت عن مبادرتها يوم السبت 6 يونيو(حزيران)، ولكنها ككل، جاءت كنوع من الرد السياسي على التوغل التركي في ليبيا، بخاصة في ظل صمت المجتمع الدولي إزاء ما ترتكبه أنقرة من مخالفات. فلم يكن منطقياً أن تطلب القاهرة من خلال المبادرة وقف إطلاق النار خلال فترة زمنية قصيرة، وهذا يعني أن هناك خطأ فنياً في صياغتها، لكنه لا يعني فشلها في حد ذاتها، بخاصة بعد التأييد الدولي التي حصلت عليه. ولكن منح هذا الحيّز الزمني الضيّق يدل على شيء من إثنين، إما أن مصر كانت تسعى إلى إرسال رسالة إلى تركيا تعبّر عن التواجد المصري في المسألة الليبية، أو أنها لم تكن على دراية بصعوبات التوصل إلى توافق بين الأطراف المتنازعة فيها. والحل الثاني بعيد المنال، إذ إن المسألة الليبية شديدة الحساسية للأمن القومي المصري، وهو ما يجعل مصر على دراية بما يحدث في إنحاء ليبيا على مستويات سياسية، عسكرية، اجتماعية، وقبلية. وبالتالي، بات ممكناً أن ننظر إلى إعلان القاهرة على أنه رد فعل سياسي منها أكثر من كونه رؤية إستراتيجية لإنهاء الصراع.
حكومة الوفاق الوطني
يظل النجاح الحقيقي لإعلان القاهرة عالقاً بقبول الطرف الآخر بنوده، وهو حكومة الوفاق الوطني، أو الغرب الليبي ككل بما يحمل من مؤسسات سياسية، وقوى ميدانية، ورأي عام. المؤسسات السياسية في غرب ليبيا، سواء المجلس الرئاسي وحكومة الوفاق بقيادة فايز السراج، أو مجلس الدولة بقيادة خالد المشري، متحالفة بشكل كامل مع تركيا، والتي لها توجه معاد لعدد من بنود المبادرة المصرية، كما أن لها موقفاً شديد السلبية من خليفة حفتر القائد العام للجيش الوطني الليبي. وبالتالي، لم تقم حكومة الوفاق الوطني بالتعبير عن أي نوع من أنواع الدعم لإعلان القاهرة، بل أعلنت عن استمرارها في محاولات التقدم العسكري للسيطرة كلياً على منطقة الغرب الليبي. هنا يجب أن نتسائل، هل حكومة الوفاق الوطني راغبة في الدخول في جولة جديدة من المفاوضات؟ وهل ما أتى في إعلان القاهرة من بنود، من الممكن أن يجعل حكومة الوفاق جزءاً من الحل السياسي في المرحلة المقبلة وفقاً للإطار العام لهذا الإعلان؟
الإجابة عن هذه التساؤلات تكمن في حقيقة لا يمكن إنكارها، وهي أن صناعة القرار السياسي في غرب ليبيا لا تأتي من حكومة الوفاق منفردة، بل يمر من خلال الفاعلين الداعمين لها. في وقت ما، كان هؤلاء الفاعلون يتلخصّون في إيطاليا، ولكن في الوقت الحالي، من غير الممكن صناعة قرار سياسي في الغرب الليبي من دون استشارة أنقرة أولاً. والرؤية التركية في ما يتعلق بالشأن الليبي في الوقت الحالي قائمة على ضرورة تحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب العسكرية قبل الدخول في جولة جديدة من المفاوضات، وهو هدف يحتاج إلى حيّز زمنيّ لم تتقدم به المبادرة المصرية. وفي ظل تعارض الرؤى المصرية والتركية، سيكون من الصعب تفعيل إعلان القاهرة على أرض الواقع، بخاصة من الناحية السياسية، حيث تستمد المؤسسات السياسية في غرب ليبيا في الوقت الحالي شرعيتها من التقدم العسكري الذي تدعمه وتخطط له أنقرة.
