حسين عبد الرحيم صوت متميز سواء على مستوى السرد القصصى والروائي، وهو ينتمى إلى موجة الكتابة التسعينية، أصدر روايته الأولى "عربة تجرها خيول" عام 2000 وتلتها مجموعة "المغيب" عام2002، ثم تتابعت أعماله الروائية والقصصية.
أما الجديد الذي يمكن أن نراه بوضوح في مجموعته الأخيرة "الخريف الأخير لعيسى الدباغ" (دار بدائل/ القاهرة) فهو ذلك التناص أو لنقل التجاوب مع رواية "السمان والخريف" لنجيب محفوظ من خلال شخصية بطلها "عيسى الدباغ". إن تنادي النصوص وتداخلها ظاهرة ملحوظة في الأدب الحديث شعراً ونثراً، والتداخل هنا ليس قاصراً - بطبيعة الحال- على التصريح بشخصية "عيسى الدباغ" في العنوان وشخصية "ريري" في الإهداء، بل يمتد هذا التداخل إلى مجمل - أو أغلب - قصص المجموعة. فنحن - مع عيسى الدباغ- أمام شخصية في أخريات أيامها أو في خريفها الأخير بعد أن كان لها دورها الفاعل قبل ثورة 23 يوليو (تموز) 1952 في مصر، إلى أن ينتهي بها الأمر إلى الإحساس بالفراغ واللاجدوى.
مدينة العالم
الخريف - هنا- لا يعني البعد الزمني فحسب بل يعني خريف الوجود بمستوياته المختلفة، ووصف الخريف بالأخير يعني - بداهة - وجود أكثر من خريف وهذا ما نجده – صراحة – فى مصائر أغلب شخصيات المجموعة في دلالة واضحة على أن التناص هو تناص حالات يتجاوز مستوى التناص الأسلوبي الشائع. يتخذ حسين عبد الرحيم من عيسى الدباغ رمزاً كبيراً تنطوي تحته – أو تتماهى معه – شخصيات مجموعته القصصية؛ ما يجعل "السمان والخريف" نصاً غائباً حاضراً، يلقي بظلاله على المجموعة ويوجه وعينا في تلقيها. لكن الأمر يتجاوز الرواية إلى عالم الإسكندرية كله، ففي الإهداء نجد: "ليل البحر وإسكندرية الهوى ونجيب محفوظ ثم إدوار الخراط وإبراهيم عبد المجيد اللذين تمثل الإسكندرية متناً رئيساً في أعمالهما، ثم حسام الدين مصطفى مخرج الفيلم المأخوذ عن الرواية". الإسكندرية هي العالم، كما تقول إحدى الشخصيات، أو هي رمز المدينة العالمية التي تجمع جنوب "المتوسط" وشماله بأجناسهما في وحدة إنسانية جامعة. هكذا حلم بها الإسكندر، وهكذا ظلت وفيَّة في تحقيق هذا الحلم حتى عقود قريبة نسبياً. هناك إحساس دائم ممض بفوات الزمن. شخصيات في أواخر العقد السادس تعيش في عزلة أقرب إلى "السجن"، بينما يضج الخارج بالحياة. هذه العزلة أو الغربة لا تفارق الشخصية حتى وهي في قلب "مدينة العالم"؛ الإسكندرية. ففي "تراب ساخن"، نقرأ: "عندما توقف القطار في سيدي جابر، شعرتُ بغربة ما. غربة لم تحدث لي من قبل في مدينة العالم. غربة تسكنك لأول وهلة فتندهش وأنت الهارب من عاصمة الغبار والبلادة إلى هوى سكندريتي التي ترحب بكل الغرباء" صـ42. في بحث سابق، قسمتُ الاغتراب إلى ثلاثة أنماط: الاغتراب المكاني والاغتراب النفسي والاغتراب الروحي.
وفي تصوري أن السطور السابقة تندرج تحت نمط الاغتراب النفسي، فالمكان ليس طارداً أو معادياً للذات، بما يعني أن هذا الإحساس بالاغتراب نابع من تراكمات نفسية نتيجة الإحساس بمرور الزمن أو انفلاته وهو ما ترتب عليه اختلاط الحقيقة بالحلم. فبطل "الصيف الأخير" يبدو دائماً "حلمه حقيقة وحقائقه تشبه الأحلام". واختلاط الليل والنهار في وعي بطل "رقيب رمزي" الذي "كان يعمل بالبحر ودائماً ما يغني للقمر، ولذا فهو دائم الإنصات لوشيش ما في أذنه جعله لا يفرق بين الليل والنهار". وفي مقابل الإسكندرية بمعالمها الشهيرة وأجوائها المفتوحة نجد الأماكن المغلقة كأنها مجاز مرسل في الدلالة على أصحابها. ففي القصة الأولى "حسن كبريت"، يبدو البطل كما لو كان سجيناً حيث "أنصَت لعل أذنه تلمس حفيفاً أو همساً خلف كوة في منتصف الباب الزان المغلق بالشراعة الحديد". واللافت أن وعي هذه الشخصية المنكفئة على ذاتها يتحرك عبر الأزمنة والأمكنة التي مر بها كما يخترقه العالم الخارجي عبر تلفاز؛ "مفتوح على قناة غربية تتحدث عن ثورات وموجات أخرى من الغضب". إنه يعيش وهم العزلة بدون أن يتمكن من الهروب من العالم الخارجي بأحداثه الضخمة على المستوى العام وأحداثه الصغيرة الحميمة على المستوى الشخصي. فالطَرق الذي يمثل إلحاح العالم الخارجي يزيد على الباب بينما هو يضحك دلالة على عدم الاكتراث، و"يخطو ببطء داخل شقته يبصر صور أصحابه القدامى وتابلوهاً مُذهباً لأمه".