الرأي العام في غرب ليبيا يبدو رافضاً، وبشدة، فكرة التدخل المصري في شأنهم، وهو موقف فيه الكثير من الانحياز السياسي، ولذا السؤال يطرح نفسه، لماذا قبول التدخل التركي ورفض الدور المصري؟ والإجابة تكمن في حقيقة أن هناك الكثير من الخلافات بين النخب السياسية في غرب ليبيا، وبين توجهات وسياسات القاهرة تحت قيادة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي. التيار الإسلامي له الكلمة العليا سياسياً في غرب ليبيا، ويعلم أن القاهرة غير مرحبة بالتعاون معه وفقاً لسياساتها ومواقفها خلال السنوات الست الأخيرة، وبالتالي، فهو لا يريد أن تكون مصر في موقع قيادة مبادرة دولية جديدة معنية بالتسوية السياسية، حيث يرى التيار أنها تسعى إلى إقصاء الإسلام السياسي من المنطقة ككل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
القوى الميدانية والعسكرية على الأرض في غرب ليبيا بالطبع ليست متحمسة للمبادرة المصرية. وهي لا تعرف استقراراً مؤسسياً، وتحولت خلال السنوات الماضية من فجر ليبيا إلى البنيان المرصوص، وحالياً إلى عملية بركان الغضب، وبالتالي هي قوات ليس لها موقع مؤسسي داخل الدولة، ولكنها تشكيلات عسكرية تتحد مع بعضها بعضاً وفقاً للظرف السياسي. هي قوات عسكرية تتلقى مرتبات من الدولة من خلال حكومة الوفاق، ولكن ليس لها مكان معروف في الهيكل البيروقراطي للدولة. لذا، من الطبيعي أن ترفض تلك القوات المطالب المصرية بوقف إطلاق النار، بخاصة أن استمرار أهميتها يعتمد على اشتعال السجال العسكري وليس على تهدئته.
المجتمع الدولي
لاقت المبادرة المصرية، او إعلان القاهرة، الكثير من الدعم من قبل المجتمع الدولي، بخاصة من الولايات المتحدة، وروسيا، وفرنسا، وهم من الدول الأكثر فاعلية في المسألة الليبية على المستوى الدولي. وبالطبع من غير الممكن رفض مبادرة، كإعلان القاهرة، تسعى إلى خروج ليبيا من أزمة الانقسام من خلال حلٍ سياسيّ، لكن السؤال الذي بات ضرورياً هو، كيف يمكن المجتمع الدولي الضغط على الأطراف الليبية للقبول ببنود المبادرة، أو بالتسوية السياسية وفقاً لإطار تقوم بصياغته هذه الأطراف؟ دور المجتمع الدولي في المرحلة الحلية لم يعد يقتصر على الدعم أو الرفض لمبادرات الحل السياسي، ولكن بات من الضروري ممارسة كل الضغوط الممكنة على كل القوى المتصارعة داخل ليبيا لتبني إطاراً يهدف لإرساء الحل.
قد يكون الحل لتلك المعضلة في اجتماع جديد في القاهرة، يضم ممثلين عن كل دولة من الدول التي أعلنت موافقتها على بنود المبادرة المصرية. ويجب أن تضع كل دولة ما لديها من نفوذ في خدمة حل سياسي، وعلى رأسها دول الجوار. وأن تستضيف مصر اجتماعات لآلية دول جوار ليبيا، وهو ما فعلته من قبل، لكن مع كل من الجزائر وتونس. في ظل الخلاف السياسي والتصعيد العسكري، تحتاج القاهرة آلية تشمل كل دول الجوار بلا استثناء لمحاولة تطبيق فعلي لما جاء في إعلانها. مصر، الجزائر، تونس، السودان، تشاد، والنيجر، ويكون بينها كيان ممثل عن موقفها تجاه الأمة الليبية كونها مع ليبيا في علاقة حدودية. وفي حال تمكنت القاهرة من صناعة تلك الآلية، سيعد ذلك انتصاراً جديداً للسياسة الخارجية لها في الملف الليبي ومنطقة شمال أفريقيا ككل.
مستقبل إعلان القاهرة
المبادرة المصرية فشلت في أول الاختبارات، وهو فرض وقف إطلاق النار، ولكنها تظل المبادرة السياسية الأكثر حظوظاً في الوقت الحالي في ما يتعلق بالصراع الليبي. في ظل حالة الركود التي تمر بها منظمات المجتمع الدولي بعد تفشي وباء كورونا، وتُعد مصر الدولة التي سبقت بطرح مبادرة للحد من السجال العسكري في هذه الأزمة. هناك بعض القصور الفني في بنود إعلان القاهرة، بخاصة في ما يتعلق بالمهلة الزمنية المتاحة قبل وقف إطلاق النار، ولكنها مبادرة فيها الكثير من الفائدة ويتعين على القاهرة الاستمرار في الضغط على الأطراف المعنية في المجتمع الدولي للترويج لها، ومحاولة بلورتها على أرض الواقع.