تحوّل السرد
هكذا يظل جدل الداخل والخارج فاعلاً على مدار المجموعة كلها والحياة في الماضي تجعل من تكرار فعل التذكر وما يقع في دائرته، أمراً وارداً، من قبيل: "ذاكرته صور لأحياء في مدن عبر فيها ومنها"، و"تذكَّر أنه مشى في شوارعها كثيراً قبل ثلاثين عاماً". والزمن دائماً ما يأتي محدداً، لا عاماً، فالماضي هو الأكثر حضوراً في وعي السارد، سواء على مستوى الزمان أو المكان، ولأنه زمن نفسي كما ذكرتُ، فمن الممكن للذات التحكم فيه وطرح تصوراتها عليه. في قصة "السيرة" يوظف الراوي الكهل تقنية الاسترجاع متأثراً بإيقاعات تتابع الصور السينمائية حين نقرأ: "صرتُ لتوي صغيراً رغم عصيان الزمن. إنني الطفل المهاجر في البراري هناك". إن الذات تلجأ إلى ماضيها البعيد كما تلجأ إلى الأماكن المغلقة التي تتوهم فيها العزلة بسبب "الرهاب المميت من الأماكن المفتوحة"، والحياة في "الماضي"، لا تعني الحنين إليه أو الرغبة في استعادته، فلسنا أمام نوستالجيا أو ملاذ نفسي يصبح فيه الماضي بيت الذات، فهو ماض يحمل ذكريات العنف الذي يمثله ذلك الأب الذي يقدمه الراوي بقوله: "كان فقيراً عفياً، أفقدني الذاكرة يوماً دون أن يقصد. دعاني للاندفاع لأسابق الأيام عندما دفعني ببوز حذائه في رأسي ".
ومن المهم أن نلاحظ تطور الحدث واتساعه من مجرد فعل اعتيادي إلى عالم من الأشباح والشياطين ممثلة عقدة الذات التي لا تنحل والتي ظلت ملازمة لها. وهكذا توالت على الذات فوبيا الأماكن المفتوحة وفوبيا الموت، ففي قصة "الطلقة" يأتي هاجس الموت داخل المسجد. إنه لا يخشى الموت في ذاته بل ما يترتب عليه: "ماذا لو سقط... مات الآن؟ تزداد هواجسه. كيف سيتصرفون ها هنا؟ وماذا يفعلون بجثته إن مات غريباً؟". وتبدأ قصة "خريف" هكذا: "كل ما يخشاه هو أن يموت في هذه اللحظة بين العدم والحياة".
وأعتقد أن ثيمة "مخاطبة القمر" المتكررة تمثل رغبة في تجاوز هذا الواقع المقبض. ففي "رقيب رمزي"، يقف ذلك الغريب الذي أصبح حديث النساء، "منتصب الياقة وعينه للسطوح مخاطباً قمراً مخفياً في محيطنا منذ أن سكنا على أطراف المدينة". هناك في السرد القصصي نوعان من النهايات: المغلقة التي تنتهي بحل عقدة السرد والمفتوحة على احتمالات متعددة والمتروكة لخيال القارىء، لكنني لاحظتُ في قصة "عم يمني في شارع السراي"، ما يمكن أن نسميه النهاية المبتورة التي توقف حركة السرد فجأة، فالسارد يبحث عن شقة المخرج حسام الدين مصطفى مستعيناً بما تبقى في ذاكرته فيجيبه "عم يمني": "دلوقتي ساكن هنا ساندرا نشأت بتاعة ملاكي إسكندرية وإن كنت عايز تسجل معايا لفيلمك تعالالي بدري في أي يوم ماعدا...". ثم ينقطع السرد فجأة على الصورة السابقة من دون إشباع لفضول القارىء وكأن هم الكاتب هو رصد التغيرات التي طرأت على الشخصيات والمكان من دون التزام بالحبكة السردية التقليدية.